ليس هناك شك في أن الحديث عن السينما المصرية، التي كانت لعقود طويلة جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية المصرية والعربية، يُعد بمثابة حديث عن فن عظيم كان -يومًا ما- يتصدر المشهد الثقافي والفني في العالم العربي. لقد ارتبطت السينما المصرية بوجدان الأمة، وعكست مشاعر الجماهير وأحلامهم في مصر وخارجها. ولمدة طويلة، كانت السينما المصرية تُشكل روح الثقافة العربية، وتُعبر عن آمال وتطلعات الجمهور العربي في الخليج، والمغرب العربي، وفي كل مكان.


لكن، هل يمكننا اليوم أن نقول إن السينما المصرية ما زالت تحتفظ بذلك البريق؟  
إني لا أرى ذلك. بل أعتقد، ولعلّي أكون على صواب في هذا الاعتقاد، أن السينما المصرية قد تراجعت بعض الشيء، ليس بسبب ضعف في المواهب، وليس لأنها باتت عاجزة عن إنتاج أعمال فنية تليق بتاريخها المجيد، ولكن لأسباب تتعلق بالتغيرات التي طرأت على السوق السينمائي والفني في العقود الأخيرة. فكثيرٌ منها، للأسف، قد انحصر في قالبٍ تجاري بحت، باحثًا عن الربح السريع دون أي اهتمامٍ حقيقي بجوهر الفن أو رسالة السينما الراقية. هذا الانحسار داخل دائرة الأفلام التجارية أدى إلى نتائج لا يُمكن إنكارها، وأول هذه النتائج هو ابتعاد الأفلام عن روح الإبداع والتجديد التي كانت، يومًا، سببًا في جعل السينما المصرية منارة للفن في العالم العربي. لكنني لا أقول هذا من باب التحسّر أو التشكيك في قدرات صناع السينما المصرية، بقدر ما أراه تحليل لحالة انحراف في مسار هذه الصناعة.

لقد أصبح من المألوف في كثير من الأفلام الحديثة أن نرى حبكاتٍ هزيلة لا ترقى إلى مستوى ما كان يُقدم في العقود الماضية، حيث تعتمد على الإثارة الرخيصة أو الكوميديا السطحية التي تستند إلى مواقف مصطنعة لا تخرج من الحياة الحقيقية، بل تُفتعل من أجل إضحاك الجماهير بسهولة ويسر. ويبدو أن منتجي هذه الأفلام قد وقعوا في فخ الاعتقاد بأن الجمهور لا يبحث إلا عن الترفيه السريع، ولا يطلب إلا الهروب من الواقع. ومن هنا، رأينا كيف أن الكلمة أصبحت تافهة، والمشهد صار مبتذلاً، والشخصيات غدت نمطية لا تُثير فضول ولا تُحرّك فكرًا.

ولا يُخفى على أحد أن هذا السعي وراء الربح السريع قد أدى إلى هبوط الذوق العام. فإذا كان المنتج لا يهتم إلا بملء جيوبه، وإذا كان المخرج لا يُعنى إلا بتنفيذ ما يُملى عليه دون أن يترك بصمته الفنية، وإذا كان الممثلون لا يبحثون إلا عن الشهرة السهلة من خلال تكرار الشخصيات النمطية، فإن السينما، حينئذ، تفقد وظيفتها الحقيقية كوسيلة للارتقاء بالذوق وإثراء الخيال ونقل المتفرج إلى عالم أرحب من الأفكار والمشاعر.

لقد نسيت هذه الأفلام، أو تناست، أن السينما ليست مجرد وسيلة للترفيه الساذج، بل هي فن سامٍ يُعنى بتقديم قضايا الإنسان الكبرى، وتحليل النفس البشرية في أدق تفاصيلها، والتعبير عن آمال وآلام المجتمع. أما حين تتحول السينما إلى مجرد وسيلة لتسلية عابرة، فإنها تفقد معناها، وتصبح أداة هابطة لا تقدم شيئًا سوى مزيد من الانحطاط الثقافي.

ولعلنا نسأل أنفسنا هنا: أين تلك الأفلام التي كانت تُناقش قضايا المجتمع الحقيقية؟ أين الأفلام التي كانت تُعالج مشكلات الفقر، أو التعليم، أو الصراع الطبقي، أو معاناة المرأة؟ بل أين تلك الأفلام التي كانت تُقدم لنا شخصيات إنسانية حية، يمكن أن نراها في حياتنا اليومية، لا شخصيات كرتونية مضحكة تتلاعب بها الأحداث الهزلية دون منطق؟  

أين أفلام مثل "الأرض"، "الكرنك"، أو "باب الحديد" التي كانت تترك بصمة في النفس لا تُمحي بسهولة؟ وأين تلك الأعمال العظيمة التي خلدت في وجدان الأمة، مثل "العزيمة"، ذاك الفيلم الذي جسّد صراع الإنسان مع الحياة، مع الفقر، ومع الظلم، وأين "دعاء الكروان"، الذي تناول بعمق قضية المرأة والصراع بين الحب والشرف، هذا الفيلم الذي رسم بطبقاته الفنية والتراجيدية صورة إنسانية عميقة نادرًا ما نجد لها نظيرًا اليوم... لن ننسى أفلامًا مثل "الناصر صلاح الدين" التي لم تكن مجرد أعمال سينمائية بل كانت في الحقيقة تجارب فنية جمعت بين الرسالة العميقة والتقنيات السينمائية المبدعة.

لقد كانت تلك الأفلام، سواء التي صنعت في زمن الأبيض والأسود أو التي جاءت بعد دخول الألوان إلى السينما، شاهدةً على تطور وعي السينمائيين المصريين بقدرة الفن على تناول القضايا الاجتماعية والتاريخية والسياسية بأسلوب راقٍ ومبدع. أفلام مثل "شيء من الخوف" و"الزوجة الثانية"، التي تناولت قضايا الظلم الاجتماعي، كانت أعمالًا سينمائية حملت هموم الناس، وغاصت بجرأة في معاناة البسطاء والمظلومين. أين نجد اليوم مثل هذا الإقدام في معالجة القضايا؟ أين نجد تلك القوة في التعبير عن الألم والأمل؟ 

إن هذه الأعمال ما زالت خالدة في ذاكرتنا ... فمن المستحيل مثلاً نسيان المشاعر التي أثارها فيلم "بين الأطلال" فينا. ذلك العمل الذي عبّر عن عمق الفقدان والحب المأساوي، أو "أم العروسة" الذي حمل هموم الأسرة المصرية -بكل تفاصيلها- الدقيقة. حتى الأعمال الكوميدية، كأفلام إسماعيل ياسين، كانت تتضمن رسائل اجتماعية وإنسانية لا تفتقر إلى العمق، وإن جاءت في قالب ساخر. فمثلاً، فيلم 'إسماعيل ياسين في الجيش' يعالج أهمية الخدمة الوطنية والتجنيد، بينما تناول 'إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين' مسألة الفوارق الطبقية والسعي إلى العدالة الاجتماعية، أما 'إسماعيل ياسين في الأسطول" فقد سلط الضوء على قيمة العمل الجماعي وروح التعاون بين أفراد المجتمع بصورة غير مباشرة. إن هذه الأفلام، كانت تحرص على تقديم محتوى فني يترك أثرًا في النفوس، يطرح تساؤلات، ويُحرك العقول. فهي لم تكن مجرد قصص تُروى، بل كانت رسائل فنية تُكتب بالحوار والمشهد والموسيقى، وتُعبّر عن واقع الإنسان المصري ومعاناته وأحلامه.

لكن إذا نظرنا اليوم إلى ما تقدمه السينما المصرية في كثير من الأحيان، نجد أنها للأسف قد ابتعدت عن تلك المعايير الفنية الرفيعة. الأفلام التي تُنتج الآن، في الغالب، تُخاطب "الأنا البدائية" أكثر مما تُخاطب العقل المستنير المتطور، وتُلهي الجمهور عن مشاكله الاجتماعية الحقيقية بدلًا من أن تُعالجها. وفي حين كانت الأفلام القديمة تعكس واقع الشعب وتُناقش قضاياه، نجد الأفلام الحديثة تبتعد عن هذا الهمّ الاجتماعي والنفسي، وتغرق في سطحية مُستهلكة لا تترك في ذهن المشاهد أي أثر.. فأثرها ينتهي مع تتر النهاية!

إن الأمر يستدعي منا وقفة تأمل حقيقية، لنُعيد النظر في مسار السينما المصرية، ونتساءل: هل نستطيع أن نعيد لتلك الأفلام مجدها؟ وهل نستطيع أن ننتج أعمالًا سينمائية تحمل ذات الروح، وتجمع بين الجمال الفني والرسالة الهادفة؟ أم أننا سنبقى نتأمل في ماضينا المجيد بينما تتقدم صناعات سينمائية أخرى بخطوات ثابتة نحو المستقبل؟

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: السینما المصریة إسماعیل یاسین الأفلام التی تلک الأفلام التی کانت ت ا الیوم أعمال ا

إقرأ أيضاً:

كريمة أبو العينين تكتب: قتل الزهور لا يمنع دخول الربيع!!

يقولون إنه فى سالف العصر والزمان كان يعيش رجلا عرف عنه الحكمة والذكاء والصبر ، هذا الرجل طلب من الخالق سبحانه أن يمد فى عمره  الى أقصى الدرجات وأن يظل بعافيته ولا يهرم أبدًا . ويقولون أن الله استجاب لدعائه وعاش من العمر ما جعله يظل يشاهد ويرى الكثير والكثير من الاحداث والعبر ؛ وجاء عليه اليوم الذى أصبح فيه وحيدا ، فقد مات كل أهله ، وبلدته وعالمه الذى نشأ فيه . 

هذا الرجل خرج من تجربته الحياتية بحكمة كان يقصها دوما على كل مرافقيه ويقولها فى بداية ونهاية كل حديث له وهى أن اجتثاث الزهور من أوانيها لن يمنع دخول الربيع ، ويحكى ويبرهن على مقولته بحقائق شهدها تاريخه الطويل من بينها مافعله التتار فى المنطقة العربية ، ومن القتل والخراب والدمار ، كل ذلك لم يمنع من وجود زعيم استطاع ان يقضى على التتار ويوقف بربريتهم ضد الآمنين فى منطقتنا المغضوب عليها من الغرب  الطامعين دوما فيها ، وفى سلب خيراتها . اجتثاث الزهور واقتلاعها من جذورها ، هو الذى خلق زعيما  أوقف الصليبيين واسترد بيت المقدس من براثن الغرب القاتل السارق لخيرات منطقة الشرق الاوسط. التاريخ وشيخنا الكريم يقصون علينا مايؤكد ذلك ، فاحتلال اسرائيل لسيناء لسنوات طويلة لم يكن الا قوة أعطيت لمصر ولزعيمها الراحل محمد انور السادات بأن يحاربوا ابنة أمريكا الشرعية اسرائيل ، وتنتصر عليها مصر فى حرب أكتوبر المجيدة وتجبرها جبرا على الدخول فى محادثات سلام وتعيد اليها كافة الاراضى المصرية المحتلة ، وكان آخرها طابا ، اخر بقعة مصرية تطهرت من نجس المحتل وعربدته . 

اجتثاث الزهور العربية فى العراق ، وسوريا ، واليمن وليبيا ، وانتهاك سيادة هذه الدول ودخول القوات الانجلو امريكية فيها وسلب أقوات شعوبها بزعم نشر الديمقراطية ؛ كل هذا لم يمنع اطلاقا من اصرار ابناء هذه الدول على البقاء والبناء ، ومواجهة الغطرسة الانجلو امريكية والتى تخدم بصفة رئيسة الكيان المحتل الاسرائيلى . كل مامضى شىء ومايجري فى قطاع غزة شيئا أخر ؛ فبعد عام من الابادة والقتل الممنهج ، ومحاولة تصفية فلسطين ارضا وشعبا وتاريخا ، وربما دينا ايضا ، فعلى مدى اكثر من عام عربدت اسرائيل بدعم امريكى وامداد غربى موصول ، وهيمنة اعلامية دولية،  عربدت فى غزة واجتثت زهورها اليانعة اليافعة وقتلت امهات هذه الزهور وزجت بالالاف من الشباب والنساء والاطفال فى غياهب السجون والاعتقالات ، لم تترك اسرائيل ذنبا الا فعلته فى غزة والضفة المحتلة ، ولكن هل نجح ذلك الغباء السياسى فى وقف عجلة الحياة واستمرار المقاومة ؟ هل حققت دولة إسرائيل اهدافها من حربها على قطاع غزة ؟ هل دافعت إسرائيل عن نفسها وحققت الامن المزعوم لشعبها المختار كما يدعون ؟ هل نجحت إسرائيل فى اقناع العالم بأنها مظلومة وانها تعرضت لهجوم من حماس فى السابع من اكتوبر من العام الماضي قتل فيه واصيب اكثر من الف برىء يعيشون فى مستوطنات وان شئت الدقة مستعمرات ،مغتصبات ، من الاراضى الفلسطينية ؟ هل مواصلة اسرائيل فى حربها سيمنع حلم المقاومة بالمواصلة وتقديم كل نفيس وغالى  من اجل الوطن الام فلسطين ؛ التى اغتصبت أمام أعين القريب والبعيد وكل مافعله القريب بأنه طالبها بألا تصرخ وهى تغتصب حتى لايسمع الناس صراخها ويعرفون أنها تغتصب ؛ لانه كان يجب عليها ان تغتصب وهى صامتة حتى لاتهبن اخوانها الجيران بخذلانهم لها ليصدق بذلك ماقاله الشاعر مظفر النواب رحمه الله " أتصمت مغتصبة " .. مايحدث فى غزة لم يمنع ظهور نبت فدائي يحمل سلاحه البدائى فى وجه اعتى النظم العسكرية المتقدمة ويجبرها على ماهم عليه الان،  من مرحلة هل يستطيعون النفاذ من جدار العقيدة والايمان بالجهاد فى سبيل الله !! فالعدو الصهيونى أمام مأزق حقيقى لايعرف كيف يخرج منه فقوته لم  تحقق له القضاء على حماس ولا استعادة اسراه من قبضة حماس ، الغباء العسكرى الاسرائيلى كان خط مرور اخضر للمقاومة بان يجعلها تكشف للعالم كله مدى جبروت وانتهاك الاحتلال لكافة القيم الانسانية والتشريعات الدولية ، فقد صدرت حماس العالم اجمع مفهوم انهم مقاومين يدافعون عن ارضهم من المحتل الذى اوهم العالم منذ اكثر من سبعة عقود بأنه صاحب حق وانه محاط بمجموعة من الدول تريد الانقضاض عليه وفناءه ، اجتثاث براعم فلسطين ونساءها وشبابها وشيوخها لم ولن يمنع من ربيع منتظر أصبحت رياحه تركم الانوف وتبشر بالخير وتمحى ماقالته جولدا مائير رئيسة الوزراء الاسرائيلية السابقة التى قالت واكدت مرارا وتكرارا انها تنصح بنى جلدتها ومن سيأتى بعدها بأن يعملون على اضعاف المنطقة وجعلها مذعنة على قبول مبدأ الأمر الواقع والتخلى عن استعمال القوة ضد إسرائيل.قطع الورد والزهر لن يمنع من بزوغ شمس ربيعية تزهر فيها قوة رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر،  ومن بينهم شيخنا الذى اصبح الان يطلب من الخالق الا يستجيب لمطلبه بعمر طويل لأنه زهد العيش فى عالم غير أصيل ..

مقالات مشابهة

  • شيخة الجابري تكتب: معك يا لبنان محبة ومساندة
  • ثروت سويلم: لا يمكن إبعاد "القامات" عن إدارة الكرة المصرية.. وقرعة الدوري بعد السوبر
  • وزير دفاع الإحتلال: حزب الله يمتلك أقل من ثلث الصواريخ التي كانت بحوزته
  • ريهام العادلي تكتب: دور المرأة في تحقيق استراتيجية التنمية المستدامة 2030
  • "أبل" تتراجع عن خطط كبرى لطرح الأفلام في دور السينما
  • كريمة أبو العينين تكتب: قتل الزهور لا يمنع دخول الربيع!!
  • محمد راضي رائد السينما الوطنية وصانع ملاحم الحرب على الشاشة المصرية
  • أماكن عرض فيلم بنسيون دلال في السينما
  • السبت.. القومي للسينما يعرض أفلام "نص فيتو استغماية وغالي" بنادي السينما المستقلة