الشخصية السياسية في ذاكرة الناس
تاريخ النشر: 12th, October 2024 GMT
على مدى العقود الأخيرة كان التلفاز النافذةَ التقليدية التي تدخل منها الوجوه والأسماء المشهورة إلى ذاكرتنا الشخصية والعائلية. وفي تلك الشاشة برزت شخصيات مهمة أصبحت فيما بعد جزءا من الذاكرة الجمعية لشعوبٍ بأسرها. هكذا كانت تتشكل علاقتنا الخاصة بنجوم الفن والرياضة، وبالطريقةِ نفسها، عبر الإعلام نفسه، كنا نستضيف زعماء العالم ورموزه السياسيين في بيوتنا.
بالظهور على وسائل الإعلام بين الحين والآخر، ومن خلال خطابهم الموجه لنا، أو لغيرنا، يسعى القادة السياسيون لصناعة صورتهم وحجز أماكنهم في ذاكرة الناس.
غير أن قوة حضورهم الإعلامي تبقى مستمدة من السلطة التي يمتلكونها على الأرض؛ أي قدرتهم على التغيير والتأثير فيما أحب أن أسميه بـ «لعبة الواقع». أما في الدول القائمة على سلطة الأفراد أكثر من سلطة المؤسسات، فيمكن وصف اللاعبين السياسيين فيها بأنهم فئة قليلة من الناس مسؤولة عن إدارة مجريات الواقع العام وتحديد ملامحه السياسية والاقتصادية. ولا غريب أن بعض القادة ما زالوا فاعلين في صميم حاضر شعوبهم حتى بعد سنوات طويلة من موتهم، فأخطاؤُهم وهزائمهم التاريخية ما زلت مستمرةً في يوميات الناس، تماما كإنجازاتِهم. وربما أجد تكثيف هذه الحقيقة في سطر لريجيس دوبري، يقول: «لنتذكر أن مجتمعاتنا، إلى يومنا هذا، كانت واقعيا مكونةً من الأموات أكثر من الأحياء».
ولكن ما هو الأهم من ذلك؟ برأيي، هو الدور الحاسم للقادة السياسيين في صياغة الهوية الوطنية والقومية لشعوبهم، أو التدخُّل في إعادة هندسة الهوية وتعريفها. إنهم إذن فاعلون حتى في الشؤون الصغيرة والشخصية من حياة الناس، وحتى عند تعريف هوياتهم الفردية للآخرين. يمكن القول بكلمات أخرى: إن الرمز السياسي ليس مجرد ظاهرة فنية أو إعلامية يمكن إهمالها وتجاوزها كما يتجاوز المتفرج أيَّ فنان لا يروقه، فيقلب المحطة إلى أخرى بكبسة زر على جهاز التحكم. فسواء أُعجبنا بتلك الشخصية السياسية أم لم نعجب، ليس ذلك إلا تفصيلا أمام حقيقة أنها قد فرضت حضورها وصورتها في ذاكرتنا الجمعية، وأنها أصبحت مع الوقت رمزا لفكرة أو معنى ما، في وطن لا يمكن تعريفه إلا بمجموع الرموز التي تُمثله عبر التاريخ، حيث الوطن بحد ذاته رمز.
لكن الأجيال العربية الشابة تبدو اليوم أكثر ميلا لعدم الثقة بالشخصية الأبوية في السياسة. وربما لم يعش الشارع العربي، على اختلاف همومه وتطلعاته بين بلاد وأخرى، مرحلةً من غياب الرمز السياسي المُجمع عليه كما يعيش اليوم. ثمة تلاشٍ واضح لمركزية المثال الإيجابي (القدوة) الذي يستحق الالتفاف المطلق من حوله في الأزمات، بل يمكن القول: إن الثقافة السياسية الجديدة لدى الشباب تميل إلى الرفض المطلق لفكرة «القدوة» من الأساس. لا أدري إن كان ذلك يدل على تطور قدرتنا وحريتنا في النقد إلى هذا الحد، فلم نعد نرضى بأقل مما نستحق أم على أننا مثاليون أكثر مما يحتمل الواقع، فلم نعد نرضى بأقل مما نحلم! الملاحظ أن تحطيم الرموز ترافقه حالة من الطعن والتشكيك في كل الأيديولوجيات السياسية المطروحة... ثمة يأس عام من فكرة النموذج في كل شيء تقريبا، ورفض عام لكل سُلطات الواقع دون انحياز لأحد أو استثناء، على طريقة اللبنانيين واللبنانيات في أكتوبر 2020: «كلن يعني كلن»!
بالمقارنة الساذجة، تبدو الأجيال الأكبر وكأنها كانت تتمتع بطاقة ولاء عالية. فقد كان تبني النموذج والتمسك به مدخلا ضروريا للانخراط في السياسة، إلى الحد الذي تحولت معه الأيديولوجيا إلى قبيلة جديدة. أتذكر آباءَنا الذين استمعوا إلى عبد الناصر في المذياع فالتفوا حول صوته وصورته، وناصروه منتصرا ومهزوما، وساروا في جنازته الرمزية في عدة عواصم عربية. وحتى في الثمانينيات والتسعينيات، كان مناخ الولاء السياسي في العالم العربي حاشدا، وكان من السهل العثور على زعيم ثوري هنا أو شخصية وطنية هناك تستحق الولاء والتأييد، رغم كل الأخطاء والخطايا التي سرعان ما تتناساها الجماهير أمام سطوة الصورة العامة الممهورة بمعاني النضال والمقاومة والكرامة، أو معاني الإصلاح والتنمية وتطوير المؤسسات (وكأن النموذجين لا يلتقيان!).
تستوقفني آراء الناس وأحاديثهم عن زعيم سياسي معين، لا سيما بعد رحيله واكتمال حكايته بالموت. ففي موقف كهذا لا يصعب تمييز مجمل الآراء المتداولة بين فريقين متقابلين، فالناس غالبا ما بين موالٍ محب أو معارضٍ مُبغض، وما بين مشاعر الحب الجامح أو الكراهية الفائضة تغيب القراءة المتأنية والموضوعية في سيرة الشخصية ومسيرتها، بكل ما لها وما عليها. فهل من المنطقي حقا أن نُلخّص علاقتنا بالرمز السياسي التاريخي في إجابة عاطفية تتردد بين الحب أو عدم الحب؟ مبدئيا لا بأس من التذكير بأن صُنَّاع القرار ليسوا فنانين أو مؤلفي روايات أو لاعبي كرة قدم كي نختصر نظرتنا إليهم بمعايير الذوق أو الانطباع العاطفي. السياسيون ببساطة شديدة أشخاص قرروا الانخراط بالكامل في لعبة الواقع بكل ما فيها من تعقيد وتضاربٍ للمصالح، وربما تكون الشروط التاريخية قد فرضت على بعضهم أن يكون جزءا من صناعة مرحلة مهمة من عمر شعب أو أمة. والسياسة، كما قيل لنا دائما، حيث مفهوم الصواب والخطأ متغير باستمرار، وحيث لا مكان فيها للمثاليات التي نقرأ عنها في كتب الأساطير أو سير الأنبياء. وهنا تقتضي الموضوعية في تناول الشخصية السياسية العامة قدرا عاليا من التجريد العاطفي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الشخصیة السیاسیة
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: العلم والرحمة أساس بناء الشخصية الإسلامية الحقة
(أ ش أ):
أكد فضيلة الدكتور نظير محمد عيّاد، مفتي الجمهورية، رئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن العلم في مضمونه وجوهره ليس مجرد تكديس للمعلومات أو حفظ للمتون، بل هو منظومة متكاملة تهدي العقول إلى الرشاد، وتزكي النفوس، وتدفع الإنسان إلى إدراك الحق وتمييزه عن الباطل، مبينا نه إذا تجرد من أثره الأخلاقي والسلوكي، فقد جوهره وقدرته على البناء والإصلاح، مشيرا إلى أن الرحمة ليست طارئة على مسيرة العلم، بل هي ركن من أركانه، وميزان دقيق يحدد وجهته; إذ بها يستقيم أثره، ويتحقق مقصده، وتسمو غايته، فلا علم نافع ولا فقه سديد بلا قلب رحيم.
جاء ذلك خلال كلمة فضيلته بالمعهد العالي للحديث النبوي وعلومه، بمدينة سمرقند على هامش مؤتمر "الماتريدية مدرسة التسامح والوسطية والمعرفة" بجمهورية أوزبكستان.
وقال مفتي الجمهورية، إن السيرة النبوية المطهرة تمثل الأنموذج الأكمل لهذا المزج البديع بين العلم والرحمة، وقد تجلى ذلك في مواقف عديدة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، منها ما رواه الصحابة الكرام عن الرجل الذي جاء يستأذنه في الزنا، فلم يواجهه النبي بالزجر أو التوبيخ، وإنما خاطبه بحكمة ورفق، مستنهضا مشاعره الإنسانية، حتى عاد عن طلبه وقد امتلأ قلبه إيمانا ونقاء، كما تتجلى هذه الرحمة أيضا في موقفه صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي الذي بال في المسجد، فبينما هم بعض الصحابة بتعنيفه، نهى النبي عن ذلك وتعامل مع الموقف بحكمة بالغة، موضحا للأعرابي بلطف حرمة الأماكن الطاهرة، ليقدم بذلك درسا خالدا في التربية بالرحمة، والتعليم بالحكمة وأشار إلى أن الكذب من أعظم الآفات التي تفسد على الإنسان دينه وعقله، وتهدم جسور الثقة بينه وبين مجتمعه، وهو من أبشع ما تبتلى به القلوب، وأشد ما يفسد به القول والعمل; إذ به تطمس الحقائق، وتلبس المقاصد، وتضيع الحقوق، فهو ليس مجرد انحراف في اللسان، بل هو اعوجاج في الفهم، وخلل في الميزان الأخلاقي، وهو مفتاح لكل شر، كما جاء في الحديث النبوي "وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار" منبها إلى خطورة هذا الجرم لمن يشتغل بالسنة النبوية.
وأوضح مفتي الجمهورية أن الكذب لا يقتصر على اختلاق الأقوال ونسبتها زورا إلى مقامه الشريف فحسب بل يتسع ليشمل تحريف الفهم، وإخراج النصوص عن سياقها، وتحميلها ما لا تحتمل، و توظيفها لخدمة أهواء وانحرافات فكرية و سلوكية، مبينا أن المشتغل بالسنة النبوية يحمل أمانة عظيمة، لا تقف عند حدود الرواية، بل تمتد إلى صدق الفهم، وسداد التأويل، ومراعاة السياق والإخلاص في النقل والمقصد، فكل إساءة في التأويل، أو استدعاء للنصوص في غير موضعها، أو توظيفها في غير غاياتها، هي في حقيقتها صورة من صور الكذب، بل ربما كانت أشد خطرا; لأن الكذب اللفظي قد يكشف ويرد، أما الكذب في الدلالة فقد يضلل به الناس، وتقلب به الموازين.
هذا المحتوى منلمعرفة حالة الطقس الآن اضغط هنا
لمعرفة أسعار العملات لحظة بلحظة اضغط هنا
الدكتور نظير محمد عيّاد مفتي الجمهورية السيرة النبوية العلمتابع صفحتنا على أخبار جوجل
تابع صفحتنا على فيسبوك
تابع صفحتنا على يوتيوب
فيديو قد يعجبك:
الأخبار المتعلقةإعلان
إعلان
مفتي الجمهورية: العلم والرحمة أساس بناء الشخصية الإسلامية الحقة
روابط سريعة
أخبار اقتصاد رياضة لايف ستايل أخبار البنوك فنون سيارات إسلامياتعن مصراوي
اتصل بنا احجز اعلانك سياسة الخصوصيةمواقعنا الأخرى
©جميع الحقوق محفوظة لدى شركة جيميناي ميديا
القاهرة - مصر
27 14 الرطوبة: 17% الرياح: شمال شرق المزيد أخبار أخبار الرئيسية أخبار مصر أخبار العرب والعالم حوادث المحافظات أخبار التعليم مقالات فيديوهات إخبارية أخبار BBC وظائف اقتصاد أسعار الذهب أخبار التعليم فيديوهات تعليمية رياضة رياضة الرئيسية مواعيد ونتائج المباريات رياضة محلية كرة نسائية مصراوي ستوري رياضة عربية وعالمية فانتازي لايف ستايل لايف ستايل الرئيسية علاقات الموضة و الجمال مطبخ مصراوي نصائح طبية الحمل والأمومة الرجل سفر وسياحة أخبار البنوك فنون وثقافة فنون الرئيسية فيديوهات فنية موسيقى مسرح وتليفزيون سينما زووم أجنبي حكايات الناس ملفات Cross Media مؤشر مصراوي منوعات عقارات فيديوهات صور وفيديوهات الرئيسية مصراوي TV صور وألبومات فيديوهات إخبارية صور وفيديوهات سيارات صور وفيديوهات فنية صور وفيديوهات رياضية صور وفيديوهات منوعات صور وفيديوهات إسلامية صور وفيديوهات وصفات سيارات سيارات رئيسية أخبار السيارات ألبوم صور فيديوهات سيارات سباقات نصائح علوم وتكنولوجيا تبرعات إسلاميات إسلاميات رئيسية ليطمئن قلبك فتاوى مقالات السيرة النبوية القرآن الكريم أخرى قصص وعبر فيديوهات إسلامية مواقيت الصلاة أرشيف مصراوي إتصل بنا سياسة الخصوصية إحجز إعلانك