لبنان شجرة أرز، نمت فوق جبال الزمان. أصلها مكين في أعماق طبقات التكوين التاريخي الإنساني. أوراقها كُتبت عليها سطور التمثيل الضوئي لعبقرية الحركة والإبداع. الفينيقيون سبحوا مبكراً بمجاديف الحضارة على سطح ماء البحر الأبيض المتوسط. رست المراكب الفينيقية في شواطئ شمال أفريقيا، حيث أسسوا حضارة امتلكت قوة مالية وعسكرية.
قرطاجنة مدَّت جسور الوصل بين البحر والبر، وعبرهم عرفت أوروبا أفريقيا. فوق جبال لبنان الخضراء، ترعرعت عبقرية الحركة القوية والناعمة، في البر والبحر. أعطت للإنسانية ما لم تكن تعرفه. طالتها ضربات الزمن الثقيلة، لكن خريطتها الطبيعية رسمت طبائع مَن نبتوا على أرضها. جابوا أرض الله شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. في البلاد العربية كان اللبناني دقة زندٍ تشعل أضواء العقول ونسمة إبداع.
فاض العطاء اللبناني إبداعاً في الأدب والصحافة والمسرح والموسيقى والغناء، وغمر جداول البلاد العربية، عبر العقود الممتدة. لبنان الحقل الذي تطير له بذور الإبداع الفارة من حبال الخنق أو الاختناق في أوطانها. نسيم الحرية كان هو الفصول الأربعة، وفي مساحته الصغيرة، اتسعت رحاب الأفكار. في أرضه يلتقي المختصمون العرب، يكتبون ويقولون، وفي لياليه يتحلقون حول موائد ما لذ من الطعام، وما راق من الشراب. تتحول لغة الخصام إلى قفشات ونكات وضحكات، وتصير كلمات السياسيين والصحافيين والمثقفين المؤدلجة، أنغام سمر تحيي العجائز، وتنعش الشباب. الأنظمة السياسية العربية تحوَّل كثير منها إلى لاجئ فكري وسياسي، في أرض لبنان، عبر مصطفين محليين في تنظيمات سياسية، ووسائل إعلام تعرض بضائع لاجئة، في خندق الحرية الفسيح لبنان. للمكان عبقريته التي تقدم دون توقف الإبداع، وتهب الجديد في الأدب والفن والفكر، وفي الموسيقى والسينما والغناء. في القارة الأفريقية، أينما حللتَ تجد لبنان عِلماً وثقافة وتجارة وطبّاً، وعن الأميركتين حدث ولا تسكت. قادة سياسيون، ورجال أعمال كبار وصغار، ومبدعون في كل مجال. لقد أهدت هذه المساحة الصغيرة العالم كلّ ما هو جميل. لبنان ينبوع معانٍ وإبداع وأغنية حب وطرب؛ قصيدة أمير الشعراء أحمد شوقي التي تغنى فيها بمدينة زحلة اللبنانية، التي عشقها وهي تطل بروعتها على وادي العرايش، رسم فيها بحرارة هيامه، وفرحة لغته، رسم فيها لوحة بألوان الزمن الجميل. مَن يستطيع أن يقاوم جبل الجمال، الذي ترفرف في عليائه شجرة الأرز؟ تغزَّل أحمد شوقي في زحلة التي أسرته بلا حدود، فقال:
يا جارة الوادي طربتُ وعادني
ما يشبه الأحلام من ذكراكِ
مثلتُ في الذكرى هواكِ وفي الكرى
والذكريات صدى السنين الحاكي
ضحكت إليَّ وجوهها وعيونها
ووجدتُ في أنفاسها ريَّاكِ
لم أدرِ ما طيب العناقِ على الهوى
حتى ترفَّق ساعدي فطواكِ
كان أمير الشعراء أحمد شوقي عاشقاً لزحلة.
في إحدى زيارته لها، كان برفقته الكاتب فكري أباظة، والموسيقار المطرب الكبير محمد عبد الوهاب، فكتب قصيدته الخالدة في عشق زحلة. وعندما ألقى شوقي القصيدة على مرافقيه، هلَّل محمد عبد الوهاب، وقال لشوقي: «هذه القصيدة نبعت منك كي تُغنى». لحنها عبد الوهاب وغناها، ثم غنتها فيروز، ونور الهدى، والمطرب المغربي عبد الهادي بلخياط. زحلة هي لبنان المعنى، والحب والتعايش والإبداع. فيها اجتمعت كل الألوان الدينية، تظللها شجرة الأرز المبدعة، وأوراقها تفوح بفرحة الفن والأدب والحب. هناك وُلِد سعيد عقل، الشاعر المفكر الذي أبدع قصيدته:
غنيتُ مكة أهلها الصيدا
والعيدُ يملأ أضلعي عيدا
فرحوا فلالاً تحت كلِّ سما
بيتٌ على بيت الهدى زِيدَا
يا قارئَ القرآن صلِّ لهم
أهلي هناك وطيب البيدا
هذا المبدع المسيحي الدين غنَّى لمكة البيت الحرام، وتغنَّى بها. سُئِل شيخ أزهري كبير: «هل تستمع للأغاني؟»، فأجاب: «لا أستمع إلا لفيروز». غنت فيروز المسيحية ما نظمه ابن زحلة في مناجاته لمكة، فأعطتها صوتاً روحياً مبتهلاً. من لبنان وفي لبنان، تعانقت الكلمات، وابتهلت الأصوات. من أحمد شوقي ومحمد عبد الوهاب، إلى سعيد عقل وفيروز. كان الزمن اللبناني العربي المسيحي الإسلامي مطرَّزاً بالحب والسلام والإبداع والحياة.
كيف تحولت ظلال شجرة الأرز، إلى دغل مظلم، وتحولت كلماته المترعة بالحب والحياة، وأنغامه الآسرة التي تروي الروح بموسيقى التعايش والعشق، إلى معزوفات رصاص، وصارت اللؤلؤة زحلة، تسمع وترى حفلات جنون القتل الفردي والجماعي؟ اندفع طوفان الطين الأحمر الإيديولوجي، وران على أرض الجمال لبنان؛ مرة بمدافع حشوها شعارات قومية، وأخرى بشعارات دينية. غرق مستطيل الحرية والإبداع والفرح، في مستنقع الموت والهروب واليأس. البحر الأبيض المتوسط، الذي حمل إلى الدنيا نتح شجرة الأرز، اختنقت نسائمه، وهو يرى ما حلَّ بمرافئ ما أبدع زمانه. لبنان كانت جارة وادي زماننا، وامتداد رحاب عقولنا وقلوبنا، صارت اليوم محفلاً لحروب كتائب جهلنا.
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
كلمات دلالية: عبد الوهاب أحمد شوقی
إقرأ أيضاً:
“شجرة الجميز” الجازانية.. بين الظلال والحكايات
المناطق_واس
في عمق القرى الجازانية وتحت شمس الجنوب، تقف “شجرة الجميز”، المعروفة محليًا باسم (الإبراية)، شامخةً بظلالها الوارفة وجذوعها العريضة، حافظةً لذاكرة المكان والناس، ومجالس الأهالي، ومظلةً للعابرين، وسجلًا مفتوحًا للحكايات والذكريات.
تنتمي شجرة الجميز، المعروفة علميًا باسم “Ficus sycomorus”، إلى عائلة التين، وتتميز بجذع ضخم متفرّع وأوراق عريضة تُضفي ظلًا كثيفًا، مما يجعلها من الأشجار المفضلة في البيئات الحارة، وتنتشر في منطقة جازان، لاسيما في السهول المحيطة بالقرى القديمة، حيث اعتاد الأجداد غرسها بجوار البيوت، والآبار، والمساجد.
أخبار قد تهمك الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز يرعى إطلاق فرص تنموية لمستفيدي فرع “الموارد البشرية” بالمنطقة الشرقية 30 أبريل 2025 - 3:34 مساءً نائب أمير المنطقة الشرقية يستقبل مدير عام فرع وزارة الموارد البشرية بالمنطقة 30 أبريل 2025 - 3:27 مساءًويحتفظ كبار السن في جازان بذكريات وحكايات عن (الإبراية) التي ظلت –ولا تزال– موئلًا لتجمع الرجال بعد صلاة العصر، وميدانًا للعب الأطفال وقت الظهيرة، ومنبرًا لقصص الأجداد في المساء، حيث يسبقها ظلّها في الحضور، فهي شجرة لا تُزرع للزينة فقط، بل للمعنى، والدفء، والانتماء.
وتنتج شجرة الجميز ثمارًا شبيهة بالتين، خضراء تميل إلى الاحمرار عند النضج، ذات طعم حلو يميل إلى الحموضة، كان الأطفال يقطفونها من الأغصان العالية ويتسابقون على تناولها، وهي وإن لم تكن من الثمار التجارية، إلا أنها تمثل جزءًا من الذائقة الشعبية القديمة.
وتوفر (الإبراية) نظامًا بيئيًا مصغرًا حولها؛ إذ تُعد موطنًا للطيور، ومصدر ظلّ للمزارعين، ومكان استراحة للمسافرين في القرى البعيدة، وتتميز بجذور قوية وقدرة على تحمّل الجفاف، مما يجعلها ملائمة لطبيعة جازان.
وشجرة الجميز، أو (الإبراية)، ليست مجرد عنصر طبيعي ضمن بيئة جازان، بل جزء من ذاكرة الإنسان، فظلها، وطعم ثمرها، وخشونة جذعها، تحكي قصص البساطة والكرم، في زمن كانت فيه الأشجار بيوتًا للروح، قبل أن تكون عنصرًا من عناصر البيئة الطبيعية.
نسخ الرابط تم نسخ الرابط 30 أبريل 2025 - 3:39 مساءً شاركها فيسبوك X لينكدإن ماسنجر ماسنجر أقرأ التالي أبرز المواد30 أبريل 2025 - 3:19 مساءًطيران ناس يطلق النسخة الثانية من برنامج “عدسة ناسنا”… لتمكين الرحالة من صناعة المحتوى السياحي أبرز المواد30 أبريل 2025 - 2:57 مساءًوزير الخارجية ووزيرة خارجية فنلندا يبحثان هاتفيًا المستجدات الإقليمية والدولية أبرز المواد30 أبريل 2025 - 2:30 مساءًأمير نجران يتسلَّم التقرير السنوي لبنك التنمية الاجتماعية أبرز المواد30 أبريل 2025 - 2:21 مساءًطلاب تعليم المدينة المنورة يحصدون 129 ميدالية في “كانجارو موهبة” للرياضيات أبرز المواد30 أبريل 2025 - 2:13 مساءًالأمير سعود بن جلوي يستقبل سفير جمهورية صربيا لدى المملكة30 أبريل 2025 - 3:19 مساءًطيران ناس يطلق النسخة الثانية من برنامج “عدسة ناسنا”… لتمكين الرحالة من صناعة المحتوى السياحي30 أبريل 2025 - 2:57 مساءًوزير الخارجية ووزيرة خارجية فنلندا يبحثان هاتفيًا المستجدات الإقليمية والدولية30 أبريل 2025 - 2:30 مساءًأمير نجران يتسلَّم التقرير السنوي لبنك التنمية الاجتماعية30 أبريل 2025 - 2:21 مساءًطلاب تعليم المدينة المنورة يحصدون 129 ميدالية في “كانجارو موهبة” للرياضيات30 أبريل 2025 - 2:13 مساءًالأمير سعود بن جلوي يستقبل سفير جمهورية صربيا لدى المملكة الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز يرعى إطلاق فرص تنموية لمستفيدي فرع "الموارد البشرية" بالمنطقة الشرقية الأمير سعود بن نايف بن عبدالعزيز يرعى إطلاق فرص تنموية لمستفيدي فرع "الموارد البشرية" بالمنطقة الشرقية تابعنا على تويتـــــرTweets by AlMnatiq تابعنا على فيسبوك تابعنا على فيسبوكالأكثر مشاهدة الفوائد الاجتماعية للإسكان التعاوني 4 أغسطس 2022 - 11:10 مساءً بث مباشر مباراة الهلال وريال مدريد بكأس العالم للأندية 11 فبراير 2023 - 1:45 مساءً أجمل رسائل وعبارات صباح الخير وأدعية صباحية للإهداء 24 أبريل 2022 - 9:35 صباحًا جميع الحقوق محفوظة لجوال وصحيفة المناطق © حقوق النشر 2025 | تطوير سيكيور هوست | مُستضاف بفخر لدى سيكيورهوستفيسبوكXYouTubeانستقرامواتساب فيسبوك X ماسنجر ماسنجر واتساب تيلقرام زر الذهاب إلى الأعلى إغلاق فيسبوكXYouTubeانستقرامواتساب إغلاق بحث عن إغلاق بحث عن