د. إحسان الله عثمان

لطالما كانت الطيور رمزاً قويًا في الأدب، تتنقل بين السماوات الفسيحة، وتلامس مشاعر الإنسان بدلالاتها الغنية. ومن بين هذه الطيور تتمتع طيور النورس بمكانة خاصة في أدب المرافئ والرحيل حيث تتداخل رمزية هذه الطيور مع مشاهد البحر والسفر والمغادرة، لتجسد حالة الانتظار والبحث عن الأفق الجديد.

رمزية طيور النورس في الأدب

في العديد من النصوص الأدبية، تظهر طيور النورس كرمز للحرية والتنقل بين العوالم. فهي طيور تعيش بين السماء والماء، قادرة على التحليق فوق البحار المفتوحة أو الانزلاق بهدوء على سطح الماء بخفتها وعزلتها، ترمز إلى روح الإنسان الطموحة التي تتطلع دوماً نحو التحرر من قيود الأرض والبحث عن آفاق جديدة.

على مر العصور، ارتبطت طيور النورس بالرحيل الدائم. فهي زوار دائمون للمرافئ، تلك الأماكن التي يقف فيها البشر بين المغادرة والوصول. تراقب النورس السفن، وهي تأتي وتغادر، كما لو كانت شاهدًا صامتًا على مغامرات البشر ومرور الزمن وتغير الأحوال.

المرافئ كمساحة للانتظار

 

المرافئ، بطبيعتها، تمثل نقطة انتقالية في حياة الإنسان. فهي ليست الوجهة النهائية، بل مكان الانتظار بين مغادرة الحياة المعروفة واستكشاف العالم الجديد. في هذا السياق، تصبح طيور النورس جزءًا من هذا المشهد الانتقالي. تشكل مشاهد الطيور التي تحوم فوق المرافئ مزيجًا بين السكينة والتوتر، بين الاستعداد للرحيل والتردد.

في أدب الرحيل، تصبح طيور النورس رمزًا للحالة النفسية التي يمر بها المغادرون. فهي تعبر عن الرغبة في الطيران بعيدًا، وفي نفس الوقت تعبر عن الحزن الذي يصاحب الفراق. المرافئ هنا ليست مجرد أماكن جغرافية، بل هي مساحات ذهنية تنبض بمشاعر الانتظار والتساؤل عن المستقبل.

النورس في الشعر العربي والغربي

في الأدب العربي، استخدم الشعراء طيور النورس للتعبير عن الفراق والغربة. فعلى سبيل المثال، يرى البعض أن طيور النورس تمثل الشاعر نفسه، الذي يقف في منتصف الطريق بين العودة إلى أرضه أو التحليق نحو المجهول. كثيراً ما تكون هذه الطيور رمزية للحنين إلى الماضي والمقاومة ضد التيار المتلاطم من الأحداث والمشاعر.

أما في الأدب الغربي، فإن طيور النورس تظهر بشكل أكثر وضوحًا في أعمال الكتاب الذين يكتبون عن البحر والرحلات. قصصهم تتناول المغامرات البحرية وعلاقة الإنسان بالطبيعة، والمخاوف من المجهول. هناك، تكون طيور النورس تجسيدًا للحرية، ولكنها تحمل أيضًا نذيرًا بالخطر الذي قد يواجهه البحار في مغامرته.

طيور النورس وتجربة الرحيل

تجربة الرحيل ترتبط في الأدب عموما بالتحولات النفسية العميقة التي يعيشها الإنسان. فعملية الرحيل ليست مجرد انتقال جغرافي، بل هي حالة من التحول الذاتي من مرحلة إلى أخرى في حياته. هنا يأتي دور طيور النورس في أدب المرافئ والرحيل كرمز لهذه التحولات. فكما تحلق النورس فوق الأمواج التي لا تهدأ، فإن الروح البشرية تتنقل بين مشاعر الفقدان والبحث عن الذات. النورس لا يجد مأواه في مكان واحد، بل يعيش متنقلًا بين السماء والبحر مثل الرحّالة الذي لا يتوقف عن اكتشاف العالم.

إن رؤية طيور النورس تحوم حول السفن المغادرة أو العائدة تجسد تلك اللحظة الانتقالية التي يشعر فيها الشخص بأنه معلق بين عالمين: العالم الذي يتركه خلفه، والعالم الذي لا يزال في طور الاكتشاف. أن هذا التوتر بين الماضي والمستقبل يظهر بشكل واضح في أدب المرافئ، حيث يكون المكان مساحة حية للمغادرة والانتظار، والبحر هو البوابة التي تقود نحو المجهول.

طيور النورس والبحث عن الحرية

أدب الرحيل يرتبط في جوهره بفكرة الحرية. المغادرة غالبًا ما تكون نتيجة لرغبة عميقة في الانفصال عن قيود الواقع، في حين أن طيور النورس تظل رمزًا دائمًا لهذه الحرية المنشودة. فهي تحلق دون قيود، وتنتقل بين البر والبحر بحرية تامة، معبرة عن الإنسان الذي يسعى إلى التحرر من القيود الاجتماعية أو النفسية.

في النصوص الأدبية، نجد أن الطيور بشكل عام، وطيور النورس بشكل خاص، غالبًا ما ترمز إلى التوق إلى فضاءات أرحب. في بعض الأحيان، يمكن أن ترمز هذه الطيور إلى الأمل في حياة جديدة بعيدًا عن الضغوط والصراعات. وفي حالات أخرى، قد تكون هذه الحرية التي تسعى إليها النورس مؤقتة أو وهمية، حيث تعود إلى البر في نهاية المطاف، تمامًا كما يعود الإنسان إلى جذوره، حتى بعد فترات من الرحيل والانفصال.

الحزن والوحدة في صورة النورس

رغم أن النورس رمز للحرية، إلا أنه يرتبط أيضًا بمشاعر الوحدة والغربة. ففي الأدب، كثيرًا ما تظهر هذه الطيور في مشاهد غائمة، أو على شواطئ مهجورة، وكأنها تشارك البحر والسماء عزلة لا نهاية لها. ترمز النورس هنا إلى الجانب الحزين من الرحيل، الجانب الذي يواجه فيه الإنسان مشاعر الفقد والاغتراب. فكما أن الطيور تعيش بين عالمين، فإن الرحّالة يعيش أيضًا في حالة مستمرة من الانفصال بين العالم الذي يتركه والعالم الذي يذهب إليه.

هذه العزلة التي تعيشها طيور النورس، وسط البحار المفتوحة، تجعلها رمزًا مثاليًا للحظة التي يشعر فيها الإنسان بأنه فقد الاتصال بعالمه القديم، ولكنه لم يصل بعد إلى العالم الجديد. هذه الحالة بين الحضور والغياب، بين المغادرة والوصول، هي جزء أساسي من تجربة الرحيل، وتجعل النورس رمزًا قويًا لهذه الرحلة النفسية.

النورس والعودة إلى المرفأ

في بعض الأعمال الأدبية، تمثل طيور النورس الأمل في العودة. فهي كما تغادر المرافئ، تعود إليها في نهاية المطاف. تشبه هذه الدورة الطبيعية للطيور تلك الرحلات التي يقوم بها البشر، حيث يترك الإنسان منزله أو بلده سعيًا وراء المغامرة، ولكنه في النهاية يعود إلى المكان الذي بدأ منه. إن صورة النورس العائد إلى المرفأ تمثل هذه الفكرة بوضوح، فالعودة ليست مجرد نهاية للرحلة، بل هي بداية جديدة، حيث يتعلم الإنسان من تجربته، ويعيد تعريف علاقته بالمكان والزمان.

طيور النورس كرفيقة للإنسان في رحلته الوجودية

طيور النورس ليست مجرد عناصر طبيعية في مشهد البحر والمرفأ، بل هي تجسيد حي للرحلة البشرية التي تجمع بين الفراق والتوق، بين الحرية والوحدة. في أدب المرافئ والرحيل، تلعب هذه الطيور دورًا حيويًا في استكشاف تلك المشاعر المعقدة التي ترافق الإنسان في رحلاته الجسدية والروحية.

طيور النورس تقف على الحافة بين السماء والبحر، كما يقف الإنسان دائمًا على حافة الفراق واللقاء، المعلوم والمجهول. وهي بذلك تظل رفيقة الإنسان في رحلته، تعبر عن أعمق مشاعره وأكثرها تعقيدًا.

طيور النورس في أدب المرافئ والرحيل ليست مجرد طيور عابرة، بل هي رمز قوي للمغادرة والبحث عن الذات. تحمل معها دلالات تتراوح بين الأمل والقلق، بين الحرية والحزن. من خلال أجنحتها التي تلامس الأفق، تفتح أمامنا أبواب التساؤل حول معنى السفر والرحيل، وما تحمله لنا المرافئ من قصص لم تُروَ بعد.

الوسومد/ إحسان الله عثمان

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: العالم الذی طیور النورس هذه الطیور والبحث عن النورس فی لیست مجرد فی الأدب

إقرأ أيضاً:

«الاتحاد لحقوق الإنسان»: منظومة متكاملة لتحقيق أحلام ذوي التوحد في الإمارات

أبوظبي (الاتحاد)

أخبار ذات صلة مدير مبادرة «مديم» في «تنمية المجتمع» لـ«الاتحاد»: هدفنا تحقيق استراتيجية جودة حياة الأسرة برامج رعاية وتأهيل بمعايير عالمية لمصابي التوحد في أبوظبي

أكدت جمعية الاتحاد لحقوق الإنسان، أن دولة الإمارات توفّر منظومة متكاملة لتحقيق أحلام ذوي التوحد، سعياً لدمجهم ليصبحوا أفراداً فاعلين في المجتمع.
وقالت احتفاءً باليوم العالمي للتوعية بمرض التوحد، الذي يوافق 2 أبريل كل عام: إن السياسة الوطنية لذوي اضطراب التوحد، تهدف إلى تحسين جودة الخدمات الصحية والرعاية لمن يعانون اضطراب التوحد. وتركز السياسة على تسهيل دمجهم في التعليم العام والخاص، وضمان إشراكهم في مختلف المجالات.
ويبلغ عدد حالات حملة بطاقات أصحاب الهمم (فئة ذوي اضطراب التوحد) 3227 حالة في الدولة، منهم 1456 مواطنون، و1661 مقيمون، بإجمالي 2593 من الذكور، و634 من الإناث. وبلغ عدد مراكز أصحاب الهمم على مستوى الدولة نحو 95 مركزاً، منها 70 مركزاً متكاملاً، 61 منها يخدم التوحّد، بينما يبلغ عدد المراكز الحكومية (الاتحادية والمحلية) نحو 26 مركزاً.
واستفاد 20626 طفلاً (أعمار 16 - 30 شهراً) من برنامج الكشف المبكر لاضطراب طيف التوحد، خلال الفترة الممتدة من 2022 وحتى النصف الأول من 2023، وفق مؤسسة الإمارات للخدمات الصحية في دبي التي كشفت عن عدد مرضى التوحد الذين تم التعامل معهم في عام 2022 بلغ نحو 1093 حالة. وذكرت، أن دائرة الصحة - أبوظبي، أطلقت في ديسمبر 2024، مبادئ توجيهية لتحليل السلوك التطبيقي لاضطراب طيف التوحد (ABA)، ويتركز على تحقيق زيادة في السلوكيات الإيجابية، وانخفاض في السلوكيات السلبي، بما يتماشى مع الاستراتيجية الشاملة لأصحاب الهمم في أبوظبي 2020-2024.
وبيّنت، أن مؤسسة زايد العليا لأصحاب الهمم، أعلنت تقديم برامج رعاية وتأهيل بمعايير عالمية معتمدة لـ 462 من طلبة التوحد المسجلين في مراكزها للرعاية والتأهيل بأبوظبي في أبريل 2024. وفي هذا الإطار تم إطلاق (المجلة الدولية لتحديات وحلول التوحُّد) أول مجلة علمية محكَّمة في العالم العربي، متخصصة لمناقشة وتحليل موضوعات وقضايا أصحاب الهمم من فئة التوحد.
ولفتت إلى أن وزارة تمكين المجتمع، احتفلت بشهر التوعية بالتوحد، خلال أبريل 2024، من خلال تنظيم مراكز أصحاب الهمم، العديد من الفعاليات التي تستهدف الطلبة وأولياء الأمور والمعلمين، بمشاركة طلبة المدارس والمتخصصين للتعريف بحقوقهم والخدمات التأهيلية المقدمة لهم التي تساعد في دمجهم بشكل كامل وإيجابي والاستفادة من قدراتهم.

مقالات مشابهة

  • دراسة: هذه هي درجة الحرارة “القاتلة”!
  • مفوض حقوق الإنسان يدين الهجوم الإسرائيلي على سيارات إسعاف في غزة
  • مشرعون أمريكيون يهددون الأمم المتحدة بعقوبات في حال التحقيق مع إسرائيل
  • «الاتحاد لحقوق الإنسان»: منظومة متكاملة لتحقيق أحلام ذوي التوحد في الإمارات
  • رصد اقتران “القمر” مع “عنقود الثريا” دلالة على قدوم فصل الصيف ومهاجرة الطيور شمالًا
  • «فومبي».. مرآة التاريخ التي تعكس وحشية الإنسان
  • الإنسانُ
  • بكين وروسيا تعززان العلاقات.. ورسالة قوية إلى واشنطن
  • الإنسان العراقي.. حروب وأزمات مستمرة تدخله مرحلة الانفجار النفسي
  • حسام موافي: قطيعة الوالدين تؤثر على الإنسان دينيا ونفسيا