وقفنا في الحلقة السابقة حيث تم نشر الموضوع الذي يتعلق بشخص يحمل درجة الدكتوراة ولم يتحصل علي عمل في كندا في القازيتا الرسمية بأتاوا. بعد هذا النشر ، تمت لي معاينة تلفونية مع شركة تبعد من مكان أقامتي حوالي 5 ساعات بالسيارة . أقترحوا علي بعد نهاية المعاينة أن أعمل معهم متطوعاً ( لاكتساب الخبرة الكندية ) في برنامج في الشمال الكندي حيث تصل درجة الحرارة في فصل الشتاء الي أربعين تحت الصفر .
صادف ميقات نشر الموضوع بالصحيفة الرسمية أنهيار منظومة الأتحاد السوفيتي التي أعقبها أتفاق عسكري بين دول الناتو وجمهورية روسيا الذي علي أساسه يتم التخلص من الترسانة النووية للأتحاد السوفيتي التي تقع في دولة أوكرانيا . التزمت كندا التي هي عضو بالناتو بمعالجة المخلفات النووية من الصواريخ بعد نزع رؤوسها النووية ، وعلي ما أعتقد نزع الرؤوس كان من نصيب فرنسا . هذه المعالجات تشمل فحص التربة ومعالجتها كيميائياً كما تشمل معالجة الوقود النووي الذي يتسرب من الحافظات . البرنامج تم تمويله من دول الناتو وكان يتطلب دراسة جدوي من وزارة البيئة الكندية وعلي حسب البرنامج تلتزم كندا بتدريب فنيين عسكريين من الجيش الأوكرايني بأتاوا بالمركز التكنلوجي للبيئة لكي يتعرفوا علي آخر التطورات العلمية في معالجة المخلفات البيئية . نصحني الصديق الروسي كنستنتين الذي تم أستقدامه من الأتحاد السوفيتي لهذا المركز قبل عام من حضوري للتقديم لوظيفة باحث بهذا المركز . تمت لي المعاينة ومن ثم القبول كباحث للمشاركة مع الفريق الكندي / الأوكرايني لفحص عينات هذه التربة الملوثة وكذلك الوقود الناتج من التسريب . كندا تمتلك الخبرة في أزالة وهدم المنشآت الحربية القديمة ومن ثم أصلاح التربة التي قامت عليها هذه المنشآت إضافة الي أن من ضمن أعباء الوظيفة الجديدة تشمل الترجمة الفورية من الأنجليزي الي الروسي وبالعكس ، في المحاضرات وزيارات مراكز البحوث الكندية والمؤسسات العسكرية الكندية حيث كان جميع أفراد الوفد الأوكرايني يتحدثون اللغة الروسية . لم أكن أحسب أن اللغة الروسية يمكن الأستفادة منها بعد مغادرتي لموسكو وقد تكون مفتاحاً لوظيفة في كندا . وللمفارقة في أهمية اللغات تم في فترة لاحقة إعلان عن وظيفة تتبع لمصلحة الخدمات الأجتماعية بكندا كان من ضمن شروطها معرفة اللغة الأنجليزية والدينكاوية فصارت من نصيب زملينا المرحوم لوممبا . ولأنجاز البرنامج المُتفق عليه بين دولة روسيا والناتو تم أختيار دفعتين من العسكريين الأوكراينين ذو الرتب العالية لزيارة كندا للأستفادة من هذا الكورس التدريبي . كانت فترة علمية ثرة تعرفت فيها علي طبائع الشعب الأوكرايني عن قرب ورافقت الوفود في زيارات علمية الي عدة مراكز و عملت بالمختبرات الكندية وشاركت في كتابة ثلاثة أوراق علمية ومثلت المركز في مؤتمر علمي وأرسلت ُورقة علمية الي مؤتمر بالولايات المتحدة الأمريكية . مارست البحث العلمي مع الكنديين في مؤسسة ذات سمعة علمية عالية ، سمحت لي بأستعادة الثقة في مجال البحث العلمي الذي أنقطعت عنه فترة .
تعييني في هذه الوظيفة لم يكن بشروط خدمة دائمة ، كانت خدمتي بموجب عقد عمل مؤقت الشيئ الذي لم أوليه كبير أهتمام أول الأمر حيث كان الغرض الأساسي الحصول علي الخبرة الكندية . وبوصول حكومة المحافظين الي السلطة بدأوا بتقليص العمالة في دواوين الحكومة وأول ضحايا هذا الأجراء الموظفين غير الدائمين وكنت أحدهم .
بعد أن تم الأستغناء عن خدماتي ومع أكتساب التجربة الكندية كباحث أصبحت أبحث بشدة عن مجال لتطبيق هذه التجربة . لذا وقع بحثي للعمل علي الوكالة الدولية للطاقة الذرية وهي تعلمون هي الجهة التي تم التفويض لها بتفتيش الأسلحة النووية في العراق في أعقاب حرب الخليج الثانية بعد الكذبة التي أطلقها الرئيس السابق بوش . أرسلتُ خطاباً يحمل طلبي ومؤهلاتي وجاء الرد بالموافقة الأولي . حينها أصبحت علي بعد خطوة من أن أكسب الجولة وصرت أحلم بمدينة فينا مقر الوكالة ومسارحها وسرحت في التفكير وقلت في سري الحمد لله الذي أسري بعبده ليلاً من الاوبر الي الأوبرا . حلمت بزيارة العواصم الأوربية الخمسة التي لم تطالها يد النازية بالتدمير علي عكس ما يفعله جن جويدنا ومن خرجوا من رحمه حيث قضوا علي البادية والحضر والأخضر واليابس . لم تمضي فترة حتي أستلمت مكتوباً من الوكالة يطالبني بأرسال موافقة من دولة السودان علي الترشيح بحكم أني أحمل الجنسية والجواز السوداني وأن هذه الفرصة شاغرة ويحق لحكومة السودان أن تنافس فيها . حينها سُد الباب في وجهي حيث أني من المغضوبين عليهم من حكومة الأنقاذ أذ تم فصلي وتشريدي للصالح العام من الخدمة بناء علي سياسة التمكين لموقفي السياسي . حينها صرفت النظر عن هذه المحاولة و لم أطلب من حكومة السودان دعمي كمرشح وتبددت الأحلام .
بعد هذه المحاولة الفاشلة فكرت جدياً في العودة لفصول الدراسة . في ذلك الوقت كانت دراسة تكنولوجيا المعلومات مرغوبة ولها سوق عمل تجاري رائج . بعد أختبار ، تم أستيعابي لكورس دبلوم مكثف مدته عامان الأ أن الكلية قررت أن تقدمه في فترة عام يتبعها توظيف مؤقت لفترة ثلاثة أشهر في القطاع الخاص علي أن يتم دفع الراتب مناصفة بين الحكومة والقطاع الخاص . الهدف من هذا البرنامج مدفوع الأجر أنه يعطي الطالب فرصة لكي يكتسب خبرة كندية تساعده في الحصول علي وظيفة . كورس الدبلوم كانت تكلفته المالية عالية حيث تمت أستدانة المبلغ بسعر الفائدة العالي من البنك بعد الحصول علي ضامن . الشيئ المدهش في هذه الدولة عادة ما تجد شخصاً يعمل في مجال بخلاف المجال الأول للدراسة . مثلاً أن تجد شخصاً يعمل سباكاً وفي الأصل عمل مدير مبيعات أو سائقاً لشاحنه أو بص وكان قبل ذلك يعمل بتكنلوجيا المعلومات أو محامي أصبح سمساراً للعقارات أو فناناً أصبح طبيباً وهكذا، كل يسعي للعمل في المجال الذي يحقق رغبته . الشهادات الأكاديمية لا تلعب دوراً أساسياً في هذا المجتمع . عند وصولي الي كندا كان وزير التعليم بالولاية شخص أكمل الثانوية العامة . التحقت بالكورس الذي كان معظم الطلاب والطالبات فيه ذو خلفية ومعرفة بلغة الكومبيوتر والطباعة السريعة الا شخصي الضعيف حيث كانت معرفتي بعلم تكنلوجيا المعلومات لا تتعدي الطباعة علي الآلة الكاتبة وبصعوبة ، ناهيك عن التخاطب مع هذا الجهاز بلغة أقرب الي الهوليغرافية وتسمي في علم الحاسوب بالكودنق . عانيت في دراسة هذا العلم الجديد أكثر من التحضير للدكتوراة وأوشكت أن أتخلي عن الكورس ، معظم من كانوا معي في الفصل الدراسي أعمارهم في سن أبنائي . ومن نافلة القول ، التشبيه الأقرب لدراسة هذا الكورس والخوض في هذه المخاطرة كشخص درس القانون ثم أنتقل لدراسة علم الصيدلة أو شخص درسة تجارة أعمال ثم قرر أن يدرس علوم الفضاء . العقبة الوحيدة التي وقفت في طريقي ومنعتني من الأنسحاب من هذا الكورس بكرامتي كانت الأستدانة التي تمت من البنك ودفعت للدراسة وأصبحت معلقة في عنقي . وبعد حلول العام تم أكمال الكورس بحمده تعالي ونلت الشهادة وتدربت في شركة براتب لفترة ثلاثة أشهر ثم أمتد العمل في هذه الشركة لفترة عام تقريباً وللمرة الثانية يتم تخفيض للعمالة .
ذكرت في بداية هذه الحلقات أني من مرتادي المواصلات العامة وصادف في يوم من رجوعي الي المنزل أن جلس في المقعد المجاور لي أخ فلسطيني لا أعرف حتي أسمه تعودت أن أراه في هذا البص . تحادثنا في الرحلة وذكر أنه خلال هذا الأسبوع سيرحل من هذه المدينة الي مدينة أخري حيث وجد فرصة عمل أفضل في مجال الكومبيوتر. ومن غرائب الصدف أن المحطة التي تنتهي فيها رحلته هي نفس المحطة التي تنتهي فيها رحلتي . وعلي الرغم من أن الساعة قد قاربت الخامسة مساءً ، الأ أنه اصر أن أرافقه الي منزله الذي يقع علي الجانب الآخر من الشارع لمشاركته فنجاناً من القهوة . قبلت الدعوة وولجنا المنزل سوياً . كان مستأجراً لمنزل عادي ووجدت بداخل المنزل طفله الذي يبلغ من العمر حوالي الأربعة أعوام وزوجته اليابانية الأصل . رحبت بي وشرح لها ملابسات تعرفنا واني أبحث عن عمل في مجالي . ذكرت أنها قبل فترة رأت في الصحيفة أعلاناً بالتوظيف في الحكومة في مجال تكنلوجيا المعلومات حينما كانت الوظائف تنشر في الصحف وبدأت تبحث عن الصحيفة في كومة الصحف والأوراق المبعثرة ولحسن الحظ وجدتها وناولتني لها . صحيح بها الأعلان الأ أن نهاية تاريخ التقديم لهذه الوظيفة مضي عليه يوم أو يومين . علي الرغم من أنتهاء تاريخ التقديم أرسلت طلبي وتم أخطاري بمواعيد الجلوس لأمتحان في وزارة الخدمة والرعاية الأجتماعية . حضرتُ للاختبار في المواعيد المحددة وعند أستلام ورقة الأمتحان وبعد الأطلاع عليها شعرت بأن أجوبتي ضعيفه ولا تستحق مضيعة الوقت في الأستمرار ، وقبل أن أقرر ترك هذه المنافسة والخروج منها حضر الممتحنين وفحصوا أجاباتي وسألوني بعض الاسئلة . لم تمضي فترة طويلة حتي تم أتصال بي يفيد بأني نجحت في الأمتحان أضافة الي أن ترتيبي كان الأول مع المتنافسين الآخرين . وتم سؤالي علي الهاتف هل ما زلت لي رغبة بقبول العمل في هذا الديوان الحكومي بصورة دائمة أم طرأت ظروف جديدة أستدعت تغير رأي .
بدون تردد قبلت العرض وأنتظرت وصول خطاب التعيين بالبريد وتم تعيني بتاريخ 29 يناير عام 2001 . رحلة البحث عن العمل الدائم أستغرقت عشرة أعوام عجاف . أما زوجتي التي بدأت البحث بعدي أستغرقت رحلتها سبعة أعوام . التحقت بالخدمة الدائمة في الحكومة الكندية في عمرٍ ناهز الخمسين عاماً في وظيفة جديدة أصبحت مصدر رزق لي ولآخرين بعضهم نازحين والبعض الآخر يعيش بين مطرقة الجيش وسندان قوات القتل السريع .
يتبع
حامد بشري
12 أكتوبر 2024
hamedbushra6@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: فی مجال فی هذه عمل فی فی هذا
إقرأ أيضاً:
الشرع وترامب وإسرائيل.. محاور بحديث أردوغان بشأن ملامح سوريا الجديدة
تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اليوم الجمعة بشأن ملامح سوريا الجديدة بعد نحو أسبوعين من سقوط الرئيس المخلوع بشار الأسد وهروبه إلى موسكو.
وجاء حديث أردوغان خلال رحلة العودة من اجتماع منظمة الدول الثماني الإسلامي للتعاون الاقتصادي، والذي استضافته القاهرة يومي الخميس والجمعة.
وقال أردوغان إن أنقرة تتواصل مع الإدارة الجديدة في دمشق، وعلى رأسها أحمد الشرع.
وشدد الرئيس التركي على أن صياغة دستور جديد "هي أهم خطوة في مسيرة إعادة بناء الدولة السورية".
وقال "نحن على تواصل مع الإدارة الجديدة في سوريا، وعلى رأسها أحمد الشرع، أشقاؤنا السوريون هم من سيقررون مستقبلهم في الفترة المقبلة".
وتعهد بأن تساعد بلاده الإدارة الجديدة بسوريا في موضوع إعادة بناء الدولة وإبرام عقد اجتماعي جديد.
وأبلغ أردوغان صحفيين أن وزير خارجيته هاكان فيدان سيزور دمشق قريبا لمناقشة "الهيكل الجديد"، لكنه لم يخض في التفاصيل.
التجارة والعقوبات
ولفت الرئيس التركي إلى أن رفع العقوبات التي فرضت خلال حكم نظام الأسد سيساعد في إعادة إعمار سوريا.
وقال "سنضاعف علاقاتنا التجارية مع سوريا، الأمر الذي سيعود على البلدين بفوائد كبيرة في مختلف المجالات".
إعلانوفي السياق ذاته، قال أردوغان "ينبغي القول بأعلى صوت إن احتلال إسرائيل أراضي في سوريا أمر غير مقبول"، وتعهد بمواصلة "حشر إسرائيل في الزاوية وإجبارها على التصرف وفق القانون"، وفق تعبيره.
وشدد على أن تركيا لا يمكنها أن تقبل وجود أي تهديد على الجهة الجنوبية من حدودها، في إشارة إلى ما تعرف بـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي تصنفها أنقرة "إرهابية" وتسيطر على مناطق واسعة على طول الشريط الحدودي مع تركيا.
وأضاف أنه يأمل أن يؤدي تشكيل الإدارة السورية الجديدة بقيادة أحمد الشرع، إلى مستوى جديد من العلاقات الثنائية.
وعبر أردوغان عن سعادته برؤية دول غربية وإسلامية تجري اتصالات مع الشرع.
وقال إن المحادثات التي سيجريها مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عند توليه الرئاسة ستكون مهمة في ذلك الشأن.