في عصر «التوكتوك» نبكي زمن «الميكروباص»!
تاريخ النشر: 13th, October 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قبل أن يجتاحنا التوكتوك ذلك الكائن الحديدي الصغير القبيح ويصبح عنوانًا للعصر، كان هناك زمن "الميكروباص" الجميل فقط لأنه أقل بؤسًا وعشوائية وانحطاطًا.
في زمن الميكروباص كانت مصر تبدو محشورة، فالسائق يتجاوز حمولته "١٤مقعدًا" ويجبر الركاب على استيعاب راكبين أو ثلاثة.
مع ذلك كانت هناك مساحة للتنفس والجلوس براحة نسبية، الميكروباص حالة مُصغرة من العالم الخارجى، تستقله فئات متعددة من الطبقة الفقيرة إلى المتوسطة، وغالبًا تقضى رحلتك فى الاستماع إلى ما يختاره السائق سواء من أغان أو شرائط دينية.
وهنا تختلف وتتنوع الأذواق بحسب نوع ثقافة السائق وما إذا كان من أبناء أحيائنا الشعبية القديمة التقليدية أو من أبناء المناطق العشوائية الحديثة نسبيًا وقتها.
من أحمد عدوية وحسن الأسمر وعبده الإسكندراني وحكيم إلى عبد الباسط حمودة وشعبان عبد الرحيم وصولًا إلى أسماء غير معلومة لأغلب جمهور الميكروباص؛ لأنها تقدم الفن الهابط فى أوضح صورة.
وكما تتعدد الأصوات والموسيقى الشعبية تنوعت أيضًا شرائط الوعظ الديني، من الشعراوي إلى يعقوب وحسان وصولًا إلى الحويني.
بعض المطربين وبعض الشيوخ كانوا يثيرون جدلًا بين الركاب ومن بينهم من عرفوا بمطربى أو شيوخ الميكروباص خاصة أولئك الذين اشتهروا بين جمهور الركاب إما بالموسيقى الصاخبة المبتذلة أو الأداء المسرحي الذى لا يخلو من عبارات هابطة وأحيانًا جارحة بالنسبة لبعض الشيوخ.
فـي المجمل كان هناك ما تتفق معه ويروق لك تمامًا كما كان هناك مساحة لما ترفضه وتختلف معه.
زمن الميكروباص لم يكن أفضل شيء بالمقارنة لما سبقه من أزمنة وعهود، ومع ذلك لم يخلو الإعلام ولم تخلو الثقافة من معارك فكرية جادة تنطلق بين الحين والحين.
وكانت هناك برامج وصحف وإذاعات تُلبي معظم احتياجاتك كمستهلك للإعلام تسعى إلى المعلومة أو التحليل أو حتى الترفيه والتسلية.
وحتى المشتغلين بالسياسة كان لديهم ما يقدمونه لتتفق معه أو تعارضه وتطلب تحسينه أو ترفضه بالجملة؛ وبنفس مساحة التنفس فى عربة الميكروباص كانت هناك مساحة الاتفاق والاختلاف.
لم يكن الميكروباص الزمن الذي نحب العيش فيه لكننا وعلى أية حال أبنائه، ورغم كل شىء كانت هناك دائمًا فرصة للتطور ومع ذلك رفضناه بكل حرية وقوة.
أما هذا الكائن الحديدى الصغير القبيح الشهير بـ"التوكتوك" فكما يقول المثل المصرى "دعت عليه أمه من قدر له أن يكون أحد ركابه".
بالكاد تكفى هذه العربة القبيحة أربع أفراد، السائق وإلى جواره راكب ومن وراءه راكبان؛ ومع ذلك يصر السائق دائمًا أن تتسع عربته إلى خمسة ركاب إثنان إلى جواره وثلاثة من ورائه.
الكل مضطر لهذا الوضع الخانق حتى يدفع أجرة قدرها ٥ أو ١٠ جنيهات فإن قل العدد اضطر لدفع أجرة أعلى؛ فالسائق هو المتحكم الوحيد ودائمًا ما يلجأ إلى رفع الأسعار على فترات محدودة ولا مجال لمناقشته فيكفى صوته الخشن الدال على عنف وتوحش صاحبه تشعر وكأنه أشهر مطواة أو سكينًا فى وجهك.
ملحوظة.. جميع ركاب التوكتوك من المصنفين تحت خط الفقر، أو الذين أصبحوا فقراء حديثًا.
رغم أن التوكتوك مشرع بلا نوافذ إلا أن الهواء يرتطم به من كل ناحية ومع ذلك تبدو مصر مخنوقة داخل هذا الكائن القبيح.
أنت لا تستطيع مناقشة الرفع المتكرر للأجرة، ولا حتى الاعتراض على الأصوات العالية الصادرة من السماعات، إنها ليست لمطربي زمن الميكروباص الجميل ولا حتى لشيوخ الصياح؛ إنها لشيء لا تسمية له فى الواقع؛ هى ليست موسيقى ولا إيقاع ولا غناء ولو فسرت كلمة أو كلمتين فلن يخرج عن التأديب والوعيد أو اسم أحد الأسلحة البيضاء أو اسم مادة مخدرة.
مجرد الاعتراض يعنى ببساطة الطرد من جنة التوكتوك الذى أعدها السائق الفاقد لكل مهارات التواصل مع البشر.
داخل التوكتوك لا شىء توافق عليه أو تختلف معه أو حتى ترفضه وأنت موجود فقط لأنه وسيلتك الوحيدة لاجتياز شوارع وحوارى هى فى أقل وصف مهذب لها غير معبدة وغابت عنها عيون المسئولين المحليين فى الأحياء.
التوكتوك دنيا مصغرة للعالم الخارجى، فهو عنوان لعصر غاب فيه الفن الراقى والهابط معًا، بل أن بعض مطربى وشيوخ الميكروباص يمثلون الآن كلاسكيات أبناء هذا الجيل؛ وكما أنه لا شىء داخل التوكتوك لا شيء أيضًا خارجه.
للأسف أبضايات المهرجانات أصبحوا عنوانًا لنجوم الفن، وساحة المعارك الثقافية والفكرية والسياسية أصبحت خلاء لا تسمع فيها حتى صوت صرصور الحقل.
المشتغلون بالسياسة لا يقدمون ما تتوافق معه أو تختلف أو حتى يستحق الرفض.
فى زمن الميكروباص اتفق هواة الفن الهابط والخطاب الثقافى الرفيع على أن مقاومة المحتل حق أصيل لا مجال لمناقشته.
وفى عصر التوكتوك صار عندنا مثقفى المهرجانات يلقبون بالمفكرين والسياسيين فقط لأنهم يرفضون مقاومة المحتل بدعوى عدم الجدوى ويخونون كل داعم للمقاومة بزعم أنها خطر يهدد بتفكيك الدول.
فى زمن الميكروباص لم نسمع من يردد دعاية الصهاينة؛ وفى عصر التوكتوك صال وجال فى بعض الفضائيات من يكرر على مسامعنا خطابات نتنياهو والإعلام العبري.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: التوكتوك الميكروباص کانت هناک ومع ذلک
إقرأ أيضاً:
هل هناك تحديات في تعزيز جودة التعليم المدرسي؟
هناك مجموعة كبيرة من العلماء الذين لهم بصمات ملموسة في مجال إدارة الجودة ولعل أبرزهم الذين أثروا بمفاهيمهم الإبداعية والعلمية حول الجودة هو(Edward Deeming) . تلك المفاهيم التي تم إيجازها في أربع عشرة نقطة التي منها: التحسين المستمر لمسار عمليات الخدمات المقدمة، وبناء القيادات والكفاءات بالمؤسسة، وتصميم برامج للتعليم المستمر، ومشاركة جميع العاملين في مشاريع المؤسسة، وتدريب العاملين على رأس العمل. هذه المفاهيم أصبحت نظريات يتم الاسترشاد بها في تأليف الكتب وفي تقديم الأوراق والمؤتمرات العلمية المتعلقة بإدارة الجودة والجودة الشاملة. وبالتالي، وإن كانت بداية تطبيق مفاهيم الجودة كانت في القطاع الصناعي فهي قابلة أيضا للتطبيق في جميع القطاعات ومنه قطاع التعليم المدرسي.
أيضا الجودة تتمحور حول التجديد المستمر في كل ما يتعلق بالعملية التعليمية ومنها المناهج والمقررات الدراسية التي يتحدد دراستها في كل سنة دراسية لتكون متواكبة مع متغيرات العصر والتقنيات الحديثة في طرق التعليم والتعلم. ومن جوانب التجديد في العملية التعليمية فإن هناك دولا بدأت تلغي تدريجيا استخدام الكتب الدراسية واستبدالها بموضوعات يتم تحديثها -بشكل مستمر- لتكون متواكبة مع التطور العلمي في شتى مجالات العلوم والمعارف. تلك العلوم والمعارف ينبغي أن تعطى للطالب بطريقة يغلب عليها جانب التفكير النقدي وحل المسائل والنظريات العلمية بطابع تحليلي يراعي الفروقات الفردية للطلبة مع تجنب الطرق التقليدية المتعلقة بنماذج التعليم عن طريق التلقين والحفظ والذي يقلل من مستويات الفهم ويضعف الاحتفاظ بالمعلومات مع غياب التفكير الإبداعي والنقدي. أيضا طريقة الحفظ والتلقين قد تُسهم في تضخيم حصول الطلبة على درجات عالية في المواد الدراسية بطريقة قد لا تعكس جودة العلوم والمعارف التي أتقنها أو تعلمها أو فهمها الطلبة. بمعنى أن التلقين والحفظ لا يؤديان إلى الجودة المستهدفة أثناء مرحلة التعليم المدرسي.
تعزيز جودة التعليم للوصول إلى مستويات الجودة عن طريق مقارنة المؤشرات المستهدفة مع النتائج المحققة لا تأتي بسهولة بل تحتاج إلى برامج تدريبية للمعلمين الذين هم أهم ممكنات جودة التعليم المدرسي عليه المعلم يحتاج - بشكل دوري ومنتظم - إلى صقل لمهاراته العلمية لتتوافق مع التجديد في طرق التعليم بحيث يتم التقليل من إعطاء الطلبة الكم الهائل من المعلومات أثناء مرحلة التعلم واستبدال ذلك باستخدام أساليب المعرفة العلمية المتمثلة في التشويق والتفاعل الصفي بين الطلبة والمعلمين. بهذا من الممكن توجيه الطلبة نحو التعلم الذاتي مع غرس روح المسؤولية لديهم بأن المدرسة هي الحاضنة الأساسية لهم وهي مستقبلهم للوصول إلى تحقيق أحلامهم في المراحل الدراسية المتقدمة. أيضا المعلم يحتاج إلى مساندة بأن يتولد لديه إحساس بأنه يحمل أمانة علمية من المعرفة العلمية لينقلها بطريقة مثالية للطلاب وبأن يكون دوره في تنشئة الأجيال دورا قياديا. وبالتالي بذلك سوف يُسهم المعلم في تعزيز جودة التعليم المدرسي والجوانب الأخرى في المنظومة التعليمية هي مكملة له.
الجودة لها علاقة بنظام الامتحانات وتقييم الطلبة في الأنشطة الصفية واللاصفية والتقارير والبحوث التي يعدها الطلبة خلال الفصل الدراسي. فعلى الصعيد الوطني بالنسبة لدبلوم التعليم العام فتم منذ سنوات تحديد نسبة (30 %) لتقييم الطلبة أثناء الفصل الدراسي ونسبة (70 %) للامتحان النهائي. وإن كان هذا التقييم شائعا في بلدان كثيرة حول العالم، ولكن الملاحظ بأن حصول الطلبة على الدرجات العالية في المواد الدراسية الأساسية قد يكون لهذا النظام دور في ذلك وليس بسبب جودة المنظومة التعليمية. أيضا قد يكون للدروس الخصوصية التي يتلقاها الطلبة خارج البيئة المدرسية هي السبب الرئيس في ارتفاع تلك النسب وليس ناتجا عن التحصيل الدراسي في المدرسة. هذه الدروس أصبحت الطريقة السهلة ولكنها غالية الثمن التي يلجأ إليها أولياء الأمور للتأكد من حصول أبنائهم على مقاعد دراسية مجانية من الحكومة في مرحلة التعليم العالي.
هذا التوجه المتزايد نحو الدروس الخصوصية أصبح يتنافس فيه حتى المعلمون أنفسهم فهي طريقة تدر دخلا مجزيا للبعض منهم. وبالتالي هذا مؤشر من الواقع الذي يعيشه الطلبة وأولياء الأمور خلال العام الدراسي كما تعدت تلك الدروس الخصوصية مرحلة دبلوم التعليم العام إلى الصفوف الدراسية الأخرى. أيضا هذا الانتشار إشارة واضحة بأن النظام التعليمي المدرسي يواجه تحديات حقيقية من حيث إن البيئة التعليمية التي يعيشها الطلبة خلال اليوم الدراسي قد تكون ليست كافية للحصول على تعليم ذي جودة عالية خلال مرحلة التعليم المدرسي؛ لأنه بعد انتقال الطلبة لمؤسسات التعليم العالي فإن الغالبية منهم تحتاج إلى تأهيل مكثف في المواد الأساسية ومنها اللغة الإنجليزية والرياضيات وتقنية المعلومات أو مواد السنة التأسيسية.
النظام التعليمي الذي يتسم بالجودة ينبغي أن يكون تكامليا يكون فيه الطالب هو الأساس في العملية التعليمية ويكون المعلم هو عمودها التي ينهل منه الطلبة شتى العلوم والمعارف العلمية والإنسانية التي تتصف بالتجديد والابتكار. جودة النظام التعليمي تحتاج إلى بيئة تعليمية جاذبة ومحفزة للتعليم. فليست العبرة بإنشاء المدارس وتهيئتها بأحدث التقنيات وإنما المغزى أن تكون تلك البيئة التعليمية يتفاعل معها الطلبة في جميع أنشطتها الصفية واللاصفية بطرق مشوقة وراغبة نحو التعليم. ولكن عندما تكون البيئة المدرسية في تصادم مع فكر ومخيلة الطلبة والذين أغلبهم ينتظرون بفارغ الصبر انتهاء اليوم الدراسي وتغمرهم الفرحة والبهجة بطول الإجازة الدراسية. مثل هذه البيئة المدرسية تصنف بأنها غير محفزة للتعلم. أحد المعلمين أخبرني وإثناء زيارته لإحدى المدارس الدولية بمحافظة مسقط بأن الطلاب لا يرغبون بمغادرة المدرسة حتى بعد انتهاء اليوم الدراسي، مثل هذه البيئة تصنف بأنها بيئة جاذبة للتعلم، وبالتالي، هي التي تسهم في تعزيز جودة التعليم المدرسي.
جودة التعليم المدرسي أصبحت تتردد في أغلب الاجتماعات واللقاءات الرسمية وحتى في أروقة الجهات الحكومية. فهذا مجلس الدولة يعمل على دراسة واقع تعزيز جودة التعليم المدرسي والتشريعات المتصلة بها والجوانب المتصلة برفع الأداء الأكاديمي وتكاملية أدوار أصحاب المصلحة ومنهم الطلبة وأولياء الأمور والمؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني. هذه الدراسة يجب أن تتعدى مرحلة التوصيات إلى مراحل التنفيذ نظرا لأهميتها في تعزيز جودة التعليم المدرسي الذي يتطلع منه بناء كفاءات من الطلبة المؤهلين علميا وذهنيا وفكريا. فعلى الرغم من تعدد النظم والتشريعات التي صدرت حول تطوير نظام التعليم وآخرها إصدار قانون التعليم المدرسي والذي أعطى مواد قانونية بأن للطلبة الحق في الحصول على تعليم ذي جودة عالية، إلا أن التحديات لا زالت قائمة.
عليه فإن الجهات المعنية بالتعليم مطالبة بالمضي قدما نحو التفعيل الصحيح لتلك الحقوق. فمن خلال تلك التشريعات أصبحت الجودة - حقا- للطالب وليست مطلبا، حيث يستطيع من خلال ذلك الحق أن يجادل ويناقش المؤسسات والمدارس المعنية بالتعليم المدرسي عن مؤشرات تحقيق الجودة في التعليم المدرسي فهل تلك المؤسسات مستعدة لذلك؟
د. حميد بن محمد البوسعيدي خبير بجامعة السلطان قابوس