دولة 56.. السردية التاريخية السودانية بين سلاسة التاريخ وعكر الأيديولوجيا
تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT
من ضمن المحاور المركزية في الحروب الثقافية بأميركا التي فقدت بها سرديتها التاريخية، والتي لمت شملها طويلاً، السؤال عن التاريخ الذي تأسست فيه الأمة الأميركية. فهل كان ذلك في عام 1776 كما تواضع الناس طويلاً، وهو تاريخ إعلان الاستقلال عن بريطانيا في الرابع من يوليو (تموز) من تلك السنة؟ أم هو عام 1619، وهو تاريخ رسو أول شحنة من الرقيق الأفريقي إلى شاطئها؟ وكانت جريدة “نيويورك تايمز” قد تبنت ما عرف بـ”مشروع 1619″ لأجل فهم لأميركا ينفذ إلى دفائن الاسترقاق في سياستها واقتصادها وعقلها وروحها.
وكان أميز ما قاله مؤرخون في نقد “مشروع 1619” أنه تاريخ اختطفته الأيديولوجية. فحتى بدء تاريخ المشروع في عام 1619، على حد قول نقاده، خطأ، لأن أول شحنة للرقيق الأفريقي كانت في عام 1526، لا في 1619، أي بفارق قرن من الزمان. ويشيع في خطاب المركز والهامش في السودان احتجاج جوهري على الدولة السودانية منذ استقلالنا في عام 1956 كدولة “جلابة”، أي صفوة الجماعة العربية المسلمة على أواسط النيل، لاحتكارها السلطة والثورة. وجعلت حركات الهامش المسلحة من كسر هذا المركز وتفكيك احتكاره للسلطة استراتيجية مقررة. وتجد اليوم خلال هذه الحرب في السودان، من بين قوى “الدعم السريع”، من يذيع هذه الاستراتيجية على رغم أن حركتهم، من دون الحركات الأخرى، لم تنشأ لتنازل المركز الذي كان على سدته “حكومة الإنقاذ” فحسب، بل كان المركز هو من أنشأها لخدمته. وفي وسط “الدعم السريع” استراتيجية أخرى هي استبدال دولة “جنيد” بالمركز، وهم الشعب في غرب السودان والساحل الذين منهم أسرة زعيم “الدعم السريع” محمد حمدان دقلو. وتلك قصة أخرى.
ساق هذا الاحتجاج على دولة 56 إلى سردية ضرار للسردية التاريخية الوطنية التي لمت شمل الوطن حيناً من الدهر، مما جاز القول فيها أيضاً إنها تاريخ مختطف بالأيديولوجيا. وسيقتصر حديثنا هنا عن ثورة 1924 ضد الاستعمار، التي تواضعنا على أنها “باكورة الحركة الوطنية الحديثة” بعدما خمدت الحركات المهدوية والعيسوية التي خرجت لقتال الإنجليز بعد قضائهم على دولة المهدية في عام 1898. وقامت تلك الثورة على أكتاف جيل خريج من المدارس الاستعمارية وخدم في وظائف ثانوية في جهاز الدولة. فهو غرس الإنجليز وعدتهم لمستقبل سودان حديث يخرج به من ظلمات البدائية كما قضى “عبء الرجل الأبيض” الذي هو عنوان المهمة الاستعمارية نفسها. وقضى الجيل نحو عقدين يؤهل نفسه ليكون قيادة للأمة تحل محل الأعيان من الزعامات الدينية والصوفية والقبلية التقليدية بطرائق أحسن بيانها حسن نجيلة في كتابه “ملامح من المجتمع السوداني” (1961). وتهيأت الفرصة له للمنافسة للقيادة في صيف عام 1924 في ظرف اختصم فيها طرفا الاستعمار الثنائي للسودان، وهما بريطانيا ومصر. فتعبأ الأعيان يجمعون التوقيعات على عرائض أرادوا بها بيعة بريطانيا وصياً على السودان حتى يبلغ مبلغ حكم نفسه بنفسه. وتعبأ الجيل الخريج، الذي انتظم في حركة باسم “اللواء الأبيض”، يمهر العرائض بتوقيعات تنصر الطرف المصري. واشتدت تلك الخصومة ضد الإنجليز والأعيان لتنتهي بخروج اللواء الأبيض إلى الشارع من مايو (أيار) إلى أغسطس (آب) 1924، والصدام مع الاستعمار في الخرطوم وطائفة من مدن السودان وجهاته. وهي الواقعة التي عرفت في تاريخنا بثورة 1924.
إذا قرأت تاريخ هذه الحركة في أدب الهامش ستجدها غاصة بدلالات عرقية ناسبت أيديولوجيا اتفقت له. وخرجت هذه الدلالات من روايات طعنت في الضابط علي عبداللطيف، زعيم حركة اللواء الأبيض، من جهة أصله القريب إلى الرق. وجاءت هذه العرقية للثورة من بابين. أما الباب الأول فمن تصحيح عبداللطيف لعبارة جاءت عند زميل له هو سليمان كشة الذي قال بـ”الشعب العربي” ليجعلها عبداللطيف “الشعب السوداني”. وهذه رواية ثابتة، إلا أن تحميلها الشحنة العرقية التي شاعت بها في الحاضر شطح غير مفيد. فلم تكن “سودانية” الشعب السوداني موضوع خلاف في ذلك الجيل. فيكفي أن صدح كل سجناء الحركة بـ”سودانيته” في حين أراد لهم الإنجليز أن ينتسبوا إلى قبائلهم. وكان ذلك منهم، في قول المؤرخة الأميركية للسودان، هذر شاركي، “استماتة عند وحدتهم الوطنية التي هي شراكة من جماعات عربية وأفريقية، لا رأياً في العرب من حيث هم”. فيصعب القول أن يضغن مصري الهوى مثل اللواء الأبيض على العرب، ومصر هي كل العرب لا تزال بالنسبة إلى السوداني. أما الباب الثاني للعرقية التي خيمت على اللواء الأبيض فعن رواية منتحلة. فجاؤوا من تاريخ اللواء الأبيض بعبارة لم يتفق رواتها بعد على مصدرها. والعبارة هي قول جماعة أو أحد أنه “مما يسيء إلى البلد أن يكون على رأسها مثل علي عبداللطيف. ومما يسيء لها أن يجرؤ من لا قدر لهم في المجتمع للحديث عن إرادة الأمة”. فردها المروجون تارة إلى مذكرة صدرت عن الأعيان يستقلون اللواء الأبيض لأنه نهض بأمره من في عرقه دخن. ويردونها تارة أخرى إلى حسين شريف محرر جريدة “الحضارة” الناطقة باسم الأعيان. ومتى راجعت صحاح التواريخ للواء الأبيض لن تجد لا المذكرة المنسوبة للأعيان ولا المقالة المزعومة لحسين شريف.
وحقيقة الأمر أن شريف كان ذكي الفؤاد استجاب لنداء حركة “اللواء الأبيض” بعد تظاهرتها في مايو 1924 برسالة نشرتها “التايمز” اللندنية دعا فيه إلى التمسك بالسودان للسودانيين وليس للإنجليز أو للمصريين كما تضاربت عرائض كل من الأعيان واللواء الأبيض، كل جانح إلى طرف من الحكم الثنائي. ودعا بريطانيا إلى تحديد المصالح المشروعة لمصر في السودان ومشاركتها في إرشاد السودانيين وتعليمهم. وانتقدها لتجاهلها تطلعات المتعلمين حتى ظنوا بها أنها لا تريد للسودان خيراً. ولاحظ المؤرخ جمال الشريف أن “مقال شريف متوازن على خلاف ما كان نشر قبلاً طالب فيه بفصل السودان عن مصر والالتحاق بالإمبراطورية البريطانية”.
من جهة أخرى، زلزلت حركة “اللواء الأبيض” باتساعها وسيطرتها على الشارع، موقف الأعيان. فغيروا رأيهم لا في منزلة أعضاء “اللواء الأبيض” الذين استحقرتهم قبلاً فحسب، بل أعادوا النظر أيضاً في ما بوسعهم مطالبة الإنجليز به، في شرط تغير لميزان القوى رجحت فيه كفة اللواء الأبيض، فقد رأوا مرأى العين أنهم لم يحسنوا قراءة الموقف. فتنادوا لاجتماعات انتهت بقائمة مطالب منها رفع قانون الطوارئ، وانتخاب نفر من السودانيين في مجلس الحاكم العام، وتكوين مجالس استشارية من سودانيين في مديريات القطر. وانزعج الإنجليز لجرأة الأعيان، ولكنهم قبلوا بترتيب أدوار للسودانيين في الحكومة، اشترطوا ألا يجري الإعلان عنها حتى لا تراهم مصر في ضعة المتنازل. ووقع اغتيال السير لي استاك، حاكم السودان العام، في مصر في العام نفسه. وانتهى الأمر بنزع الإنجليز لمصر من الحاكمية على السودان. والباقي تاريخ. وفي سياق هذه العرقية جاءت الحركة الشعبية لتحرير السودان (العقيد قرنق) إلى خطاب ثورة 1924. فشكت من أنها حدث مهمل حتى طالب ياسر عرمان، القيادي بالحركة، بالعناية بثورة 1924 على ما هو عليه من تهوين، بإعادة كتابة تاريخ السودان. وقد لا يتفق كثيرون معه على رأيه في منزلة 1924 على كل حال. ورأى ياسر عرمان في الثورة مزاوجة بين النضال ضد الاستعمار وضد العنصرية. وتمثلت الأخيرة في اختيار الجيل الخريج لعبداللطيف زعيماً عليهم رغم ما يعرفون عنه على أساس “السودانواية”، وهي عبارة الحركة في الناس السواسية في دولة ما بعد عام 56. وسبق ضياء الدين بلال، الصحافي البارز، إلى التوقف عند سر احتفاء الحركة وعناصرها من شمال السودان بعبداللطيف. وسأل إذا كان ذلك خيار الجنوبيين أم أنه اختيار شماليي الحركة الذين أرادوا تسويغاً تاريخياً لقبولهم جنوبياً مثل قرنق زعيماً عليهم. وبلغوا من ذلك أن وضعوا صورته جنباً إلى جنب مع عبداللطيف على لوحة على واجهة فندق الهيلتون بالخرطوم بعد اتفاق السلام الشامل في عام 2005. وقال ياسر إن قرنق سعد بها ونزل من غرفته ليلقي عليها نظرة، علاوة على تدشين ياسر عرمان حملته الانتخابية لرئاسة الجمهورية عن الحركة الشعبية في عام 2010 من دار أسرة علي عبداللطيف.ماذا يخصم مثل اختطاف الحركة الشعبية للتاريخ من التاريخ؟ والإجابة أنه يتقعر به ويختطف سلاسته. وكانت إيلنا فيزداني استنطقت في كتابها “القومية الضائعة: الثورة، الذاكرة، والنضال ضد الاستعمار في السودان” (2015) تاريخ عام 1924، سلاسة عرقية يقصر عنها من دخلوه من غير أبوابه، أي من شباك الأيديولوجية. ميزت فيزداني في كتابها لحظة سلاسة عن سواسية الزمالة في الحركة قلبت معادلة السيد والعبد رأساً على عقب. فكانت جمعية اللواء الأبيض كلفت زين العابدين عبدالتام ومحمد المهدي الخليفة عبدالله في يونيو (حزيران) 1924 بالسفر إلى مصر ليقدما للمسؤولين فيها العرائض التي جمعت لها توقيعات السودانيين في مناصرة مصر في صراع طرفي الحكم الثنائي (إنجلترا ومصر)، ضد الإنجليز الذين ناصرتهم عرائض مضادة من الأعيان. ولضغط كلفة تلك السفرة على الجمعية، اشترى زين العابدين لمحمد المهدي تذكرة مخفضة مستحقة لخادمه كضابط بالجيش. والمفارقة في الوضع هناك كانت عن تبادل الأدوار بشكل صار فيه محمد المهدي ابن الخليفة عبدالله، الذي حكم السودان بين 1885 و1889، وحفيد محمد أحمد المهدي، الذي قاد الثورة على النظام التركي المصري في 1881، خادماً لزين العابدين الذي من أصل في الرق. وسألت فيزداني “كيف ساغ لزين العابدين التعاون مع سليل أسرة متهمة بأنها أذاقت مثله الأمرين في الماضي؟ وكيف ساغ لهذا الشريف محمد المهدي أن يقوم بدور الخادم لمثل زين العابدين؟ فلا بد أن ما جمعهما في تلك اللحظة التاريخية كان خروجاً على نص الثقافة المتوارثة من فوق”، تعاقد جديد سمته “مجتمع المحتجين”.
عبدالله علي إبراهيم – اندبندنت عربية
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: فی السودان مصر فی فی عام
إقرأ أيضاً:
امتحانات الشهادة السودانية.. الطريق إلى تقسيم السودان عبر “سلاح التعليم”
امتحانات الشهادة السودانية.. الطريق إلى تقسيم السودان عبر “سلاح التعليم”
فتحي محمد عبده
وضعنا البيان الصادر عن لجنة المعلمين السودانيين يوم أمس الأول أمام حقائق مهمة ومؤسفة في الوقت نفسه، فيما يتعلق بامتحانات الشهادة السودانية التي قررت حكومة بورتسودان إقامتها بنهاية ديسمبر الجاري. ففي خضم الحرب المستمرة في مناطق واسعة من البلاد لما يقارب العامين، التي أنهكت البلاد وأثقلت كاهل الشعب، تأتي قرارات حكومة بورتسودان بإقامة امتحانات الشهادة الثانوية لعام 2023 في المناطق التي تسيطر عليها القوات المسلحة فقط، كخطوة غريبة، وهي امتحانات “أُجِّلت” بسبب الحرب وتوسع رقعتها. ومما لا شك فيه أن هذه القرارات تحمل في طياتها تداعيات خطيرة على وحدة البلاد ومستقبلها. هذه القرارات، التي تبدو في ظاهرها تنظيمية، تحمل أبعادًا سياسية واجتماعية تهدد بالانقسام وتعزيز الإقصاء، وهو ما يمهد الطريق لتقسيم السودان بشكل أعمق وأكثر تعقيدًا.
منذ اندلاع الحرب، أصبح التعليم واحدًا من أكثر القطاعات تضررًا، حيث توقفت المدارس في العديد من المناطق، خاصة المناطق التي وصلتها نيران المتحاربين، وفُقدت فرص التعلم لمئات الآلاف من الطلاب بسبب الظروف الأمنية. ورغم هذه الأزمة، أصرت حكومة بورتسودان على إجراء الامتحانات في 28 ديسمبر 2024، متجاهلة الظروف الأمنية والمعيشية التي تعصف بالبلاد. وفوق هذا كله، قررت عدم إجرائها في ثماني ولايات كاملة وأجزاء واسعة من ست ولايات أخرى، بمعنى أن من أصل ثماني عشرة ولاية سودانية، سيجلس طلاب أربع ولايات فقط للامتحانات بشكل كامل.
وفقًا لبيان لجنة المعلمين السودانيين، فإن أكثر من 60% من الطلاب المؤهلين للجلوس للامتحانات سيُحرمون منها، خصوصًا في ولايات دارفور وكردفان الكبرى، وأجزاء من الخرطوم، والجزيرة، ومناطق أخرى تعاني من انعدام الأمن أو غياب الخدمات الأساسية. هذه النسبة الصادمة تعكس واقعًا مريرًا يتمثل في استبعاد شريحة كبيرة من الطلاب، وتحويل حقهم في التعليم إلى امتياز يُمنح فقط لمن يعيشون في مناطق محددة يتحكم فيها الإسلاميون ومليشياتهم.
الإصرار على إجراء الامتحانات في هذه الظروف، دون ضمان العدالة والشمول لكل الطلاب المؤهلين، ودون توفير بيئة آمنة لهم، يمثل انتهاكًا صارخًا لحقوق الطلاب. فالتعليم، الذي يُفترض أن يكون أداة محايدة تُفعّل من أجل الوحدة والسلام، يُستخدم الآن، لقصر نظر هؤلاء، كوسيلة لزرع الفتن، وتكريس الفوارق، وإقصاء فئات واسعة من المجتمع السوداني عن حقوقهم.
بالطبع، فإن قرار إجراء الامتحانات على النحو الذي أقرته حكومة بورتسودان ليس قرارًا إداريًا بريئًا، بل يعكس استراتيجية تتبناها هذه السلطة، التي يسيطر عليها عناصر من النظام السابق، لاستغلال التعليم كأداة لتعزيز نفوذهم السياسي والاجتماعي في مناطق محددة، والتحكم بمصير سكانها بزريعة دولتهم المزعومة، أو “دولة البحر والنهر” كما يحلو لهم الاسم والعنوان.
وبالتالي، إقصاء وحرمان طلاب الشهادة الثانوية في المناطق خارج سيطرة القوات المسلحة وحلفائها من عناصر النظام العنصري البائد من الامتحانات، سيعمق بالتأكيد الشعور بالظلم، ويزرع بذور الانفصال وتقرير المصير في نفوس سكان هذه المناطق. لأن استثناء ولايات بعينها من العملية التعليمية، يُراد له أن يُرسّخ فكرة أن السودان ليس دولة واحدة متماسكة، وأن يُواصل ما انقطع من مشروع ما يسمى “بثورة الإنقاذ” الذي عمل على تحويل الدولة السودانية إلى مجموعة من الكيانات المنفصلة، تعاني بعضها دون الأخرى من انعدام العدالة وتفاوت الفرص والحرمان من الحقوق الأساسية والدستورية. وهو ما يمثل تهديدًا خطيرًا لوحدة السودان ومستقبل أجياله.
الوسومالشهادة السودانية حرب السودان دارفور لجنة المعلمين السودانيين