سودانايل:
2024-11-21@12:15:30 GMT

عبدالله علي ابراهيم بين التمركس و الاستعراب

تاريخ النشر: 13th, October 2024 GMT

دكتور هشام عثمان

عبد الله علي إبراهيم هو من المفكرين الذين يثيرون جدلاً واسعاً في الساحة الثقافية السودانية، لا سيما في ما يتعلق بمواقفه حول قضايا الرق والتهميش الاجتماعي. رغم ادعائه الالتزام بالمنهج الماركسي، الذي يركز في تحليله على التفاوتات الطبقية وهياكل السلطة الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن عبد الله علي إبراهيم يُظهر نفوراً واضحاً من تطبيق هذا المنهج على بعض من أكثر القضايا حساسية في المجتمع السوداني، وعلى رأسها قضية الرق والتهميش.

هذه المواقف دفعت العديد من النقاد إلى اتهامه بأنه يلعب دور "المثقف المتواطئ" مع القوى المحافظة التي تسعى إلى الحفاظ على الوضع الاجتماعي القائم، بعيداً عن أي تغيير جذري.

تجنب التحليل الطبقي لقضية الرق:

يُعد المنهج الماركسي أحد أهم الأدوات الفكرية لتحليل القضايا الاجتماعية مثل الرق والتهميش، حيث يعيد ربط هذه الظواهر بالبنية الاقتصادية للمجتمع والعلاقات الطبقية التي تنتج عنها. إلا أن عبد الله علي إبراهيم، في أعماله مثل كتابه "الرق في السودان: التاريخ والسياسة"، يحاول تبني رؤية تاريخية وثقافية للرق، تتجنب إلى حد بعيد أي تحليل جذري لأصول الرق كظاهرة اقتصادية واجتماعية ما زالت آثارها قائمة حتى اليوم.

عبد الله يتناول الرق بوصفه جزءاً من تجربة تاريخية، مستعرضاً "تعقيداتها الثقافية" بدلاً من التطرق إلى الجذور الطبقية والهياكل الاقتصادية التي جعلت هذه الظاهرة تستمر لفترات طويلة. في هذا السياق، يقدم الرق وكأنه "أثر من الماضي" يجب فهمه تاريخياً بدلاً من مناقشته كظاهرة حية تستمر في تأثيراتها السلبية على الفئات المهمشة في المجتمع السوداني. هذا النهج يجعله متواطئاً مع القوى التي تسعى لتخفيف وطأة المعاناة التي تسببها هذه الهياكل الاجتماعية، وتُبعد النقاش عن معالجة الظاهرة من جذورها.

مواقف متصالحة مع المركزية والتهميش:

من المفارقات الواضحة في فكر عبد الله علي إبراهيم هو دفاعه المستميت عن المركزية الثقافية والسياسية التي تشكلت في السودان على مدى القرون. رغم أنه يتبنى بعض القضايا الماركسية في نقده للسلطة، إلا أنه لا يذهب إلى الحد الذي يتطلب إعادة توزيع الثروة والسلطة بين المركز والهامش. بل على العكس، يُظهر مواقف متصالحة مع النظم القديمة التي ساهمت في إدامة التهميش والإقصاء. هذا يظهر بشكل جلي في مواقفه من الهياكل الاجتماعية للسودان القديم، حيث يرى في هذه الهياكل توازنات ضرورية لاستقرار البلاد، رغم أنها في الحقيقة تعكس عدم المساواة العميق بين الفئات الاجتماعية.

ادعاء أن الجلابة يشعرون بالذنب تجاه الرق:

في ورقته المعنونة "الجلابة وعقد الذنب الليبرالية"، يدعي عبد الله علي إبراهيم أن النخب الليبرالية الجلابة تشعر بنوع من الذنب تجاه ماضيهم المتصل بممارسات الرق. هذا الادعاء أثار انتقادات كبيرة، خاصةً من المثقفين والنشطاء الذين يرون أن هذا الوصف لا يعكس الواقع الفعلي. كما أشرتَ في ندوته على منصة كلوب هاوس حول هذه الورقة، فإن النخب الجلابة يتسم موقفها من الرق ببرودة الدم، ولم يصلوا حتى إلى مرحلة الإحساس بالذنب، ناهيك عن أن يكونوا قد تطوروا إلى مستوى "عقدة" كما يدعي عبد الله. هذا التباين بين وصفه لموقف الجلابة والواقع الاجتماعي يعكس محاولته إضفاء طابع معتدل ومتوازن على فئة ساهمت في التهميش الاقتصادي والسياسي المستمر للمجتمع السوداني.

الاحتكام للتاريخ لتبرير الحاضر:

عوضاً عن تحليل جذري لمشاكل التهميش والرق، يحاول عبد الله علي إبراهيم تقديم هذه الظواهر بوصفها "تاريخية" ويُحجم عن التعامل معها كجزء من البنية الطبقية والاجتماعية و السياسية الحالية . هذا التوجه يظهر بوضوح في دراساته التي تُقدم الرق كجزء من النظام الاجتماعي التقليدي للسودان، وتتجاهل البعد الاقتصادي الذي كان يُحرك هذه الظاهرة. عبر الاحتكام للتاريخ، يُظهر عبد الله علي إبراهيم مقاومةً لتحليل البنية الطبقية التي تجعل الرق والتهميش ظواهر مستمرة حتى في السياق الحديث. بتقديم هذه القضايا على أنها مجرد إرث من الماضي، يسهم عبد الله في إعادة إنتاج نفس البنية الاجتماعية القديمة التي ظلت قائمة منذ الاستقلال.

دور المثقف المتواطئ:

يُمكن القول إن عبد الله علي إبراهيم، رغم ادعائه الالتزام بالمنهج الماركسي، يلعب دور المثقف المتواطئ مع قوى التخلف الاجتماعي. من خلال تجنبه التحليل الطبقي العميق لقضايا الرق والتهميش، ومن خلال تصالحه مع النظام الاجتماعي القديم، يساهم في إدامة اللامساواة التي يعاني منها الهامش السوداني. يتجنب معالجة الهياكل الاجتماعية التي تخلق هذه الظواهر، وبدلاً من ذلك، يُقدم مبررات ثقافية وتاريخية لها، مما يجعله أقرب إلى النخب المحافظة التي تسعى للحفاظ على الوضع الراهن.

مقارنة مع فكر المثقفين الراديكاليين:

في مقابل هذا النهج، نجد أن المثقفين الراديكاليين في السودان يتبنون منهجاً مغايراً تماماً، إذ يرون أن الحل الجذري لقضايا التهميش والرق يتطلب تفكيك النظام الاجتماعي القائم وإعادة بنائه على أسس جديدة من العدالة الاجتماعية. هؤلاء المثقفون ينظرون إلى الرق والتهميش بوصفهما ظاهرتين مرتبطتين بالبنية الطبقية المعرقنة و البنية الاقتصادية في السودان، ويدعون إلى ضرورة إعادة توزيع السلطة والثروة بشكل أكثر عدالة يعيد مواطنية الجميع إلا خط استواء المواطنة، بالمقارنة، نجد أن عبد الله علي إبراهيم يسعى إلى الإصلاح من الداخل، دون المساس بالجذور الطبقية للمشاكل، مما يجعله متحالفاً مع النظام الاجتماعي القديم.

عبد الله علي إبراهيم، رغم انتمائه الفكري المعلن للماركسية، اتخذ مواقف ممالئة لنظام الإنقاذ الإسلاموي الذي حكم السودان من 1989 إلى 2019، وهو ما أثار العديد من التساؤلات والنقد من مختلف الأوساط الفكرية والسياسية. هذه المواقف تبدو متناقضة مع التزامه المعلن بالماركسية، حيث من المفترض أن تعارض الماركسية الحقيقية أي نظام ديني أو استبدادي يكرس السلطة بيد النخب، وينتهك حقوق الإنسان ويعزز الفوارق الاجتماعية والاقتصادية.

. التناقض بين الماركسية والدفاع عن نظام الإنقاذ:

تتبنى الماركسية نظرياً مواقف صارمة ضد الأنظمة التي تعتمد على التمييز الديني أو الطائفي، وتدعو إلى إزالة الفوارق الطبقية والجور الاجتماعي. في المقابل، نظام الإنقاذ الذي أقامه الإسلاميون في السودان تحت قيادة عمر البشير كان نظاماً يرسخ المركزية ويعتمد على الإيديولوجيا الدينية في إدارة الدولة. كان هذا النظام معروفاً بالتمييز ضد الأقليات العرقية والدينية، وقمع الحريات العامة، واعتماد أسلوب القمع السياسي والعسكري لترسيخ سلطته.

ورغم هذه الحقائق، نجد أن عبد الله علي إبراهيم لم يتخذ موقفاً صريحاً معادياً للنظام، بل أبدى في بعض الأحيان نوعاً من التفهم أو الدفاع عن سياساته، بحجة الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والسياسي في السودان. هذا الموقف يثير تساؤلات حول مدى التزامه الفعلي بالماركسية، التي تدعو إلى مقاومة مثل هذه الأنظمة.

التحالف مع النظام بدلاً من الثورة عليه:

في أكثر من مناسبة، دعا عبد الله علي إبراهيم إلى إصلاح النظام من الداخل بدلاً من تغييره جذرياً، وهي دعوة تبتعد عن جوهر الماركسية الثورية التي ترى أن الأنظمة الاستبدادية يجب أن تُزال لا أن تُصلح. فقد برر بعض سياسات النظام الإسلامي بأنه يمثل نوعاً من "الاستمرارية" الاجتماعية والسياسية للسودان، مما جعله يبدو وكأنه يميل إلى المحافظة على النظام القائم بدلاً من نقده وتحليله طبقياً كأداة لاستغلال الفئات المهمشة.

هذه المواقف تخدم النظام الإسلامي، إذ أن المثقف الذي يطالب بالإصلاح وليس التغيير الجذري يمنح النظام شرعية ويساعد في تخفيف الضغط السياسي عليه. هذا التوجه يتناقض مع المفهوم الماركسي للثورة التي تعتبر أن الإصلاحات السطحية في الأنظمة الطبقية أو الاستبدادية لا تؤدي إلى العدالة الاجتماعية وإنما تؤخر التحول الجذري.

تبرير الانتهاكات باسم الاستقرار الاجتماعي:

من الملاحظ في كتابات عبد الله علي إبراهيم ومواقفه تجاه نظام الإنقاذ، أنه غالباً ما يبرر السياسات القمعية والانتهاكات الإنسانية بدعوى "الاستقرار الاجتماعي" أو "توازن القوى" بين المجموعات الثقافية والدينية المختلفة في السودان. في هذه الرؤية، يتم تصوير النظام على أنه يحافظ على توازن حساس داخل المجتمع السوداني، في وقت كانت البلاد تعاني من الحروب الأهلية والتمردات المسلحة في الأطراف مثل دارفور والنيل الأزرق.

لكن هذه الرؤية تتجاهل، أو على الأقل تتغاضى عن، أن هذا "التوازن" تم بناؤه على حساب حقوق الإنسان وانتهاك الحريات وتهميش المجموعات العرقية والسياسية في السودان. الماركسية، بطبيعتها، تعارض مثل هذه التبريرات التي تخدم الطبقات الحاكمة وتستغل الجماهير. إن تبرير النظام باسم الحفاظ على الاستقرار هو نوع من الممالأة الفكرية التي تتنافى مع أسس الماركسية التي تُعلي من شأن حقوق الإنسان وتدعو إلى التخلص من الأنظمة الاستبدادية.

إهمال التحليل الطبقي في تفسير النظام الإسلامي:

من العناصر الأساسية التي يغفلها عبد الله علي إبراهيم في دفاعه عن نظام الإنقاذ هو التحليل الطبقي العميق لهيكلية هذا النظام. فقد عمل النظام الإسلاموي على ترسيخ هيمنة نخبة اقتصادية وسياسية معينة، ترتبط بالسلطة المركزية، بينما زادت الفجوة بين المركز والهامش في البلاد. استخدم النظام الدين كأداة لتمكين هذه النخبة وفرض سلطتها على حساب الطبقات الدنيا والفئات المهمشة.

عبد الله علي إبراهيم، رغم أنه ماركسي، يتجنب في كثير من الأحيان تحليل هذه الديناميكيات الطبقية بعمق، وبدلاً من ذلك يقدم تفسيرات ثقافية أو تاريخية لوجود النظام. في حين أن التحليل الماركسي يتطلب فهم السلطة كأداة لاستغلال الفقراء والمهمشين، يُظهر عبد الله نوعاً من القبول غير النقدي لتركيبة السلطة في السودان، مما يجعله متواطئاً مع بنية السلطة غير العادلة التي أقامها نظام الإنقاذ.

الانحياز إلى المركزية الثقافية والدينية؛

يتخذ عبد الله علي إبراهيم مواقف متصالحة مع المركزية الثقافية والدينية التي عززها نظام الإنقاذ، وهي رؤية تتناقض مع الفكر الماركسي الذي يرفض سيطرة النخب الثقافية والدينية على حساب الأقليات والمهمشين. عبد الله، في كثير من كتاباته، يقدم المركز السوداني كوحدة ثقافية لها دور تاريخي في بناء الدولة السودانية، ويقلل من شأن الهامش والأطراف التي عانت من سياسات الإقصاء والتهميش.

هذا الانحياز إلى المركزية يخدم النظام الإسلاموي الذي اعتمد على السيطرة المركزية واستخدام الدين كأداة لتوحيد البلاد تحت راية النخبة الحاكمة. بينما يدعو الفكر الماركسي إلى إزالة الهيمنة المركزية وإعادة توزيع السلطة والثروة بشكل عادل، نرى أن عبد الله علي إبراهيم يُظهر تقارباً مع هذه المركزية، وهو ما يعزز مواقفه الممالئة للنظام.

عبد الله علي إبراهيم هو مثال على المثقف الذي يدعي الالتزام بالمنهج الماركسي، لكنه في الواقع يتجنب استخدام هذا المنهج في تحليل بعض من أكثر القضايا حساسية في السودان، مثل الرق والتهميش و مشروع السودان الجديد. بدلاً من ذلك، يُفضل تقديم هذه الظواهر من زاوية تاريخية وثقافية، مما يجعلها تبدو وكأنها قضية (مثاقفة). في هذا السياق، يلعب عبد الله دور المثقف المتواطئ مع قوي التخلف الاجتماعي أو يلعب عن قصد دور الطابور الخامس للرجعية وسط الانتلجنسيا ابتغاء الحفاظ على الوضع الراهن دون مساس، متجنباً أي تحليلات جذرية قد تؤدي إلى تفكيك النظام الاجتماعي القديم وإعادة بنائه على أسس جديدة.

hishamosman315@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: النظام الاجتماعی نظام الإنقاذ هذه الظواهر الحفاظ على فی السودان مما یجعله التی ت

إقرأ أيضاً:

فابريزيو رومانو يكشف موقف ريال مدريد من بيع إبراهيم دياز

فابريزيو رومانو يكشف موقف ريال مدريد من بيع إبراهيم دياز

مقالات مشابهة

  • عبدالله بن زايد يعزي بوفاة جمال جمعة الجسمي
  • فابريزيو رومانو يكشف موقف ريال مدريد من بيع إبراهيم دياز
  • شاهد بالفيديو.. فرحة هستيرية من جمهور ولاعبي منتخب النيجر عقب فوزهم على غانا واعتقادهم خسارة السودان أمام أنغولا وساخرون: (أولاد ابراهيم للفرحة الفشنك ويعرفوكم كيف جنجويد)
  • فيديو نادر لزيارة الملك عبدالله رحمه الله للأردن قبل 48 عامًا
  • إبراهيم العنقري: أخضر باهت بدون عمل المدرب
  • الإعلام الإسباني يشيد بالمغربي ابراهيم دياز
  • قيصرية الكتاب تحتفي بالإنجازات الثقافية والتعليمية للشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ “رحمه الله” في أمسية “شخصيات وطنية”
  • دميرتاش يعلق على مقترح الإفراج عن عبدالله أوجلان
  • أدعية قضاء الحوائج.. ردد هذه الكلمات التي لا ترد
  • قراءة إسرائيلية في موقف النظام السوري من الحرب مع حزب الله