نيوزويك: حان الوقت لإصلاح لبنان أو تفكيكه
تاريخ النشر: 12th, October 2024 GMT
قال دان بيري، محرر شؤون الشرق الأوسط السابق لوكالة أسوشيتد برس، في مقال رأي نشرته مجلة نيوزويك، إن إضعاف إسرائيل، حزب الله يعطي الحكومة اللبنانية فرصة لإعادة فرض هيمنتها بعيدا عن التدخل الإيراني، واتباع إصلاحات تعالج التوترات العرقية والدينية في البلاد، أو إقامة دولة مسيحية منفصلة إذا فشلت هذه الجهود.
وبينما أكد بيري أن إنشاء "دويلة لبنانية ذات أغلبية مسيحية" يعد خيارا "دراميا ومثيرا للجدل إلى حد كبير"، فإنه يرى أن ذلك قد يحل "انعدام الاستقرار واستمرار الصراع الداخلي اللبناني"، وقد تتكون الدويلة من المناطق المحيطة ببيروت، بما في ذلك أجزاء من جبل لبنان وبلدات ساحلية مثل جونية وجبيل.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2واشنطن بوست: إسرائيل تصعد حربها على الأمم المتحدةlist 2 of 2فايننشال تايمز: ما أسباب انهيار مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة؟end of listويرى بيري أن جذور الاضطرابات الداخلية المستمرة -التي يزعم أن لبنان يعاني منها- تعود إلى الحدود المصطنعة التي رسمتها اتفاقيات غربية مثل اتفاقية سايكس بيكو للشرق الأوسط، والتي لم تراعِ الفروق الدينية أو الإثنية في المنطقة.
وقال بيري إن عاملا آخر في المسألة هو "جشع الموارنة" الذي دفعهم عند إنشاء لبنان لضم مناطق ذات أغلبية سنية مثل سهل البقاع وطرابلس والمناطق الساحلية الجنوبية، ما أدى لقلب موازين القوة بعيدا عن أيديهم وأفضى إلى حرب أهلية هزت البلاد عام 1975.
كما أشار المقال إلى أن تشكيل حزب الله من قبل الأغلبية الشيعية قد أثر سلبا على مصالح لبنان، إذ إنه يخدم مصالح إيران -وليس لبنان- ضد إسرائيل، وشدد بيري على ضرورة أن تستغل الحكومة ضعف الحزب الحالي إبان الهجمات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت قادته لفرض إصلاحات من شأنها تعزيز سلطتها.
وشجع المقال في هذا الصدد إعلان رئيس حكومة تصريف الأعمال اللبنانية نجيب ميقاتي عن استعداده لتنفيذ قرار الأمم المتحدة رقم 1701 الذي يدعو إلى نزع سلاح المجموعات المسلحة في لبنان.
ويقترح بيري أن تركز الإصلاحات على نزع سلاح حزب الله وانتخاب رئيس للبلاد، ويشدد على ضرورة جعل حركة أمل الممثل الشرعي لشيعة لبنان بدلا عن حزب الله، مع تجنب توزيع السلطة في النظام الديمقراطي الجديد على أساس عرقي، والاستفادة من دعم دولي لإعادة إعمار البلاد.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات ترجمات حزب الله
إقرأ أيضاً:
وادي محرم.. البلاد التي نُغادرها ولا تُغـادرنا
في أحضان ولاية سمائل العريقة، حيث يمتزج عبق التاريخ بسحر الطبيعة، يحتضن وادي محرم أسراره بين ثنايا الجبال الشامخة والنخيل الوارفة. هذا الوادي، الذي كأنه قصيدة نسجتها الرياح بين الصخور، يروي حكايات من الماضي العريق، حيث تتدفق مياهه رقراقة بين البساتين، ناشرةً الحياة في كل زاوية من زواياه.
هنا، في وادي محرم، يعانق الضباب قمم الجبال في الصباح الباكر، وتُطرّز الشمس الأفق بخيوطها الذهبية عند المغيب، فتتحول السماء إلى لوحة من الألوان الزاهية، تعكس سحر هذا المكان الأخّاذ. أما في الليالي القمرية، فتهمس النخيل بأسرارها للنسيم العليل، وتتحول الأزقة الضيقة إلى مسارات للحكايات التي تتوارثها الأجيال جيلًا بعد جيل.
أما البيوت الطينية العتيقة، فتبقى شاهدة على أصالة الحياة وجمال التقاليد التي لا تزال تنبض في قلب وادي محرم، حيث الألفة تجمع القلوب، والكرم العماني الأصيل يفيض من كل بيت ودار. إنه المكان الذي تنحني له الكلمات احترامًا، وتستسلم له الأرواح عشقًا، ليبقى وادي محرم درةً تتلألأ في سماء سمائل، وملاذًا للروح الباحثة عن الصفاء والجمال.
في قلب وادي محرم، حيث تنساب الحياة بهدوء بين الجبال والسهول والمسطحات الخضراء، يتربع منزل الشاعر أبو مسلم البهلاني كقطعةٍ من الجنة تحتضنها الطبيعة. هذا المنزل، الذي يمتد كحكايةٍ قديمةٍ بين ضفتي الزمن، يقف شامخًا على حافة جبل يُطل مباشرةً على تدفق الوادي، وتحيط به، وبالمنازل التي تُجاوره في حجرة الحصن، نخيلٌ باسقة من ثلاث جهات، مُشكِّلةً بدورها سورًا، كأنها تظلله بأوراقها وتحرس إرثه الشعري من غبار السنين.
حين ينبض الماضي بالحاضر، تنبض الصورة بالحياة. فالتقاء حجرة الحصن ببيوتها العتيقة وأزقتها الضيقة بحلة العوامر التي تزهو بمنازلها الحديثة قد شكّل لوحة بانوراميةً مذهلةً، كأن الزمن قد جمع بين صفحتيه قصتين متناقضتين في الشكل، متكاملتين في الروح. هناك، تتعانق الجدران الطينية التي تحكي تاريخ الأجداد مع الواجهات الحديثة التي تعكس تطلعات الأبناء. تجاور الأزقة الضيقة، التي خطتها الأقدام منذ عقود، الشوارع المتسعة التي تفتح أبوابها للمستقبل، في مشهد يروي حكاية التطور دون أن يطمس ملامح الأصالة. في هذا التلاحم الفريد، تتراءى روح وادي محرم، حيث لا يغيب القديم عن ملامح المكان، ولا ينفصل الحديث عن جذوره، بل يمضي كلاهما في نسيجٍ متناغم، كأن الأرض قد اختارت أن تجمع بين عبق الماضي وحداثة الحاضر في مشهد لا تمله العين، ولا يمله القلب.
لطالما تساءلت منذ طفولتي عن سر جريان الماء في الوادي أسفل منزل أبي مسلم، رغم أن منبعه في وادي العيينة وحلي ولتام قد جف منذ زمن، أهي معجزةٌ ما؟ أم أن هناك سرًا دفينًا يحمله هذا المكان؟! ربما هي دعوات الشيخ الجليل، ناصر بن سالم البهلاني، التي رفعها ذات ليلة عندما كان يخط أبياته تحت ضوء القمر، فاستجابت لها الأقدار، وظل أثرها ممتدًا حتى يومنا هذا. كأن صوته، الذي تردد في جنبات هذا الوادي، قد أرسل صداه لأبواب السماء، ليعودَ لنا على هيئة ماءٍ يتجدد، يسقي الأرض ويحيي القلوب، كما كان شعره يروي الأرواح العطشى للأدب والجمال، وما زال.
في هذا الوادي، لا يمكن للزائر أن يعبر دون أن يشعر بعبق الماضي، حيث لا تزال البيوت الطينية القديمة تنبض بروح الأجداد، وتستظلّ تلك البيوت تحت سماءٍ من الأسقف الخشبية، تُسمى «المربع»، حيث تزينها نقوشٌ من آياتٍ قرآنية تفيض بالبركة، مثل قوله تعالى: (أدخلوها بسلامٍ آمنين)، ليبدأ أهلها رحلتهم إلى هذه المنازل بدعوةٍ من كتاب الله. وفي أرجائها، تظلّ الأسماء والتواريخ محفورة كذكرى، كأنها شاهدٌ على كل لحظةٍ مرت في تلك الأمكنة المباركة، وتقف النوافذ الخشبية المزخرفة بالنقوش العمانية كشهود على تاريخ من الأصالة والعراقة.
في الأزقة الضيقة، تسير النسائم محملة برائحة القهوة العمانية واللبان، تليها رائحة الرخال بالعسلِ والسمن.. الرخال الذي لا تجيده سوى أمُّ العُمانيّ، كأنها تدعو العابرين للجلوس في أحد المجالس المفتوحة، حيث الدفء والأحاديث التي لا تنتهي مع كبار السن.
ما زلتُ أستطيع أن أرى تلك المشاهد، حيّةً كأنها وميضُ حلمٍ لم يبهت بعد. ونحنُ صغارٌ، نركضُ حفاةً على ترابِ وحصوات الوادي، عائدين من حلقة القرآن التي كان يُقيمها جدي تحت ظلالِ الصبارة، هناك عند مدخلِ المحضر، حيث ترسو الحكمةُ في صوته، ويعانقنا دفءُ الكلماتِ السماوية. كانت الريحُ تداعبُ ثيابَنا، ونحن نتسابق، من يصل أولًا إلى بيتنا العتيق، ذلك البيت الذي تتجمعُ فيه نساء الحارة كل عصر، تُملأ جنباته برائحةِ القهوة المُرّة، وصوتِ الملاعقِ وهي تُشكّل اللقيمات والقروص بحبٍ لا مثيل له.
في ذلك المطبخ الضيق جدًا، الذي بالكاد يتسع لخطوات قليلة، كانت قلوبهنّ الواسعة تملأه رحابة. يتراصصن كتفًا بكتف، يضحكن ويتهامسن، كأن المساحة تضيق بجدرانها، لكنها تتسع بألفتهنّ، حيث الحب ينعجن مع الطحين، والدفء يتسرب مع نكهة الزعفران في القهوة.
وفي الزاويةِ، حيث الموقدُ الصغير، كنا ننتظرُ لحظةَ الظفر، نتبادل النظراتِ بترقب، من مِنّا سيحظى بأجملِ الغنائم؟ لعق ما تبقى من قدر الكاسترد، ذلك الذهبِ الحلو الذي يشعلُ صخبَ الفرح في قلوبنا الصغيرة، كأنّه جائزةٌ لمن يفوزُ بسباقِ الذكريات. يا لها من أيامٍ، بقيت عالقةً في زوايا الذاكرة، كأنّها نقشٌ على جدارِ الزمن، لا تمحوه السنين.
في طفولتي، كنتُ كلما غادرنا قريتنا متجهين إلى مسقط، نحو المتنزهات الفسيحة والأسواق الصاخبة والشواطئ الممتدة بلا نهاية، أعود ممتعضة، يملؤني التساؤل: لماذا لا ننتقل إلى المدينة؟ لمَ يُغادر الجميع بينما نبقى عالقين بين أزقة هذه القرية، البعيدة كل البعد عن الخدمات والأماكن الرائعة؟
كنتُ أراقب بيوت الطين العتيقة، التي ظل آباؤنا وأجدادنا متمسكين بها، كأنها كنزٌ ثمين، متجاهلين بريق الحداثة في المدينة، غير عابئين بصخب الحياة التي تملؤها. لكنني، وعندما غادرتُ البلاد لأول مرة، متجهة نحو سكن الجامعة، أدركتُ السر. أدركتُ أن ما كنتُ أظنه قيدًا كان جذورًا، وأن تلك البيوت العتيقة لم تكن مجرد حجارة، بل ذاكرةٌ وحنين. حينها فقط، فهمتُ لماذا بقي آباؤنا هناك، ولماذا يرفضون الانسلاخ عن أرضهم، عن طرقاتها الضيقة التي تحفظ خطواتهم، عن النخيل التي كانت شاهدةً على أعمارهم، عن جدران البيوت التي خبأت أصوات ضحكاتهم وأحاديثهم الطويلة. عرفت أنها وادي محرم، ببساطة، هي البلاد التي نغادرها ولا تغادرنا.