الهوية الوطنية بين خصوصية الثوابت وعالمية التغيير
تاريخ النشر: 13th, October 2024 GMT
تعتبر قضية الهوية الوطنية من أهم، بل من أخطر القضايا التي يواجهها العالم في اللحظة الراهنة. فمع التغيرات التكنولوجية المتسارعة، واتساع رقعة العولمة التي حولت العالم إلى أقل من قرية صغيرة، والتحديات التي فرضتها سطوة مواقع التواصل الاجتماعي عالمياً، وما فرضه كل ذلك من وجود هويات قاتلة، وهويات مركبة، أصبح الحديث عن الهوية الوطنية ومحدداتها أمراً ضرورياً، بل مصيرياً.
والهَوية، بفتح الفاء من الفعل هَويَ، قد تكون هاوية فتقود إلى التطرف والتشدد، أو هوى بحيث ينفلت منها الإنسان كلياً فيفرط بذاته فيختفي تماما، وحتى تكون الهُوية بضم الهاء ينبغي أن توصف بكونها متعددة ومتنوعة وحيوية غير مستقرة وتتبدل وتتغير مع الحفاظ على جوهرها الفريد والناصع.
ومن هنا تأتي أهمية الكتاب الجديد للمفكر الإماراتي الدكتور جمال سند السويدي نائب رئيس مجلس أمناء مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية "الهوية الوطنية في دولة الإمارات العربية المتحدة بين خصوصية الثوابت وعالمية التغيير" والصادر أخيراً عن الأرشيف والمكتبة الوطنية، والذي يؤصل فيه لمفهوم الدولة الوطنية الإماراتية، بهدف استيعاب التطورات العالمية والتكنولوجية والاجتماعية بشكل متزامن ومتوازن، من دون أن تفقد الشخصية الوطنية المميزة هويتها وخصوصيتها، واستشراف مستقبل هذه الهوية الوطنية في ظل التحديات الجديدة.
وانشغال د. جمال سند السويدي بقضية الهوية ليس جديداً، فقد كانت إحدى انشغالاته الفكرية التي نتحدث عنها كلما التقينا، كما كتب عنها كثيراً في مقالاته، وأسس لها في عدد من كتبه التي تحدثت عن دولة الإمارات، وكيف لا، وقضية الهوية الإماراتية هي جوهر فكر الشيخ زايد بن سلطان طيب الله ثراه، حين تحدث عن أن "المصير واحد، ما فيه مصير لإمارة، ومصير لإمارة أخرى، ولا مصير لفرد أو لأفراد، والآخرون لهم مصير. إن المصير واحد والحرص واحد، والمصلحة واحدة"، وإذا كانت هذه القضية في لب انشغالات فكر الأب المؤسس منذ اللحظات الأولى لقيام الاتحاد، فإنها كانت أول ما تحدث عنه الشيخ محمد بن زايد رئيس الدولة، في أول خطاب له عند توليه مقاليد الحكم في 13 يوليو 2022، في إشارة دالة على أهمية هذه القضية له، حين قال: "سيبقى تاريخنا وهويتنا وموروثنا الثقافي جزءاً أساسياً في خططنا للمستقبل".
ونلحظ هنا أن الأب المؤسس تحدث عن الهوية باعتبارها مصيراً واحداً، كما أن رئيس الدولة تحدث عنها باعتبارها جزءاً أساسياً من استراتيجية دولة الإمارات للمستقبل، وهذه الرؤية المتطابقة لديهما تكشف لنا مدى أهمية هذه القضية لدى قادة دولة الإمارات، التي لم تبدأ هويتها مع تأسيسها عام 1971، بل بدأت قبل ذلك بمئات السنين، فقد تشكلت عبر قرون ـ وفق السويدي ـ هوية مشتركة لأبناء هذه المنطقة بحكم الجغرافيا والعادات والدين والعادات والتقاليد والتاريخ المشترك، لكنها استقرت بشكل تام، وتبلورت بصورة واضحة عند إقامة الاتحاد عام 1971، إذ أصبح هناك وطن يضم الجميع، تشكلت معه وبه هوية وطنية جديدة، يؤمن بها كل أبناء دولة الإمارات.
ويذكرني هذا، بتعريف قدمه الشريف الجرجاني للهوية في كتابه المسمى "التعريفات" حين قال إنها "الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النُّواة على الشجرة في الغيب المطلق"، ولعل هذا التعريف يلخص ما استطاعت الإمارات إنجازه منذ تأسيسها وحتى الآن، وكيف استطاعت النواة، التي زرعها الشيخ زايد طيب الله ثراه، أن تثمر هذه الشجرة العملاقة اليانعة التي ينعم بظلالها الملايين حول العالم، وأصبحت ذات سمة وهيئة واضحة وفريدة يرنو لها الجميع إعجاباً وفخراً.
إن الهوية الإماراتية وفقاً لما سبق تتكون من عدة محددات، تشمل الهوية الوطنية والوحدة والسيادة والاستقلال والعدالة، كونها الجامع لهوية المواطن الإماراتي وتاريخه وإرثه القومي ومكتسباته وتطلعاته ومستقبل الأجيال التالية، لكني أود أن أتوقف عند محدد "اللغة العربية" الذي أفرد له الكتاب مبحثاً خاصاً، كونه أحد أهم محددات الهوية الوطنية.
وتولي دولة الإمارات العربية المتحدة اهتماماً كبيراً للغة العربية، كونها اللسان الوطني للدولة، وهي في هذا تبذل وافر الجهد في تعزيز مكانتها وضمان عدم مزاحمة اللغات الأجنبية لها حتى لا تفقد سيادتها، وتثبيتها جزءاً أصيلاً في تفكير المواطن وسلوكه الحضاري.
وعلى الرغم من أن دولة الإمارات، تتسع لأكثر من 200 جنسية عالمية، ما جعلها تذخر بمثلها وأكثر من اللغات واللهجات العالمية المختلفة، فإنها وفي إطار حفاظها على هويتها أطلقت عشرات المؤسسات والمبادرات الداعمة للحفاظ على اللغة العربية ليس في الإمارات فقط، بل في العالم كله، مثل "مركز أبوظبي للغة العربية"، الذي يضع الخطط والاستراتيجيات للنهوض باللغة العربية، ويدعم البحوث والدراسات لتعزيز استخدام اللغة العربية في الأوساط العلمية والثقافية والإبداعية، وأيضاً "مشروع كلمة" الذي قام بجهد جبار في إحياء حركة الترجمة وزيادة معدلات القراءة باللغة العربية على المستويين المحلي والإقليمي، وهو مبادرة ثقافية أطلقها الشيخ محمد بن زايد رئيس الدولة قبل أكثر من 17 عاماً. وهناك أيضاً "ميثاق اللغة العربية"، و"جمعية حماية اللغة العربية"، ومبادرة "بالعربي"، و"المجلس الاستشاري للغة العربية"، و"مجمع اللغة العربية بالشارقة"، و"جائزة محمد بن راشد للغة العربية"، و"تقرير حالة اللغة العربية ومستقبلها"، و"المعجم التاريخي للغة العربية"، و"معجم محمد بن راشد للغة العربية المعاصرة"، و"تحدي القراءة"، وعشرات المبادرات، التي تؤكد مدى اهتمام دولة الإمارات بأحد محددات هويتها الوطنية، وحرصها على دعمه وتشجيعه.
وإذا كان الكتاب قد سلط الضوء على أبرز معالم الهوية الإماراتية، ومدى انسجامها من حيث الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية، مع مسارات التطور التي مرت بها المفاهيم التقليدية والقانونية للمواطنة في التاريخ الحديث عبر منهجية استنباطية قدمت تأطيراً نظرياً وتأصيلاً تاريخياً لنموذج الهوية الإماراتية، فإنه في الوقت ذاته ألقى الضوء على أبرز التحديات التي تواجهها، في مرحلة ما بعد النفط، وسعي الدولة لتحويل مواطنيها إلى رواد أعمال نيوليبراليين مكتفين ذاتياً، وهو ما يلقى ترحيباً عالمياً، بوصفه تطوراً واعداً في العالم العربي.
يأتي صدور الكتاب في لحظة شديدة الحساسية يشهدها العالم، فصراع الهويات على أشده، ليس فقط بسبب الحروب المشتعلة في أكثر من مكان، بل بسبب استخدام طرائق ووسائل شتى لفرض هويات محددة لا سيما على الأجيال الجديدة، أو تمييع وتشويه هويات أصيلة، باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي، وتقنيات الذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى التحولات والتغيرات المرتبطة ببروز جيل إماراتي جديد يؤكد حضوره على أرض الواقع يوماً بعد يوم، واختلاف سلوكه وذوقه وعاداته وتطلعاته وقيمه عن العادات والتقاليد والثوابت التي استقرت وتغلغلت في أفئدة الأجيال، وهو ما تتنبه له دولة الإمارات، وتضع لمواجهته استراتيجية لغوية رقمية وطنية موحدة ومتكاملة، تثري المحتوى الرقمي العربي، وتستشرف مستقبله، وتحافظ على الهوية الوطنية وتدعم روافدها وأسسها.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية الإمارات الإمارات الشيخ زايد الهویة الإماراتیة الهویة الوطنیة دولة الإمارات اللغة العربیة للغة العربیة تحدث عن محمد بن
إقرأ أيضاً:
“مهرجان الشارقة لريادة الأعمال” 2025 يضاعف أجندته بـ300 متحدث وأكثر من 60 فعالية لتمكين صناع التغيير حول العالم
يستعد “مهرجان الشارقة لريادة الأعمال” 2025، الحدث الأضخم من نوعه على مستوى المنطقة، لاستضافة أكثر من 300 متحدث من أبرز قادة ريادة الأعمال والمبتكرين وصناع التغيير وأكثر من 150 شركة ناشئة متميزة، وينظم أكثر من 60 فعالية تتضمن ورش عمل، ودورات، ومحاضرات مباشرة، وعروضاً فنية، تستهدف احتضان الأفكار المبتكرة، ووجهات النظر المتنوعة، واستراتيجيات صناعة التغيير الإيجابي. ويقدِّم المهرجان، الذي ينظمه مركز الشارقة لريادة الأعمال (شراع)، يومي 1 و2 فبراير المقبل تحت شعار “حيث ننتمي”، أنشطة متنوعة وجلسات تمكّن الحضور من التواصل مع قادة الفكر الذين يرسمون ملامح ريادة الأعمال المحلية والإقليمية والعالمية، وورش عمل تطبيقية، وحوارات تسلط الضوء على قصص نجاح ملهمة، بهدف تبادل الخبرات والمعارف. بيئة تحتفل بالتنوع تحتضن الابتكار وفي تعليقها على المهرجان بنسخته الثامنة، قالت سعادة سارة عبد العزيز بالحيف النعيمي، المدير التنفيذي لمركز الشارقة لريادة الأعمال (شراع): “يوفر مهرجان الشارقة لريادة الأعمال 2025 موطناً للحالمين وأصحاب الرؤى المبتكرة وصناع التغيير، وحاضنة تتحول الأفكار فيها إلى مشاريع على أرض الواقع، ويحصل رواد الأعمال فيها على الدعم اللازم لتحقيق أهدافهم ونجاح مشاريعهم، ويعكس توسع المهرجان في دورته الثامنة إيماننا بأن الروح الريادية تزدهر في البيئة التي تحتفل بالتنوع وتعزز التعاون وتحتضن الأفكار المبتكرة، ولطالما تبنت إمارة الشارقة الابتكار كأداة للنمو والتطور، ومن خلال هذا المهرجان، سنجمع أفضل العقول والمواهب من جميع أنحاء العالم لإعادة تعريف ما هو ممكن”. مناطق متخصصة في القطاعات الريادية ويشهد “مهرجان الشارقة لريادة الأعمال” 2025 نمواً غير مسبوق من حيث الحجم والتأثير، من خلال 10 مناطق متخصصة منها “منطقة التأثير” و”منطقة الإبداع” و”مدينة الشركات الناشئة”، إلى جانب 5 منصات مؤثرة، معززاً مكانته الراسخة بوصفه التجمع الريادي الأكبر من نوعه في المنطقة، كما تضاعف عدد المتحدثين مقارنة بالدورات السابقة، مما يعكس التزام “شراع” باستعراض رؤى متنوعة ومؤثرة تقدمها كبار الشخصيات في مجال ريادة الأعمال والتكنولوجيا والإبداع والاستدامة والابتكار المجتمعي. وتشهد الدورة الجديدة من المهرجان تخصيص عدد من المناطق الجديدة، وهي؛ “صُنع في الشارقة”، و”الاستدامة وجودة الحياة”، و”أكاديمية مهرجان الشارقة لريادة الأعمال”، و”مهرجان الشارقة لريادة الأعمال للمأكولات”، و”رواق الفنانين”، إذ توفر جميعها مساحات متخصصة تساعد الحضور على التواصل والتعاون والنمو. 24 علامة محلية في “منطقة السوق” وتضم “منطقة السوق” 24 علامة محلية توفر أجواء تسوق فريدة تحتفي بالمنتجات المحلية وعلامات الأغذية والمشروبات، وتتيح للزوار فرصة تعزيز العلاقات مع الشركات والحرفيين المحليين، كما توفر منطقة “الأجنحة الدولية” للمشاركين فرصة التواصل مع قادة الفكر الدوليين، والتعرف على المنظومات الريادية الناجحة من جميع أنحاء العالم. وتوفر “ردهة المستثمرين” مساحة حصرية لرواد الأعمال للتواصل مع 100 مستثمر، وفرصاً حصرية للتعارف والتواصل، وتسهيل النقاشات الهادفة، التي تفضي إلى فرص التمويل والشراكات الاستراتيجية المستقبلية. ويستهدف المهرجان الذي يقام في “مجمع الشارقة للبحوث والتكنولوجيا والابتكار” إلهام رواد الأعمال الطامحين وتعزيز مهاراتهم، وتوفير فرص تواصل هادفة، إلى جانب استعراض مواهب محلية وعالمية، وتمكين الشركات الناشئة برؤى قابلة للتطبيق على أرض الواقع. وسيسهم المهرجان في الارتقاء بالروح الريادية في قطاعات متنوعة، وتوفير بيئة تتشكل فيها الأفكار الرائدة، ويتم إثراؤها والاحتفاء بها.