لجريدة عمان:
2025-03-16@16:16:42 GMT

«النكبة» هي الآن أيضا

تاريخ النشر: 13th, October 2024 GMT

عندما ذهب إلياس خوري إلى مخيم شاتيلا للاشتراك فـي الذكرى السنوية الأولى للمجزرة 1983، سمع أصواتا أصابته بالدهشة والعجز عن الفهم، مجموعة من النساء المُتشحات بالسواد يزغردن، حتى ظن إلياس خوري بأنّه فـي منام. صرخت امرأة: «انتصرنا، صار عندنا مقبرة لأولادنا». فمشى خلفهن ليجد نفسه أمام أرض فارغة دُفنت فـيها 1500 ضحية فـي واحدة من أكثر مجازر النكبة رعبا ووحشية.

ما حيره آنذاك زغاريد النساء ووصف إحداهن المقبرة بالانتصار!

احتاج إلياس خوري لتسع سنوات -هي زمن عمله على جمع حكايات النكبة من اللاجئين واللاجئات فـي المخيمات- ليفهم التروما التي أحدثها غياب المقابر، فالعجز عن دفن الموتى الساقطين تحت وابل الرصاص أو المغمورين بالأنقاض، يعود من وجهة نظر إلياس خوري إلى تروما جذورها ممتدة منذ عام 1948، حيث تُركت الجثث لتتعفن قبل أن يقوم الصليب الأحمر بإلقائها فـي حفرة جماعية بعد رشها بالكلس والمبيدات.

تاريخ النكبة لم يمض بشكل خطي بل متعرج، ربما نشهدُ الآن المنعطف الأكثر حدّة ووحشية منه، ولذا لا يمكن تناول صدمة من الصدمات بمعزل عن الأخرى، لأنّها جميعا تصب فـي خزان واحد للمأساة الكبرى، هذا ما يشير إليه إلياس خوري فـي كتابه «النكبة المستمرة»، الصادر عن دار الآداب.

إن الفخ الذي وقعنا فـيه جميعا هو اعتبار النكبة حدثا اكتملت عناصره عام ٤٨، الأمر الذي أثر على مسارات الانتباه، فأجّل وعي الفلسطيني بحقيقة واقعه المُهدد بالامّحاء، ودفع العرب لردود فعل سريعة، فالحرب لم تضع أوزارها أو نقطة نهايتها، ولذا بقي كل يوم هو يوم نكبة وفوهة موت مفتوحة على الشقاء اللانهائي.

ماذا عن المنكوب الآخر، المشاهد العاجز المُصاب بالخرس، الذي يرى كل شيء لحظة بلحظة، ثم يتوجب عليه أن يُمارس حياته الطبيعية، كأنّه خرج من كابوس للتو أو شاهد فـيلما دمويا لا أكثر؟ لا سيما مع تكسر أجنحة أناشيد القومية العربية، وما يراه من هشاشة فـي أوصال الروابط الكبرى التاريخية والثقافـية والدينية والاجتماعية؟ فهل ينظر العربي اليوم لانعكاسه فـي مرايا هذا الواقع كمسخ مُشوه الإنسانية أو يرى نفسه مُنبتا من عجلة الاشتباك؟

ترى هل تملكُ الكلمات قوتها بعد مرور عام من الخذلان أم أنّ الموت صار جزءا من التجربة اليومية، يمكن تجاهله بخاصية الحجب؟ بأي قلب وعقل وضمير نواجه حياتنا؟ وكيف ينصب البعض أنفسهم قضاة -واضعين رجلا على أخرى- مُنظرين فـي آلام الغير دون أن يختبروا ما يجيش في صدورهم من أوجاع؟

«النكبة الفلسطينية ليست ماضيا نتذكره، وإنّما هي الكلمة التي تُلخص الحياة، فعندما نستخدم كلمة «نكبة»، فإنّنا لا نتذكر ما جرى وانتهى وإنّما ما امتد فـي مسار متعرج إلى يومنا هذا، فالنكبة هي الآن أيضا، هي نكبة مستمرة». فهذه الكلمة التي أشار لها المؤرخ السوري قسطنطين زريق فـي كتابه «معنى النكبة»، صارت عصية على الترجمة، فدخلت فـي نسيج اللغات كافة.

تلك المحاولة الممنهجة شديدة السُمية والعنف للمحو والتقويض، ينبغي أن تُقابلها مقاومة مستمرة واستيقاظ فـي الضمير الجمعي والفردي لنغدو جميعا كنصل موجع فـي خاصرة مغتصبي الأرض وكرامتنا البشرية، وقد لا يحدث ذلك عبر اليأس المفرط - الذي أصاب أغلبنا- ولا عبر التفاؤل الساذج والمنفعل - الذي ركن إليه بعض آخر- وإنّما عبر تحليل الراهن لاستعادة أبجديتنا العربية الضائعة، وعبر زعزعة خطاب السُلطة السابحة فوق نهر من الدماء.. دون خجل أو تورية.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلیاس خوری

إقرأ أيضاً:

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه

???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
( عميد التَنوير ، نِحرِير النبوءاتِ العَتيقة )

في أعمق لحظاتي مع نفسي صدقاً ، لا أراني أعظَمُ مَيلاً للحديث عن الشخصيات، إن تكرَّمَت وأسعفَتني الذاكرة ، فقد كتبتُ قبل عن فيلسوفِ الغناء مصطفى سيد أحمد ، والموسيقار الكابلي ، والمشير البشير ، وشاعر افريقيا الثائر ؛ الفيتوري .

لا أجدُني مضطراً لمدح الرّجال ، ولكنها إحدى لحظات الإنصاف ، ومن حسن أخلاق الرجال أن ينصفوا أعداءهم، دعك من أبناء جلدتهم ونبلائها ، والرجلُ ليس من قومنا فحسب، بل هو شريف قوم وخادمهم ، خطابه الجَسور يهبط حاملاً “خطاب” ابن يعمر الإيادي لقومه ، وخطبة درويش “الهندي الأحمر” ، و”بائية” أبي تمّام ، وتراجيديا الفيتوري في “التراب المقدّس” ..
عبد الرحمن ، لم يكن حالة مثقفٍ عادي ، “عمسيب” مثالٌ للمثقف العضوي قويّ الشَّكِيمَة ، العاملِ علَى المقاومة والتغيير والتحذير ، المحاربِ في ميادين التفاهة والتغييب والتخدير ، المتمرّد على طبقته ، رائد التنوير في قومه ، ظلّ يؤسس معرفياً وبأفقٍ عَالمٍ لنظرية اجتماعية ، نظرية ربما لم تُطرح في السوح الثقافية والاجتماعية من قبل ، أو لربما نوقشت على استحياء في همهمات أحاديث المدينة أو طُرحَت في ظلام الخرطوم عَهداً ثم غابت . هذا الرجل امتلك من الجسارة والثقافة العميقة بتفاصيل الأشياء وخباياها ، ما جعله يُقدم على تحطيم الأصنام السياسية والثوابت الاجتماعية وينفض الغبارَ عن المسكوت عنه في الثقافة والاجتماع والسياسة.

عمسيب قدم نظريةً للتحليل الاجتماعي والسياسي ، يمكن تسميتها بنظرية ( عوامل الاجتماع السياسي) أو نظرية ( النهر والبحر) في الحالة السودانية ، فحواها أن الاجتماع البشري يقوم على أسس راسخة وليس على أحداث عابرة . فالاجتماع البشري ظلّ منذ القدم حول ( القبيلة Tribe ) ثم ( القوم Nation ) ثم ( الوطن Home) ثم ( الدولة country) . هذا التسلسل ليس اجتماعيٌ فحسب، بل تاريخيٌ أيضاً ، أي أن مراحل التحَولات العظيمة في بِنية المجتمعات لا يصح أن تقفز فوق الحقب الاجتماعية ( حرق المراحل).. فالمجتمعات القَبَلية لا يمكنها انتاج (دولة) ما لم تتحول إلى (قومية) ، ثم تُنتج (وطن) الذي يسع عدد من القوميات ، ثم (دولة) التي تخضع لها هذه القوميات على الوطن ، مع تعاقد هذه القوميات اجتماعيا على مبادئَ مشتركة، وقيمٍ مضافة ، كالأمن والتبادل الاقتصادي وادارة الموارد ، والحريات الثقافية ونظام الحكم .

هذه النظرية تشير إلى أن الاجتماع السياسي في السودان ظل في مساره الطبيعي لمراحل التسلسل التاريخي للمجتمعات والكيانات ، إلى أن جاءت لحظة ( الاستعمار) Colonization . ما فعله الاستعمار حقيقة ، أنه وبدون وعي كامل منه ، حرق هذه المراحل – قسراً – وحوّل مجتمعات ما قبل الدولة ( مجتمعات ما قبل رأسمالية) إلى مجتمعات تخضع للدولة.

فالمجتمعات التي كانت في مرحلة ( القبيلة) او تلكَ في مرحلة( القومية) قام بتحطيم بنيتها وتمحوراتها الطبيعيه وتحويلها إلى النموذج الرأسمالي الغربي ، خضوع قسري لمؤسسات الدولة الحديثة، مجتمع ما بعد استعماري ، تفتيت لمفاهيم الولاءات القديمة الراسخة ، بل وتغييرها إلى نظم شبه ديموقراطية، وهذا بالطبع لم يفلح، فبعد أن حطّم المستعمر ممالك الشايقية ودولة سنار ومشيخات العرب بكردفان ومملكة الفور ، وضم كل ذلك النسق الاجتماعي ( القبلي / القومي) إلى نسق الوطن/ الدولة.. أنتج ذلك نخب وجماعات سياسية ( ما بعد كولونيالية ) تعيش داخل الدولة ، لكنها تدير الدولة باللاوعي الجمعي المتشبّع بالأنساق التقليدية ( القبيلة / الطائفة / القومية) ، أي مراحل ماقبل الوطن والدولة.

ما نتج عن كل هذه العواصف السياسية والاجتماعية ، والاضطرابات الثقافية، أن هذه المجتمعات والقوميات التي وجدت نفسها فجأة مع بعضها في نسق جديد غير معتاد يسمى ( الدولة) ، وأقصدة بعبارة ( وجدت نفسها فجأة) أي أن هذا الاجتماعي البشري في الاطار السياسي لم يتأتَ عبر التمرحلات الطبيعيه الانسانية المتدرجة للمجتمعات، لذا برزت العوامل النفسية والتباينات الثقافية الحادة ، الشيئ الذي جعل الحرب تبدأ في السودان بتمرد 1955 حتى قبل اعلان استقلاله . ذات الحرب وعواملها الموضوعيه ومآلاتها هي ذات الحرب التي انطلقت في 2002 ثم الحرب الأعظم في تاريخنا 2023 .

أمر آخر شديد الأهمية، أن دكتور عبد الرحمن ألقى حجرا في بركة ساكنة، وطرق أمراً من المسكوت عنه ، وهو ظاهرة الهجرات الواسعة لقوميات وسط وغرب افريقيا عبر السبعين عاما الماضية ( على الأقل) , فظاهرة اللجوء والهجرات الكبيرة لقبائل كاملة من مواطنها لأسباب التصحر وموجات الجفاف التي ضربت السهل الافريقي، ألقت بملايين البشر داخل جغرافيا السودان، مما يعني بالضرورة المزيد من المنافسة العنيفة على الأرض والموارد وبالتالي اشتداد الحروب والصراعات بالغة العنف، وانتقال هذا التهديد الاستراتيجي إلى مناطق ومجتمعات وسط وشمال السودان ( السودان النّهري)

اذن ، سادتي ، فنظرية (الاجتماع السياسي ، جدلية الهوية والتاريخ ) هذه تؤسس لطرائق موضوعيه ( غير منحازة) لتفسير الظواهر الاجتماعية والثقافية وجدليات الحرب والسلام ، وتوضّح أسباب ظاهرة تعدد الجيوش والميليشيات القبلية والمناطقية والخطابات المؤسسة ديموغرافياً ، وما ينسجم معها من تراكمات تاريخيه وتصدّعات اجتماعية عميقة في وجدان تلك الجماعات العازية .. التوصيات البديهية لهذا الخطاب ، أن الحلّ الجذري لإشكاليات الصراع في السودان هو بحلّ جذور أزمة الهوية، والهوية نفسها لم تكن ( أزمة) قبل لحظة الاستعمار الأولى ، بالتالي تأسيس كيانات جديدة حقيقية تعبّر عن هويات أصحابها والعقد الاجتماعي المنعقد بين مجتمعاتها وقومياتها .

النظرية التي أطلق تأسيسها دكتور عبد الرحمن، لم تطرح فقط الأسئلة الحرجة ، بل قدمت الإجابات الجسورة وطرقت بجراءة الأبواب المرعبة في سوح الثقافة والاجتماع والسياسة في السودان.

Mujtabā Lāzim

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • ما الذي تفتقده صحافتنا اليوم؟
  • كشف تفاصيل الرتل الأمريكي الذي انتقل من بغداد إلى الانبار
  • ???? عبد الرحمن عمسيب ، الرائدُ الذي لا يكذبُ أهلَه
  • بمواصفات خيالية.. هل يكون «OnePlus» الحاسب الذي ننتظره؟
  • عاجل| الآن غارات على صنعاء
  • أين تنشأ عملات البيتكوين؟ السر الذي لم يُكشف بعد
  • ما جيش تحرير بلوشستان الذي خطف القطار الدامي بباكستان؟
  • ترامب: أوكرانيا قبلت وقف إطلاق النار ويمكننا إقناع روسيا أيضا
  • السوداني يعلن قتل الإرهابي عبد الله مكي الذي يشغل منصب والي العراق وسوريا
  • محمود درويش: كيف شكلت النكبة هويته الشعرية؟