أرض العراق التي شهدت أقدم الحضارات، تغزل هيرودوتس في وفرة محاصيلها، وفي سمائها مرت سحابة الرشيد، التي خاطبها قائلا: أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك، وبلغت قيمة التعليم لدى البابليين أنهم اشترطوا في الموظف الحكومي العلم بالقراءة والكتابة.
من كان يصدق أن هذا البلد الذي يعد من أغنى دول العالم في الموارد الطبيعية، وكان إلى عهد قريب مقصد الراغبين في تكوين الثروات، ومهرب الباحثين عن الرزق من كل البلدان، من كان يصدق أنه في هذا العصر يموت مئات الآلاف من سكانه جوعا، ويبيع أساتذة جامعاته كتبهم في الطرقات إبان الاحتلال الأمريكي، وفقا لما سجله الإعلامي أحمد منصور كشاهد عيان في كتابه «قصة سقوط بغداد».
إن ما حدث للعراق ما هو إلا نموذج للمآلات الموجعة لعدد من بلدان أمتنا، جميعها تشابهت في جَلَدِ أعدائها على نهبها وإذلالها، وعجز ثقاتها عن حماية مقدراتها، فصارت أضْيعَ من الأيتام على مائدة اللئام.
وقد تعارفت طبائع البشر على أن كل أزمة لا بد أن يظهر خلالها أقوام يبشرون أنفسهم بطول سلامة من أثرها، ويتندرون على من طالهم أثرها، قالها من قبل أناس نافقوا بشأن من ماتوا في الأسفار والحروب (لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا).
وفي هذا العصر الذي صارت كل بقاعه مكشوفة بعد الثورة الهائلة في تكنولوجيا المعلومات وثورة الاتصالات، غدت أزمات أمتنا ماثلة أمام كل عين، لا تحتاج إلى جهد في الوقوف عليها، بلدان محتلة، ودماء تراق بغير حساب، وشعوب يتم تجويعها وتهجيرها وإسكانها الخيام، وفي كل أزمة تطل علينا تلك الفئة، التي تستبشر بطول السلامة، ويظن أهلها أنهم بعيدون عن الطوفان.
آخر محطات هذه الفئة كانت غزة التي أحرق العدو الصهيوني أخضرها ويابسها، وغدت كسرة الخبز لدى الآلاف من أبنائها تضاهي لدى غيرهم حلم امتلاك جزر المالديف، فماذا على الفلسطينيين لو عاشوا تحت جناح الإسرائيليين وتخلوا عن حلم دولتهم، مقابل أن يعيشوا في سلام ورغد من العيش كما نعيش نحن؟ لماذا لا يطوون صفحة الصراع ويغلقوا هذه القضية التي أكل الدهر عليها وشرب، وعجزت كل الأيادي والهمم عن حل إشكاليتها؟ نحمد الله أننا في منأى عن الحروب، وننعم في ديارنا بالأمن والأمان والرخاء، سنغلق علينا حدودنا لنتقلب في هذه النعم، وليذهب سوانا إلى الجحيم.
بهذا المنطق تعاملوا مع العدوان على غزة كغيرها من الأزمات، فغرقوا في أوهام السلام والسلامة والأمن والأمان، ونأوا عن الاعتبار بالتجارب القريبة والبعيدة، لم يكترثوا لحكمة الثور الأبيض، ولم يعبأوا بما استفاض في مناهجهم التعليمية مِنْ: تأبى الرماحُ إذا اجتمعنَ تكسّرا…وإذا اجتمعن تكسرت آحادا.
عندما تنشب النار في الدار المجاورة لدارك، ولم تبادر لإطفائها، ثم تغلق عليك دارك وتظن أنك بمأمن منها، فأنت حقا تعيش السلام وهما.
عندما تولي ظهرك لحقيقة أن الضباع لا يمكن لها أن ترعى مع الغنم، وتصدق أن عدوك الذي قتل أخاك سوف يكف يده عنك، فأنت تعيش السلام وهما.
عندما يتناهى إلى سمعك أن المجرم الذي قتل جارك وسرق بيته، يعتزم أن يقوم معك بالمثل، ثم تفتح له باب بيتك مغترا بابتسامته الصفراء، ويده المخضبة بالدماء التي تصافحك، فأنت تعيش السلام وهما.
كذلك عندما تُبنى سياسات البيت الأبيض على نظريات مثل نهاية التاريخ وصدام الحضارات ثم نلتمس لدى الأمريكيين الذين قتلوا وجوعوا وشردوا إخوتنا، أن يمدوا لنا مظلة الأمن، فنحن نعيش السلام وهما. عندما نرى لكل قوم مشروعا توسعيا نكون نحن فيه الضحية، ثم نصدق أن العالم يمكن له أن يعيش في وئام، ونصر على أن نكون شراذم متفرقين، فنحن نعيش السلام وهما.
عندما يفصح الصهاينة عن أطماعهم بكل وضوح، وأن دولتهم المنشودة من النيل إلى الفرات، ثم نحاول إقناع أنفسنا بأن الاحتلال لا يتجاوز الجغرافيا الفلسطينية إلى غيرها، فإننا مع هذا السفه والسخف والحماقة نعيش السلام وهما.
هذه المفاهيم عن السلام لا وجود لها إلا في مخيلاتنا التعسة فالسلام لا بد له من قوة تحميه
عندما تصبح الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمحاكم الدولية مؤسسات تخدم مصالح القوى العظمى، وأجهضت حقوق كثير من بلدان الأمة، ثم نرفع قضايانا إليها على أمل أن تنصفنا وتتحرك لرد حقوقنا إلينا، فإننا نعيش السلام وهما. مثل هذه المفاهيم عن السلام لا وجود لها إلا في مخيلاتنا التعسة، فالسلام لا بد له من قوة تحميه وتضمن تطبيقاته في الواقع، فما من دولة في أمتنا يمكن لها أن تنعم بالعيش الآمن وهي بمعزل عن قضايا الدول الأخرى، لا يمكن لها أن تعيش السلام واقعا حتى تنتظم مع أخواتها كبنيان مرصوص.
إنها مسألة وقت لا أكثر، من يظن أنه في منأى عن الطوفان ويعتصم بالأوهام التي تُصدر إليه فلن يجد وقتا حين وقوع الكارثة للتباكي، لن تنعم أي دولة بالأمن والسلام وهي تعزف منفردة وتغلق حدودها على أهلها.
إن كانت هذه البلدان تعول في الحماية على قوة الثروة، فإن ثرواتها هي المبتغى، سيجدون ألف وسيلة ووسيلة لاستنزافها تحت مسمى الحماية.
إن كان هذه البلدان تعول على بعدها عن بؤر الصراع، فإن النار عندما تلتهم مبدأ حقول الزيتون لن تخمد حتى تأتي على آخره. السلام الحقيقي هو سلام الشجعان لا سلام الحملان، السلام المبني على الندية لا الاستسلام، المبني على القناعة لا القبول بالأمر الواقع تحت ضغط السلاح، ولن نرى هذا السلام بهذا المعنى إلا إذا اتحدت الكلمة وتراصت الصفوف. الحياة موحشة، والعالم من حولنا بحر فيه السمك والحيتان، وهذا المجتمع الدولي الجائر سيصرخ إذا انقرضت الفيلة في افريقيا لكنه لن يأبه لجراحنا، سيذرف الدمع لانتحار الحيتان على سواحل نيوزيلندا لكنه لن يلقي بالا لمصائبنا، وقالها من قبل لبيب: ما حك جلدك مثل ظفرك، فتول أنت جميع أمرك.
وحتى نضع أنفسنا على هذا الطريق، فلا يسعنا إلا أن نتجرد في قضيتنا، ونضع المصالح العليا لأمتنا في ذروة الاهتمامات، ونتناسى المعارك الجانبية، والانتماءات الجزئية، والسجالات البينية، فأمامنا طريق طويل، لن يسلكه إلا أصحاب بنيان مرصوص، وأجساد اجتمعت على قلب رجل واحد.
ولئن كانت هذه الكلمات لن تصل إلى أسماع الأنظمة والحكام، لكنها أقرب إلى آذان الشعوب، التي لا بد أن تكون البداية منها، فلنطو صفحة الخلافات وندع نعرات الشعوبية ونحطم الحواجز النفسية التي تولدت من سايكس بيكو فليكن شعارنا التسامح في ما مضى بشعار (لا تثريب عليكم اليوم)، والتعاهد في ما بقي على شعار (ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، ونرفع راية (إن هذه أمتكم أمة واحدة)، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الاحتلال غزة غزة الاحتلال وهم السلام مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة تكنولوجيا رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تعیش السلام السلام لا یمکن له لها أن
إقرأ أيضاً:
شفيونتيك تتنازل عن لقب الدوحة بـ«العقدة»!
الدوحة (أ ف ب)
كرَّست اللاتفية ييلينا أوستابنكو تفوقها على البولندية إيجا شفيونتيك المصنفة ثانية عالمياً، عندما تغلبت عليها 6-3 و6-1، في نصف نهائي دورة الدوحة للألف نقطة في التنس، وجردتها من اللقب المُتوجة به في الأعوام الثلاثة الأخيرة.
وهو الفوز الخامس للاتفية البالغة من العمر 27 عاماً وبطلة رولان جاروس عام 2017، على شفيونتيك في خمس مواجهات بينهما حتى الآن، والأولى منذ مواجهتهما الأخيرة في سبتمبر 2023 في الدور الرابع لبطولة فلاشينج ميدوز.
وأوقفت أوستابنكو المصنفة 37 عالمياً والتي أطاحت بالتونسية أنس جابر من الدور ربع النهائي، الانتصارات المتتالية لشفيونتيك عند 17 في الدوحة، وتحديداً منذ عام 2022 (5 في 2022 و4 في 2023 و5 في 2024 و3 في 2025) وعند 18 في 20 خاضتها في هذه الدورة التي انتهى فيها مشوارها عند الدور الثاني في مشاركتها الأولى عام 2020 على يد الروسية سفيتلانا كوزنتسوفا.
توجت البولندية الفائزة بخمسة ألقاب كبرى، بينها أربعة في رولان جاروس، بعد ذلك بألقاب 2022 على حساب الإستونية آنيت كونتافيت، 2023، بفوزها في النهائي على الأميركية جيسيكا بيجولا، ثم 2024 على حساب ريباكينا.
كانت شفيونتيك الباغلة من العمر 23 عاماً تتطلع إلى أن تصبح أول لاعبة منذ عام 2011، والثانية فقط هذا القرن، تفوز بلقب إحدى دورات رابطة اللاعبات المحترفات أربع سنوات متتالية، بعد رباعية الدنماركية كارولين فوزنياكي في نيو هيفن الأميركية عامي 2008 و2011، لكن أوستابنكو حرمتها من ذلك، وتغلبت عليها في 69 دقيقة.
ولم يسبق لشفيونتيك التي شاب النصف الثاني من موسمها في 2024 فضيحة منشطات أدت إلى إيقافها لمدة شهر، أن تغلبت عليها لاعبة واحدة خمس مرات من قبل.
وهي المرة الثالثة التي تبلغ فيها أوستابنكو مباراة نهائية لإحدى دورات الألف نقطة في مسيرتها الاحترافية، وتبحث عن لقبها الأول على هذا المستوى، بعد أن خسرت في المحاولتين السابقتين في الدوحة 2016 وميامي 2018.
وقالت أوستابينكو التي ستواجه الأميركية أماندا أنيسيموفا أو الروسية إيكاترينا ألكسندروفا في المباراة النهائية السبت: «أشعر أن هذا الملعب يتمتع بطاقة خاصة وكان يساعدني دائماً، بدأ كل شيء بالنسبة لي على هذا الملعب (عندما وصلت إلى النهائي في عام 2016)».
وأضافت «عندما نزلت إلى الملعب اليوم، كنت واثقة من قدرتي على الفوز عليها، لأننا لعبنا الكثير من المباريات، وأنا أعرف كيف ألعب ضدها، كنت أركز فقط على نفسي، وأعرف ما يجب أن أفعله، أنا سعيدة حقاً بالطريقة التي أتعامل بها مع مشاعري هذا الأسبوع، وأنا سعيدة بالتأهل إلى النهائي».
وبفضل فوزها على آخر المصنفات الـ16 في الدوحة، وبعد يومين من إقصاء الإيطالية جازمين باوليني الرابعة عالمياً، نجحت أوستابينكو لأول مرة في مسيرتها في التغلب على لاعبتين من المصنفات الخمس الأوليات في دورة واحدة.
وضربت أوستابنكو بقوة في بداية المباراة، وكسرت إرسال شفيونتيك في الشوط الأول، قبل أن تفعلها للمرة الثانية في الشوط التاسع، وتنهي المجموعة الأولى في صالحها 6-3 في 34 دقيقة.
وتابعت اللاتفية أفضليتها في الثانية وكسرت إرسال البولندية في الشوطين الثاني والرابع وتقدمت 4-0، قبل أن ترد لها الأخيرة التحية للمرة الأولى في المباراة، عندما كسرت إرسالها في الشوط الخامس مقلصة الفارق إلى 1-4، لكن أوستابنكو ردت مباشرة متقدمة 5-1، قبل أن تكسب الشوط السابع، وتنهي المجموعة في مصلحتها 6-1 في 35 دقيقة.