الثبات والصبر والبراجماتية.. واجب الوقت
تاريخ النشر: 13th, October 2024 GMT
استفاد الإعلام العربي المتصهين من الانتكاسات التي حدثت لحزب اللبناني الشهر الماضي، وأخذ في بث روح اليأس والانهزامية في نفوس الجمهور العربي، زاعما قدرة إسرائيل على الوصول إلى أي منطقة في الشرق الأوسط، مرددا مقولة رئيس الوزراء الإسرائيلي، ولم يخجل لأن تلك المقولة تؤكد عجز جيوش الدول الممولة لتلك الوسائل الإعلامية عن التصدي لإسرائيل، رغم ما تمتلكه من أسلحة وأفراد وما تحصل عليه من ميزانيات، كما يؤكد ذلك بنفس الوقت انبطاح تلك النظم والجيوش أمام جيش الاحتلال، وتماهيها مع العدوان الإسرائيلي على فلسطين ولبنان.
وتوسعت تلك الوسائل الإعلامية الممولة من السعودية والإمارات وطوائف لبنانية إلى جانب قنوات خاصة مصرية، وما يسمون بالكُتّاب والمفكرين العرب المناصرين للتطبيع، ومعهم الذباب الإلكتروني التابع لأجهزة صهيونية وعربية، في بث الفتنة والشقاق بالطعن في إيران وفي حزب الله وقياداته، ولم تكترث -مثل النظم الممولة لها- باستمرار النزيف اللبناني والفلسطيني، واستمرار الحصار والمجاعة لسكان غزة، أملا في تحقق المسعى الإسرائيلي لإحداث الوقيعة بين سكان غزة والمقاومة، مع طول أمد الحرب وغياب الحديث عن مفاوضات لوقف إطلاق النار، وانشغال الإدارة الأمريكية بالاستعدادات للانتخابات الرئاسية ومواجهة خسائر إعصار فلوريدا.
لكن الصورة ليست قاتمة كما يروج هؤلاء، فقد مر عام كامل ولم تحقق إسرائيل أهدافها المُعلنة، في القضاء على المقاومة الفلسطينية أو تحرير أسراها، أو تهجير سكان غزة أو إعادة سكان مستوطنات غلاف غزة أو مستوطنات الشمال الإسرائيلي إليها، واتساقا مع الآية الكريمة "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فحال المقاومة اللبنانية في الشهر الحالي من حيث الطعنات التي وُجهت إليها، يختلف عما كان في الشهر السابق بالثبات أمام محاولات الغزو البري، والتخلي الجزئي عن قواعد الاشتباك ووصول صواريخها ومُسيّراتها إلى مدن إسرائيلية ما بين حيفا وطبريا وحتى تل أبيب.
تراجع النمو والسياحة والتجارة الإسرائيلية
وها هي عمليات المقاومة الفلسطينية في غزة مستمرة في إلحاق الخسائر بالعدو بالأفراد والمعدات، وما زالت حالة الاستنفار في الضفة الغربية مستمرة، وشهدنا عمليات في الداخل الإسرائيلي كان آخرها في حيفا وبئر سبع، وقامت إيران بإطلاق عشرات الصواريخ على قواعد عسكرية إسرائيلية، وما زالت عمليات الحوثيين والمقاومة العراقية مستمرة، فحتى وإن كانت قليلة الأثر الحربى إلا أن أثرها المعنوي على سكان إسرائيل كبير، بأثرها على مزاعم الأمن والأمان التي تتمتع بها إسرائيل، والتي يتم استخدامها لجذب مهاجرين جدد ومستثمرين أجانب، ورافق ذلك تراجع التصنيف الائتماني لإسرائيل من قبل وكالات التصنيف الرئيسية أكثر من مرة.
مع الأخذ في الاعتبار التكتم الإسرائيلي على أعداد الضحايا للعمليات العسكرية سواء في غزة أو لبنان، أو نتيجة صواريخ الحوثيين أو المقاومة العراقية أو الصواريخ الإيرانية، وترويج الإعلام الغربي للرواية الإسرائيلية عن الأحداث الحربية، لكن تراجع التجارة عبر ميناء إيلات بسبب عمليات الحوثيين شاهد عملي على تأثير العمليات، كما أن تراجع السياحة الواصلة لإسرائيل بنسب عالية شاهد آخر على غياب الأمان، كذلك تراجع التجارة الخارجية الإسرائيلية حسب البيانات الإسرائيلية وتراجع معدلات النمو وزيادة العجز بالموازنة.
ومن المهم سد بعض الثغرات التي ينفذ من خلالها الإعلام العربي المتصهين، وأبرزها قضية العلاقة بإيران بإعتبار أنها دولة لها أجندة خاصة وتتدخل لمساندة المقاومة لتحقيق مصالحها الذاتية، وهنا نتساءل: وهل هناك دولة كبرى أو إقليمية بالعالم تساعد غيرها دون أن ترتبط تلك المعونات بتحقيق مصالحها الذاتية؟ حيث ترتبط جميع أنواع المعونات التي تقدمها الدول الغربية لدول العالم بلا استثناء بتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية والحربية، حتى الصين وروسيا وغيرها لا تقدم أية معونات غير مرتبطة بتحقيق مصالحها بالدولة متلقية للمعونات أيا كان نوعها؛ إنسانية أو طبية أو غذائية أو مالية أو فنية أو حربية.
ولدينا بالفقه مبدأ الضرورات تبيح المحظورات، من خلال الآية الكريمة "وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه" (الأنعام: 119)، والآية "فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه" (البقرة: 173).
فقه الضرورة وسد باب الفتن
ومن هنا يجب التعامل مع الواقع العملي سواء كان من جانب إيران أو غيرها، حيث ألجأت الضرورة حركتي حماس والجهاد لقبول العون من إيران وهما تدركان مصالحها، ونفس الأمر ينطبق على قبول حماس مساعدات من النظام السورى رغم ما تعرفه عما ألحقه بالشعب السورى من مجازر وإبادة، بدافع الاضطرار والحاجة، في ظل امتناع غالبية الدول العربية والإسلامية عن مساعدتها، إن لم يكن كثير منها تنسق مع إسرائيل والدول الغربية للقضاء عليها. وهكذا سعت حماس للحصول على أسلحة روسية وهي تدرك مطامع روسيا في المنطقة وعلاقتها الوثيقة بإسرائيل والمجازر التي ارتكبتها في سوريا ضد الشعب السوري وأهدافها في طول أمد الحرب في غزة، لصرف التركيز الدولي على حربها في أوكرانيا.
وقبلت حماس دعوة الصين للصلح بين الفصائل الفلسطينية، وهي تدرك مصالح الصين في استمرار الحرب في غزة، سعيا لتوريط الولايات المتحدة بالانغماس بشكل أكبر فيها، بما يقلل من تركيزها على الخلافات مع الصين سواء حول تايوان أو الحرب التجارية، وما تقوم به من عنف تجاه مسلمي الإيغور.
كما أن حماس منفتحة للحوار مع السلطة الفلسطينية رغم التنسيق الأمني للسلطة مع إسرائيل، ورغم طعنها للمقاومة أكثر من مرة وعدم الثقة في نواياها تجاه حماس.
بل إن حماس تتعامل مع النظام المصري خلال مفاوضات السعي لوقف إطلاق النار، وهي تعلم كراهية النظام المصري لها وتنسيقه مع إسرائيل للقضاء عليها، لكنها مضطرة للتعامل معه لحاجتها لاحتمال سماحه بدخول بعض المساعدات الإنسانية والغذائية أحيانا، لتخفيف المعاناة عن شعبها، واحتمال سماحه بخروج بعض الجرحى والمرضى للعلاج في الخارج عبر منفذ رفح أحيانا.
وهكذا يمكن انطباق تلك المواقف البراجماتية في التعامل مع كل من إيران وحزب الله والحوثيين والمقاومة العراقية، وإغلاق باب الفتنه بين السنة والشيعة التي تثيرها الجهات الغربية والصهيونية والعربية المتصهينة بلا كلل، طالما أن هناك معركة مستمرة وعدو مشترك يسعى للقضاء على الجميع، مدعوم حربيا وماليا وسياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا ومخابراتيا من قبل الدول الغربية، التي تحرص على تفوقه عسكريا على القدرات العسكرية لأية دولة عربية.
وكان من أبرز نتائج طوفان الأقصى والعدوان الحالي على لبنان، وضوح مدى الدعم الأمريكي والغربي لإسرائيل، وانقسام الأنظمة العربية ما بين متواطئ ضد المقاومة أو متخاذل عن أداء أي دور ولو بتقديم الغذاء والدواء، والدور الشكلي للمنظمات والمحاكم الدولية، والانحياز الإعلامي الغربي، وصمت منظمات حقوق الإنسان عن عمليات الإبادة الجماعية، بل وتمرير الدول الغربية الاعتداء الإسرائيلي على قوات اليونيفيل في لبنان طالما أن الجنديين الجريحين من إندونيسيا المسلمة.
تسلط الأنظمة العربية لا يبرر التقاعس
لكن كل ذلك لا يعني اليأس والقنوط، فكل تلك المواقف الغربية المنحازة والمتواطئة كانت موجودة منذ سنوات طويلة، لكننا كنا نتغاضى عنها ونخدع أنفسنا بدعاوى الصداقة والمصالح المشتركة، وهذه المواقف العربية المتواطئة والمتخاذلة موجودة منذ سنوات طويلة لكننا كنا نتعلق بسراب المساندة العربية، مما يعني أهمية حساب الأمور حسب حقيقتها مهما كانت مؤلمة وفاضحة، وهي الحقائق التي كانت حماس والمقاومة تدركها ورغم ذلك قامت بطوفان الأقصى.
لذا تصبح مهمة الأفراد والتجمعات العربية التركيز على اتخاذ المواقف العملية لمساندة المقاومة، والتي تعني في نفس الوقت الحفاظ على مصالح شعوبها أيضا، ومن ذلك كشف وفضح دسائس الصهاينة العرب حكاما وإعلاما وكتابا ومدونين، والاستمرار في مقاطعة سلع وخدمات الشركات الدولية المؤيدة لإسرائيل، والذي من شأنه كحد أدنى ترسيخ ثقافة المقاطعة والتربية الفردية عليها كإحدى وسائل المقاومة.
كذلك السعي لإيصال المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة المحاصرين بكل الوسائل بما فيها التهريب، والسعي لتغيير النظم الحاكمة الساعية لتقزيم بلداننا لصالح إسرائيل، ونشر الثقافة الإلكترونية والتكنولوجية التي تقلل من مخاطر استخدام أجهزة الاتصالات، وتوجيه الكوادر إلى التفوق في المجالات التكنولوجية المتقدمة باعتبارها وسيلة الصراع المستقبلي، دون أن نبرر تقاعسنا بسطوة النظم الديكتاتورية العميلة وبغياب الحريات وانتشار الفقر والبطالة والغلاء والحروب الأهلية في بلادنا، وإدراك أن الصراع طويل وممتد ومن الطبيعي أن يشهد مساره بعض الإخفاقات والانكسارات.
لكن ذلك لا يثنينا عن الثبات والصبر والأمل، وأن ما لا نستطيع الوصول إليه بالضربة القاضية يمكن الوصول إليه عبر الفوز بالنقاط، من خلال استنزاف العدو وفضحه وزيادة عوامل تفككه، ورفع معدلات الهجرة العكسية مع استمرار حالة الحرب التي لا يستطيع العيش فيها لمدد طويلة، لتكون إسرائيل بلدا طاردا، وأنه إذا لم نشهد تحقق النصر في حياتنا، نكون قد بذلنا ما في وسعنا من أجل القضية الفلسطينية والمسجد الأقصى ومن أجل بلادنا المستهدفة جميعا من قبل الاستراتيجية الإسرائيلية للمنطقة، ليكون ذلك الثبات والصمود والأفعال شاهدا لنا أمام الله وأمام أنفسنا وميراثا نورثه للأجيال القادمة.
x.com/mamdouh_alwaly
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه اللبناني إسرائيل غزة المقاومة لبنان إسرائيل غزة المقاومة مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة تكنولوجيا رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الدول الغربیة سکان غزة فی غزة
إقرأ أيضاً:
«النشامى» و«حماس» في القارب نفسه
بينهم وبين شعبهم وعد. بينهم وبين العالم وعد. بينهم وبين التاريخ وعد. وهذا الوعد يجب أن يتحقق. إنه وعد المقاومة بإقامة سلام الحق والعدل، وليس سلام القوة الذي يتوعدونهم به. بالأمس انشقت الأرض عنهم من بين الركام ليعلنوها للعالم بالفعل وليس بالقول: المجد للمقاومة والموت للقوة الغاشمة.
إنه جيل السنوار الذي التقط الراية من جيل أبو عمار ليواصل المسيرة إلى التحرير بإذن الله. هذا الجيل هو الحقيقة السياسية الكبرى التي أنتجتها المقاومة. إنها الحقيقة التي ستصنع المستقبل، ويجب أن نحتفل بها بأن نرعاها لا أن نحاول اغتيالها. إنها الحقيقة القادرة على إعادة صنع مستقبل الأمة. إنها المقاومة.
بالأمس انشقت الأرض عن أبناء جيل السنوار ليعلن إرادة شعب يرفض أن يعيش بلا وطن، شعب يرفض أن يعيش بلا كرامة، شعب يرفض أن يعيش بلا أمل. جيل يقول للعالم بالدم أن كلمته هي الكلمة الأخيرة، وأن رسالته هي النصر.
إن 471 يوما من حرب الإبادة الوحشية، التي شنتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزة والضفة والقدس الشرقية فشلت في إعطاء الحكومة الصهيونية الدينية المتطرفة في إسرائيل ما كانت تعتقد أنها تقدر على تحقيقه في مدة لا تتجاوز 90 يوما. نعم، لقد أدت حرب الإبادة إلى تدمير مدن سكنية بأكملها بمن فيها وما فيها، وتعرض من لم يمت بالقنابل والرصاص للموت جوعا، وفرّ من نجا من القتل إلى حيث يطلب الأمان، لكن قطاع غزة بأكمله لم يكن فيه مكان آمن واحد. رغم ذلك وقف الصمود الفلسطيني شامخا يحول بين إسرائيل وتحقيق أهدافها؛ فهي فشلت بالقتال في استعادة المحتجزين، وفشلت في إزالة حماس من الوجود، وفشلت في تصفية القضية الفلسطينية، لأن الشعب ما يزال حيا حتى لو كان ينزف، ولأن الأرض ما تزال تنبت الزرع وتحتضن البنايات المدمرة حتى لو كانت محتلة.
في نهاية الأمر فإن الجرح النازف يلتئم، والجريح الذي كان مهددا بالهلاك يتعافى، والأرض المحتلة تتحرر. الأشجار ستعود خضراء مثمرة، والبنايات ستثب من الأرض شامخة تعانق السماء. لكن علينا أن نعلم أنه رغم تصويت الحكومة الإسرائيلية بقبول الاتفاق، فإن نتنياهو لن يتوقف عن المناورة، ومحاولة إجهاضه حتى اللحظة الأخيرة قبل أن يرحل. وسوف يرحل مجللا بالعار.
إن فشل حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في تحقيق أهدافها، يعني فشل محاولة إقامة «سلام القوة»، وأن الحديث عن ذلك هو مجرد وهم ساذج في رؤوس القائلين به، مثل ترامب ونتنياهو. فإذا كانت الحرب قد فشلت في تحقيق أهدافها، فإنها إذن فشلت في إقامة واقع سياسي بين الطرفين المتحاربين، الاحتلال والمقاومة، يقوم عليه هذا السلام المزعوم. ويعود بنا شعار «سلام القوة» إلى عصور الوحشية الأولى للبشرية وقانون الغاب الذي فرض به الأقوى سلطته على الضعيف.
لكن بعد أن نضجت البشرية إلى ما هي عليه الآن، رغم بعض النتوءات أو السقطات على منحنى التاريخ، فإن الحديث عن «سلام القوة» يصبح تعبيرا عن حالة من اليأس. ولا مناص من الاعتراف بأن جريمة الاحتلال لا تتم إزالتها إلا بالانسحاب، وأن جرائم حرب الإبادة إثم يستوجب العقاب. ومهما طال الزمن فإن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم. هذا يدعونا لأن نقرر مع جيل السنوار، نحن جيل أبو عمار، أنه لا سلام بين محتل ومقاوم حتى زوال الاحتلال. فكيف يقوم سلام بين الحق وجرائم الإبادة الجماعية طالما المجرمون لم يدفعوا عقابا على ما ارتكبوه من جرائم؟
إن هذه الفكرة اليائسة عن «سلام القوة» تتناقض تناقضا جوهريا مع القانون الدولي، وهي في حقيقة أمرها مجرد محاولة يائسة لتجاوز التاريخ، والتغطية على جرائم حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين حتى ينساها العالم، الذي سينشغل بلا شك بتفاصيل ما يسمى «اليوم التالي للحرب». هذا الرهان الذي يراهن عليه نتنياهو ويردده دونالد ترامب يجب أن يسقط. وسوف يسقط، لأنه لا مكان لسلام في الشرق الأوسط غير السلام القائم على الحق والعدل وليس القائم على القوة.
إن حكومة اليمين الصهيوني المتطرف بقيادة نتنياهو – سموتريتس – بن غفير ظلت ترفض اتفاقا لتبادل المحتجزين والأسرى والسجناء لمدة تزيد على العام، منذ ديسمبر 2023 حتى يناير 2025 اعتقادا منها أنها تستطيع بالقوة استعادة المحتجزين، وإزالة حماس من الوجود، وإنهاء أي تهديد فلسطيني لإسرائيل في المستقبل.
وفي السياق نفسه سعت تلك الحكومة، وما تزال، إلى تصفية وجود القضية الفلسطينية، بقتل الفلسطينيين، وترحيل من تبقى منهم ومصادرة أملاكهم، بحيث لا تجد السياسة ما يمكن التفاوض بشأنه أو الحصول عليه. حرب الإبادة في حقيقة الأمر لم تبدأ في أكتوبر 2023 ولكنها بدأت مع عمليات تكثيف الاستيطان وإطلاق غارات المستوطنين المتطرفين لطرد الفلسطينيين، وحرق أملاكهم وسرقة أراضيهم في الضفة الغربية والقدس الشرقية في عام 2022، الذي شهدت نهايته انتخابات عامة صعد فيها إلى الحكم تيار اليمين الديني الصهيوني المتطرف. وما كانت عملية طوفان الأقصى إلا الرد الذي أعلنته المقاومة على الحرب الإسرائيلية، التي توسعت بقيادة الثلاثي نتنياهو – سموتريتش – بن غفير في نابلس وجنين والقدس الشرقية وغيرها.
القوة الغاشمة لا تهزم إرادة المقاومة
الدرس الكبير الذي يجب أن لا يصرفنا وهج تحرير الأسرى عن ذكره، والتعلم منه هو أن «القوة الغاشمة لا تهزم إرادة المقاومة». وهذا درس لكل طاغية أن يعلمه؛ بأن قوته تغره، لكنها لا تنصره. وهو درس لكل شعب أن يعلمه؛ بأن قوة إرادته هي أول طريق حريته والخلاص من عبوديته.
خلال السنة التي ناور فيها نتنياهو وتلاعب، أملا في أن يحقق أهداف الحرب، التي كان هو قد أعلنها بنفسه على الملأ، لم تحقق له القوة الغاشمة ربحا أو مكسبا حقيقيا، وإنما حمّلته تكلفة أشد يوما بعد يوم، حتى تم توجيه الاتهام له بواسطة المحكمة الجنائية الدولية بارتكاب جرائم حرب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، وتحولت إسرائيل إلى دولة منبوذة على الصعيد العالمي. وعندما باتت الحرب عبئا ذا تكلفة متزايدة، لا عائد من ورائها سوى مزيد من الدمار والمعاناة الإنسانية للفلسطينيين، أصبحت إسرائيل التي تُحاصِر قطاع غزة هي المُحاصَرة بكراهية الرأي العام العالمي، وقرارات المحاكم والمنظمات الدولية، وأصبح بعض حلفائها في شك من استمرار تأييدهم لها.
هذا الدرس يعني أيضا أن أي حرب يجب أن يكون لها مخرج سياسي واضح، وأنها بغير ذلك، تكون حربا فاشلة لا تحقق أهدافها. الحرب كما قال عنها كارل فون كلاوزفيتز هي مجرد وسيلة لتحقيق هدف سياسي، وليست غاية في حد ذاتها، هي امتداد للسياسة لكنها ليست السياسة. وانطلاقا من كلاوزفيتز طور علماء السياسة فكرة أن الحرب يجب أن ترتبط بنهاية سياسية محددة ممكنة التحقيق أو ما يسمى exit strategy. حرب الإبادة التي ما تزال إسرائيل تشنها على الفلسطينيين – حتى تتوقف فعلا ونهائيا – هي على عكس ما استقرت عليه فلسفة الحرب في العالم، حرب مفتوحة بلا نهاية. ويعلم العالم كله أن المقاومة وليس القوة الغاشمة هي التي تملك مفتاح الحل في مثل هذه الحروب.
إن بريق الاتفاق، الذي يمثل بلا شك نقلة إيجابية لصالح المقاومة، ولصالح الغزاويين إنسانيا وسياسيا، يعلمنا أيضا درسا آخر، هو ضرورة المضي قدما بقوة وجدية في مطاردة المجرم الذي لا يتوقف عن ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، كلما لاحت له فرصة.
وفي حين أن نتنياهو سيظل يطارد اتفاق صفقة التبادل ووقف إطلاق النار ويهدده بأن يكون مجرد «اتفاق مؤقت» ينتهي بنهاية مرحلته الأولى أو الثانية، فإن المقاومة والشعوب العربية وشعوب العالم وحركات التضامن مع الشعب الفلسطيني يجب أن لا تتوقف عن مطاردة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية، والسعي إلى القصاص منهم بالقانون الدولي، وإلزام إسرائيل وكل الدول التي شاركتها في الحرب، بإمدادات السلاح والدعم المادي والمعنوي، بأن تدفع تعويضات عن الخسائر للفلسطينيين، وأن تتحمل تكاليف إعادة البناء والإعمار في غزة. وليس من العدل أو الحق أن تكون أطراف أخرى هي المسؤولة عن تمويل الإعمار، قبل أن تتحمل الدول التي أسهمت في قتل الفلسطينيين وهدم ممتلكاتهم نصيبها من المسؤولية.
وفي السياق نفسه فإننا يجب، سياسيا وإعلاميا، أن نهزأ من استراتيجية «سلام القوة» وأن نجعلها موضع سخرية العالم كله، لأنها استراتيجية عمياء تحتفل بعقلية القوة الغاشمة. «سلام القوة» هو مجرد وهم يعيش في مستنقع قذر. المجد للأبطال والبندقية. المجد للمقاومة ضد القوة الغاشمة. من هنا مرت العاصفة .. ومن هنا جاء الطوفان.
القدس العربي