أما حرب السودان الأهلية التي بدأت العام الماضي فتتباين تقديرات حصيلة القتلى فيها تباينًا واسعًا. وفقًا للفرق الطبية في المنطقة، قد يبلغ عدد القتلى ما بين عشرين ألفا ورقم أبشع كثيرًا يبلغ مائة وخمسين ألفًا، ويأتي هذا عقب مقتل مليونين على مدى عقدين من التحارب في جنوب السودان ودارفور، ويقدَّر أنه منذ إبريل 2023، اضطر أكثر من سبعة ملايين سوداني إلى النزوح عن بيوتهم ومواجهة الجوع في الصحراء.

ونادرًا ما تظهر قصص أولئك في الأخبار.

إننا نهتم لأمر أوكرانيا وغزة. نهتم إلى حد أن نمد هذا الطرف أو ذاك بالسلاح والمساعدات الإنسانية. فهل نهتم بأمر السودان؟ أو هل نهتم بالأحرى إلى حد أن نفعل شيئًا، فيما يتجاوز الاضطجاع في أماكننا وقولنا إنه لا بد من عمل شيء؟

من أكثر الأفلام الوثائقية التي شاهدتها أخيرًا إفادة واطلاعًا فيلم عرضته قناة (بي بي سي 4) بعنوان «دهاليز السلطة: هل ينبغي أن تكون أمريكا شرطي العالم؟»، وهو عبارة عن تحقيق استقصائي في ثماني حالات تدخل أمريكي في صراعات عالمية منذ نهاية الحرب الباردة. خصص الوثائقي ساعة لكل صراع، فكان من هذه الصراعات ثلاث في أفريقيا (في رواندا وليبيا ودارفور). وفي كل حالة تباهت الولايات المتحدة بحقها «الذي لا غنى عنه» في أن تكون شرطي العالم وواجهت مسؤولية تحويل الأقوال إلى أفعال. وفي الغالب جاء أداؤها معيبًا.

اعتمد الوثائقي على حوارات أجريت مع حاضري اجتماعات البيت الأبيض في ظل سلسلة متعاقبة من الرؤساء الأمريكيين. فضم فريق أولئك النجوم كلا من: كولين باول وكوندوليزا رايس والراحل هنري كيسنجر وآخرين في واشنطن، وقد روى أولئك حكايات مناقشات ضارية متبادلة. في حالة حرب السودان في دارفور ـ وكانت حرب إبادة جماعية استمرت منذ 2003 إلى 2020 ـ توالى فيضان التقارير عن المجازر والاغتصابات وحشود اللاجئين. وكان العالم يصرخ مطالبًا الولايات المتحدة بـ«عمل شيء ما»، فلم يكن الرد دائما إلا «صحيح، ولكن ما العمل؟»

كان جورج دبليو بوش محموم الرغبة في أن يكون «في الجانب الصحيح من التاريخ». فناشد طائرات الهليكوبتر الحربية أن توقف الإبادة الجماعية. وسأل الجيش عما يمكن أن يفعله في صحراء إفريقية شاسعة تسكنها عصابات متجولة. هل كانت الولايات المتحدة ترغب في حكم السودان شأن أفغانستان والعراق؟ عندما أدانت المحكمة الجنائية الدولية في عام 2010 السوداني عمر البشير بتهمة الإبادة الجماعية، ما كان منه إلا أن ضيق الخناق على وكالات الإغاثة المجهدة أصلا، بل وقام بحظر بعضها حظرًا كاملًا.

ولذلك كثيرًا ما بدا أن قاعدة عدم تدخل الولايات المتحدة مربكة بقدر تدخلها. فهل كان لصراع معين تأثير على أمن الولايات المتحدة أو مصالحها التجارية أو على جماعة من مواطنيها؟ في الوقت نفسه بدا أن مكسبا قصير المدى هو مكسب «الظهور بمظهر جيد» كان يتغلب دائمًا على السؤال بعيد المدى المتعلق بما سيحدث لاحقا.

في الكويت والبوسنة، أفلح التدخل بينما لم يفلح في ليبيا والصومال. في رواندا، بدا قرار عدم التدخل قاسيا، وكذلك في دارفور. وبعد عشر سنوات، أي في عام 2019، ثار السودانيون أنفسهم وأطاحوا بالبشير. وربما ذلك ما كان ينبغي أن تفعله الولايات المتحدة. لكن في غضون أربع سنوات، انتكس السودان إلى حرب أهلية قاسية لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.

مرة تلو المرة في الفيلم الوثائقي كان صوت العقل -وهو صوت كولين باول في كثير من الأحيان- يقول الشيء نفسه. لا بد أن تكون لنا استراتيجية مقنعة. لو أننا تدخلنا، فماذا بعد؟ لو قضينا على بلد فسوف نملكه. لا بأس بالمطالبة بـ«عمل شيء ما»، لكن من يطالبون بهذا لا يقولون مطلقًا ماذا يكون ذلك الشيء، أو بأي حق «تعمل» الولايات المتحدة ذلك العمل. وفي صورة مؤثرة، يقف باراك أوباما في إحدى نوافذ البيت الأبيض ـ وقد تأذى من الصيحات المطالبة بفعل شيء في السودان ـ شاخصا في أسى وتردد. وقد يكون هذا حال جو بايدن اليوم.

غالبًا ما يكون للأطراف في حرب أهلية أو حدودية زعماء خائفون لا يستطيعون التنازل ويبقون كذلك إلى أن تنهكهم الحرب. في السودان في مايو من العام الماضي، حاولت الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية جمع الفصائل السودانية على وقف لإطلاق النار. ودام ذلك لأيام. وفي إسرائيل وأوكرانيا، اكتفت الولايات المتحدة بمناصرة جانب راجية من ذلك التعجيل بالنصر.

يسهل على كل من يدرس السودان أن ينتابه اليأس. ويبدو أن (الكليشيه) ينطبق هنا: أعطوا الحرب فرصة. في هذه الحالات لا يمكن أن يوجد غير رد فعل واحد على الاشمئزاز الذي تشعرنا به الأخبار كل يوم، وهو الرد الذي لجأت إليه القوى الغربية خلال حرب دارفور الطويلة. فعلى أقل تقدير لا بد من تخفيف المعاناة الإنسانية، ولهذا نقل بوش مئات آلاف الأطنان من المساعدات الغذائية من تشاد إلى السودان عبر الحدود.

في يومنا هذا، ليس الأمن الجماعي الذي يتباهى به كثيرًا ميثاق الأمم المتحدة و«مسؤولية الحماية» إلا حبرا على ورق. فقد يتظاهر قادة الولايات المتحدة بأنهم يتولون المسؤولية وأنهم شرطة العالم. ولكن الواقع يقول إنه عندما تقرر الدول القيام بمجازر في حق جيرانها أو حتى مواطنيها، فنادرا ما يكون للقوى الخارجية نفع.

ولذلك فما من شيء «يمكن عمله» في السودان، سواء أفعلته التدخلات السريعة أو حاملات القنابل والطائرات الحربية أو القرارات أو العقوبات. ومع وصول الحرب إلى نهايتها، سيكون أبطالها الحقيقيون في مكان آخر، في الأمم المتحدة وفي هيئات أخرى مهمتها هي تخفيف معاناة السكان المدنيين. هؤلاء هم الذين يحتملون كوابيس الحرب في غزة والسودان. هؤلاء هم أصحاب التدخلات الإنسانية الحقيقية، الذين لا يتاجرون بالسلام الزائف، وإنما يدعمون الحياة نفسها.

سيمون جينكنز من كتاب الرأي في صحيفة جارديان

عن الجارديان البريطانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

ترامب يخاطر بتحويل الولايات المتحدة إلى دولة مارقة

"أعتقد أن الرئيس المنتخب يمزح قليلاً"، هكذا علّق السفير الكندي في واشنطن على اقتراح دونالد ترامب الأول بأن تصبح كندا الولاية الـ51 للولايات المتحدة.

هذه "المزحة" المهددة، يقول الكاتب جدعون ريتشمان، هي إحدى وسائل ترامب المفضلة للتواصل. ولكن الرئيس المقبل تحدث مطولاً عن طموحه في ضم كندا إلى الولايات المتحدة، لدرجة أن السياسيين الكنديين بدأوا يأخذون هذه الطموحات على محمل الجد ويرفضونها علناً.
هل هي مزحة؟

ويشير ريتشمان في مقاله بصحيفة "فايننشال تايمز" إلى أن الكنديين يشعرون ببعض العزاء في أن ترامب استبعد غزو بلادهم، مهدداً بدلاً من ذلك باستخدام “القوة الاقتصادية”. ومع ذلك، رفض ترامب استبعاد استخدام القوة العسكرية لتحقيق طموحاته بـ"استعادة" قناة بنما والسيطرة على غرينلاند، التي تُعد منطقة تتمتع بالحكم الذاتي وتتبع الدنمارك.
ويتساءل الكاتب: "هل هي مزحة أخرى خفيفة الظل؟ المستشارة الألمانية ووزير الخارجية الفرنسي اعتبروا تهديدات ترامب جادة بما يكفي لتحذيره من أن غرينلاند مشمولة ببند الدفاع المشترك في الاتحاد الأوروبي. بمعنى آخر، قد يجد الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نفسيهما، نظرياً، في حالة حرب بسبب غرينلاند".
أنصار ترامب والمتحمسون له يعاملون الموضوع كأنه نكتة ضخمة. فقد أعلنت صحيفة "نيويورك بوست" عن "مبدأ دونرو" الجديد، على غرار "مبدأ مونرو" في القرن التاسع عشر، مع إعادة تسمية غرينلاند بـ"أرضنا". وعلّق عضو الكونغرس الجمهوري براندون غيل مازحاً بأن الكنديين، والبنميين، وسكان غرينلاند يجب أن يشعروا بـ"الشرف" لفكرة أن يصبحوا أمريكيين.

Trump risks turning the US into a rogue state - Gideon Rachman https://t.co/6pM9hGpeu0

— FT Opinion (@ftopinion) January 13, 2025

لكن حقوق الدول الصغيرة ليست مزحة، بحسب الكاتب، فالاستيلاء القسري أو القهري على دولة من قبل جارة أكبر هو إنذار خطير في السياسة العالمية. فهو علامة على أن دولة مارقة باتت تتحرك. لهذا السبب أدرك التحالف الغربي أهمية دعم مقاومة أوكرانيا ضد روسيا. ولهذا أيضاً نظّم التحالف الدولي حملة لإخراج العراق من الكويت في أوائل التسعينيات.

حرب عالمية

كما يضيف الكاتب أن الهجمات على الدول الصغيرة كانت السبب وراء اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية. ففي عام 1914، عندما كان مجلس الوزراء البريطاني يتصارع حول ما إذا كان سيخوض حرباً مع ألمانيا، كتب ديفيد لويد جورج، الذي أصبح لاحقاً رئيس الوزراء، لزوجته: "لقد ناضلت من أجل السلام… لكنني وصلت إلى قناعة بأنه إذا تعرضت بلجيكا، الدولة الصغيرة، لهجوم من ألمانيا، فكل تقاليدي ستدفعني لدعم الحرب".
بريطانيا وفرنسا رفضتا بشكل مخزٍ حماية تشيكوسلوفاكيا من ألمانيا النازية في عام 1938. لكن خلال عام واحد فقط، أدركتا خطأهما وقدمتا ضماناً أمنياً لبولندا، الجارة الصغيرة التالية في قائمة ألمانيا. وكانت غزو بولندا الشرارة التي أشعلت الحرب.
أنصار ترامب يرفضون بغضب أي مقارنة بين خطابه وخطابات المعتدين من الماضي أو الحاضر. ويزعمون أن مطالبه تهدف فعلياً إلى تعزيز العالم الحر في مواجهة الصين الاستبدادية وربما روسيا أيضاً. وقد برر ترامب طموحاته التوسعية في كندا وغرينلاند وبنما بدواعي الأمن القومي.

هناك أيضاً من يجادل بأن تصريحات ترامب ليست سوى تكتيك تفاوضي. يقول مؤيدوه إنه يمارس ضغطاً على الدول الحليفة للقيام بما هو ضروري لصالح التحالف الغربي. علاوة على ذلك، يزعمون أن العديد من سكان غرينلاند الذين يبلغ عددهم 55 ألف نسمة يسعون إلى الاستقلال عن الدنمارك. وكذلك، أليس الكنديون قد تعبوا من النخب "المستيقظة" غير الكفؤة التي تدير بلادهم؟ يتساءل ريتشمان.

حجج ضعيفة

لكن هذه الحجج ضعيفة، مضيفا "من المشروع أن يحاول ترامب إقناع سكان غرينلاند بأنهم قد يكونون أفضل حالاً كأمريكيين. ولكن تهديده باستخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية هو أمر مشين. كما أن ادعاءاته بأن العديد من الكنديين يرغبون في الانضمام إلى الولايات المتحدة هي أوهام. فقد رفض 82% من الكنديين هذه الفكرة في استطلاع رأي حديث".
أما من منظور الاستراتيجية الكبرى، فإن تهديدات ترامب لغرينلاند وبنما وكندا هي هدية مطلقة لروسيا والصين. فإذا كان ترامب يمكنه الادعاء بأن السيطرة على غرينلاند أو قناة بنما ضرورة استراتيجية للولايات المتحدة، فلماذا يُعتبر من غير الشرعي أن يدعي بوتين أن السيطرة على أوكرانيا ضرورية لروسيا؟

Ontario Premier Doug Ford gave Donald Trump a "counteroffer" as the President-elect repeatedly calls Canada the "51st state" of America. "How about if we buy Alaska? And we'll throw in Minnesota." pic.twitter.com/uiMH5MlV25

— Newsweek (@Newsweek) January 7, 2025

يقول الكاتب: "لطالما حلمت روسيا والصين بتفكيك التحالف الغربي. وها هو ترامب يؤدي هذه المهمة نيابةً عنهما. فمنذ أسابيع قليلة فقط، كان من المستحيل أن يتصور الكرملين أن أكبر مجلة إخبارية في كندا ستصدر تقريراً بعنوان "لماذا لا تستطيع أمريكا غزو كندا". كما أن فكرة لجوء قادة أوروبيين إلى بند الدفاع المشترك في الاتحاد الأوروبي ضد الولايات المتحدة، وليس روسيا، كانت تبدو خيالاً. لكنها أصبحت اليوم حقيقة".

واختتم ريتشمان بالقول: "حتى لو لم ينفذ ترامب تهديداته أبداً، فقد ألحق بالفعل ضرراً هائلاً بمكانة أمريكا العالمية وبنظام تحالفاتها. وهو لم يتولَ منصبه بعد. وقد يبدو من غير المرجح أن يأمر ترامب بغزو غرينلاند. (تماماً كما كان من غير المرجح أن يحاول الانقلاب على نتائج الانتخابات). ومن المستبعد أكثر أن يتم إخضاع كندا للتخلي عن استقلالها. ولكن حقيقة أن الرئيس المقبل يمزق الأعراف الدولية هي كارثة بحد ذاتها. أي استهزاء بـ"مزاح" ترامب هو أمر في غير محله. ما نشهده الآن هو مأساة، وليس كوميديا".

مقالات مشابهة

  • “فورين بولسي”: الولايات المتّحدة الأمريكية فشلت في معركتها ضد اليمنيين
  • الولايات المتحدة تكشف عدد شاحنات المساعدات التي ستدخلها لغزة
  • الولايات المتحدة تعلن الاتفاق على وقف إطلاق النار في غزة
  • الولايات المتحدة تشيد بجهود مسعود بارزاني للتقريب بين الكورد في سوريا
  • فورين بولسي: الولايات المتّحدة الأمريكية أخفقت في معركتها ضد اليمنيين
  • برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يدعم التعافي الاقتصادي في السودان
  • "كنتُ اليد الحازمة التي كان العالم بحاجة إليها".. بايدن يخرج من البيت الأبيض منتشيًا بـ"إنجازاته"
  • الصين تناقش بيع تيك توك في الولايات المتحدة لإيلون ماسك
  • أكسيوس عن مصادر: الولايات المتحدة والوسطاء ينتظرون رد حماس على مسودة الاتفاق
  • ترامب يخاطر بتحويل الولايات المتحدة إلى دولة مارقة