لجريدة عمان:
2025-01-30@21:57:08 GMT

سيرة محمد عبله.. عن الناس والمدن والصعاليك

تاريخ النشر: 12th, October 2024 GMT

سيرة محمد عبله.. عن الناس والمدن والصعاليك

من حسن حظ محمد عبله ومن حسن حظنا أنه فكَّر في سيف وانلي ليكون وساطته لدخول كلية الفنون التطبيقية بالإسكندرية.

التحق عبله أولاً بكلية الفنون التطبيقية في القاهرة، لكنها لم تناسب روحه، وبجرأة غريبة سحب ملفه، وسافر إلى الإسكندرية، وقابل وكيل الكلية هناك، فعامله بخشونة، وسأله بسخرية كيف يقبله وقد تبقَّى شهر واحد فقط على انتهاء التيرم الأول؟!

اسودَّت الدنيا في عين عبله، خاصة وهو يرى طلبة الكلية يتحدثون مع بعضهم بمرح، ويجلسون للرسم في حديقة الكلية وفي ممرَّاتها، لكن فجأة قفز إلى ذهنه اسم سيف وانلي.

لم تكن تجمعه به صلة، لا قابله قبل ذلك، ولا كلَّمه في التليفون، لكنه يعرف أنه أحد أهم فناني مصر، وبالتأكيد الناس في الإسكندرية يعرفونه. فكر عبله أن يسأل عنه في دكاكين البراويز، لكن معظمهم لم يكن يعرفه، بل إن أحدهم صحح له الاسم بطريقة غريبة، قائلاً له إن اسمه ليس "سيف وانلي"، ولكنه "سيف" وأخته "نيللي" والاثنان يرسمان معاً ويوقِّعان باسم "سيف ونيللي"!

لكنه لحسن الحظ وجد مَن يعرفه أخيراً، ودله على بيته. اتَّجه إليه، وطرق بابه ففتح له سيف بشحمه ولحمه وشعره الأبيض المهوَّش، لقد عرفه عبله على الفور من صوره التي تُنشر في المجلات والجرائد، وفرح حين وجده شديد البساطة، يتعامل على سجيته، ويدعوه إلى الدخول، ويعزمه على القهوة، ويعرِّفه على زوجته "إحسان" هانم، ويثرثر معه في تاريخ الفن، وانعطافه هو شخصياً، أي سيف، إلى مرحلة التجريدية، بعد أن رسم عشرات اللوحات التي استمدَّها من الواقع حوله. ثم استمع سيف إلى مشكلة عبله، وبشَّره بأنه يعرف كامل مصطفى عميد الكلية وتربطه به صلة عظيمة. اتصل سيف به، فأخبروه أن الرجل طريح فراش المرض في أحد المستشفيات، فلم ييأس، وأحضر رقم هاتف المستشفى، واتصل به مجدداً فحولوه إلى غرفة العميد. سأله عن الصحة والأحوال، ثم حكى له قصة الشاب الفنان محمد عبله، فطلب منه العميد أن يرسله إليه بعد يومين في الكلية.

ذهب محمد عبله والأمل يكبر داخله، وحين اطَّلع الرجل على تخطيطاته ورسوماته، انبهر بها للغاية، ووقَّع على ملفه، كاتباً جملة لا يمكن أن ينساها عبله: "تُقبَل أوراقه لأنه فنان"!، ثم ظهر وكيل الكلية في الغرفة فارتجف عبله ودقَّ قلبه بعنف خاصة وهو يقول للعميد إن قبول هذا الشاب ضد القانون، لكن العميد الذي آمن بموهبته، قال له: "لقد أُصِبتُ بأزمتين قلبيتين، وتبقَّت لي واحدة فقط وأُودِّع الدنيا، فهل تريد أن أودعها على يديك؟!"، فتراجع الوكيل وقَبِل أوراق عبله، وهو لا يعلم أنه سيصير واحداً من أهم فناني مصر.

ابتسمت الحياةُ للفنان الصغير، وبدأ يرى كل مشهد حوله كأنه لوحة، وكل كائن أو جماد أو نبات كأنه أيقونة، ثم حاول أن يفهم العلاقات بين الأشياء حوله، وأن يلمَّ بحدود الفن، لكنه كسرها بعد أن تراكمت خبرته وأصبحت في حجم هرم.

تخيل أبوه أن ابنه حقق رغبته التحق بالكلية الحربية، ليكون قريباً من أخيه المجند الذي شارك في حرب أكتوبر 73، لكن عبلة مضى في مساره الخاص الذي رسمه لنفسه، حتى صار واحداً من علامات الفن التشكيلي.

يكتب عبله في كتابه "مصر يا عبله.. سنوات التكوين" سيرته الذاتية، بلغة ساحرة شديدة العذوبة، تليق بأديب كبير، راسماً الحكايات المشوِّقة، عن خطواته في الكلية، وعلاقته بمتحفها الذي أسَّسه الفنان أحمد عثمان صاحب السيرة الكبيرة، ومرمِّم تمثال رمسيس الذي كان قائماً في ميدان محطة مصر، كما يكتب عن علاقته بقسم التصوير في الكلية، وكيف أمدَّه "عم يحيى" العامل بالقسم بكمية كبيرة من الأوراق والقماش القديم، من مشاريع طلبة بالسنوات السابقة لكي يعيد استخدامها، مذلِّلاً له عقبات مادة الديكور، وعلى رأسها عدم حبِّه للأدوات الخاصة بها، بالإضافة إلى ارتفاع ثمنها، وكان أستاذ مادة الديكور معيداً في القسم. أنجز عبله ما طلبه منه على ظهر الورق القديم، واستخدم الفرشاة والحبر الأسود بدلاً من الأقلام المخصصة كبقية زملائه، وعندما يناقشه الأستاذ في أعماله يجيب بقدر ما يعلم. وكان الأستاذ يلقي أعماله بطريقة مهينة جداً بعد مشاهدتها قائلاً له: "الورق متَّسخ.. وما دمت لا تحترم مادتي لن أحترم أعمالك"!، لكن المفاجأة، كما يقول عبله، هي أنه منحه أعلى الدرجات بشكل أثار دهشة زملائه!

يحكي عبله كذلك عن فترة سكنه بمنطقة ستانلي، وعن أهم الشخصيات التي قابلها، ومنها منير فهيم، الذي قابله عبله بالصدفة في محل للبراويز على محطة ترام رشدي وعرَّفه بمكان بيت سيف وانلي. يكتب عبله: "كان بوهيمياً يتصرف مرة كصعلوك ومرة كأمير، يصرف ببذخ شديد، لكنه يبحث أحياناً عن ثمن السجائر"، ويضيف: "ذات مرة طلب منه أحد أثرياء الإسكندرية أن يرسم صورة لزوجته، ورسمها بمهارة فائقة، فخرجت اللوحة رائعة، ألوانها قوية، ولما انتهى منها ماطل الثري في دفع مستحقاته، فما كان من منير إلا أن وضع اللوحة على الحامل وأعاد رسم الموديل، وبدأ في تجريد السيدة من ملابسها، حتى أصبحت عارية تماماً، ثم وضع اللوحة في واجهة المحل. وبطبيعة الحال توافد الناس في زحام شديد على بوابة المحل يتأملون اللوحة من الفاترينة، ولم تمر ساعات حتى جاء الرجل بعد أن عرف الخبر، ودفع المبلغ المتبقي، وجلس إلى جوار منير حتى أقنعه بإعادة رسمها، وألبس بطلتها الملابس من جديد"!

يسرد عبله بعد ذلك تفاصيل علاقته وزملائه المستجدين بالموديلات الجريئة، ومحاولاتهم التلصص على الطلبة الكبار وهم يرسمونها، وفشلهم الذريع، فالزملاء الأكبر سناً كانوا يحيطون المكان بسياج من السرية. ثم كبر عبله وزملاؤه وجاء الدور عليهم لرسم الموديلات الجريئة. كان بعضهم يتصبب عرقاً من الخجل، لكن عبله مضى يرسم بحماس، بل إنه طلب من الموديل "سعاد" أن يرسمها مجدداً بعد اليوم الدراسي فوافقت.

يواصل عبله الحكي عن الناس العاديين والفنانين والأماكن التي سحرته فأصبحت محوراً لأعماله الفنية. ميزة هذا الكتاب ليس فقط في أنه يعرِّفنا على سيرة محمد عبله ومنابع التكوين الخاصة به، لكنه يعرفنا كذلك على الحياة الفنية في مصر عبر عقود مختلفة، وأبرز الفنانين، وكيف كانت الحياة وماذا أصبحت.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

عبد الله عمران تريم.. سيرة عطرة تعبق بها الأمكنة والتواريخ

إعداد: سومية سعد

11 عاماً مرت على رحيل الدكتور عبد الله عمران تريم، رحمه الله، تاركاً خلفه سيرة عطرة تعبق بها الأمكنة والتواريخ.
ذكرى الدكتور عبد الله عمران حاضرة أمامنا، تروي قصة إنسان وهب حياته، لخدمة وطنه وأمته، فقد كان رحمه الله يمتلك قدرات خاصة في الصحافة والإعلام، إضافة إلى التزامه الوطنيّ.
إننا إذ نترحّم على الدكتور عبد الله عمران في الذكرى السنوية لوفاته، فإنما نعيد نعيه من جديد، قامة وطنية كبيرة وشخصية ثقافية وعلمية متميزة، قرأ الكثير وحاور العديد من المسؤولين، وكانت كتاباته نموذجاً في الحكمة وبُعد النظر، فشهد له الجميع بالسبق والتميّز باعتباره أسس مدرسة فكرية وإعلامية متطورة.
تنفيذاً لأمر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، أطلق اسم الدكتورعبد الله عمران تريم على شارع الثريا في دبي، ويمر الشارع في المنطقة الحرة للتكنولوجيا والإعلام في دبي، ويبلغ طوله 6 كيلومترات بواقع مسارين في كل اتجاه، ويبدأ من شارع أم سقيم بالقرب من أكاديمية شرطة دبي بمحاذاة شارع الصفوح، ويمتد داخل مدينة دبي للإعلام، ويعبر شارع الشيخ زايد باتجاه منطقة الروضة (غرينز)، وينتهي عند شارع الخيل الأول على مدخل مضمار جبل علي للخيول.
وكان صاحب السمو نائب رئيس الدولة قد أمر بإطلاق اسم الدكتور عبد الله عمران تريم على شارع الثريا، تقديراً لما قدّمه الفقيد على مدار سنوات طويلة من إسهامات وطنية جليلة ولدوره الريادي في مسيرة الاتحاد من خلال مختلف المواقع الوطنية التي شغلها، ومنها توليه حقيبتي وزارتي العدل والتربية والتعليم، علاوة على دوره البارز في قيادة حركة الفكر والتنوير في المجتمع ومشاركته في ترسيخ دعائم الإعلام الخليجي، لاسيما من خلال جريدة «الخليج» التي كان أحد مؤسسيها.
وهذا التكريم الذي يأتي تخليداً لذكرى الفقيد ليس بغريب على قيادتنا الحكيمة التي عبرت عن وفائها وشكرها وتقديرها لأبنائها الذين أخلصوا في تأدية واجبهم.
مشروع «عنواني»
أطلقت دائرة الشؤون البلدية في أبوظبي، اسم عبد الله عمران تريم، على شارع رئيسي في جزيرة الريم ضمن إطار مشروع «عنواني».
وفي الثالث عشر من فبراير/شباط 2014 قرر مجلس إدارة اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، إطلاق اسم الراحل الكبير الدكتور عبد الله عمران تريم على القاعة الرئيسية في فرعه الجديد في أبوظبي.
وجاء في بيان أصدره الاتحاد لهذا الغرض، أنه تقدم بمبادرته هذه تعبيراً عن تقديره للدور الوطني والثقافي المؤثر الذي لعبه الراحل، من خلال المواقع المختلفة التي شغلها، كما يأتي ذلك تأكيداً لقيمة الوفاء للرموز الكبيرة في تاريخ الوطن، ورغبة منه في أن تظل هذه الرموز حاضرة في عمق الذاكرة والوجدان الوطنيين.
وأضاف البيان: إن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات لا يستطيع أن يغفل المكانة التي يمثلها الراحل الكبير، ولا أن يتجاهل الخدمات التي قدمها للثقافة الإماراتية عموماً، ولواجهتها الأبرز المتمثلة باتحاد الكتاب خصوصاً، فقد كان من أهم أولويات دار «الخليج» أن تفتح صفحات دورياتها ومنها جريدة الخليج أمام أعضاء الاتحاد، بل أمام جميع المبدعين والمثقفين الإماراتيين والعرب، فكانت الرديف الإعلامي القوي الذي رافق مسيراتهم الإبداعية، سواء كان ذلك بطريق مباشر عبر استقطابهم ليكونوا من كتابها الدائمين المميزين، أو بطريق غير مباشر عبر الكتابة عنهم، وإفساح المجال أمام الأقلام النقدية لتناول تجاربهم وتحليلها والكشف عن جمالياتها وتقريبها إلى جمهور القراء والمتابعين والمهتمين على المستويين المحلي والعربي.
دراسات القضائية
وفي الحادي والعشرين من سبتمبر/أيلول من عام 2014 كرّم معهد التدريب والدراسات القضائية في الشارقة، الراحل الدكتور عبد الله عمران بإطلاق اسمه على قاعة المحكمة الصورية بالمعهد، خلال فعاليات معرض الكتاب القانوني الخامس، الذي أقام في المدينة الجامعية بمدينة الشارقة في الفترة من 19 إلى 23 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2014 إضافة إلى اختيار اسم الدكتور عبد الله عمران شخصية المعرض لهذا العام.
وبتوجيهات صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، أطلقت وزارة التربية والتعليم، يوم الخامس من مايو/أيار من عام 2014 اسمي المغفور لهما بإذن الله تعالى تريم عمران والدكتور عبد الله عمران، على مدرستي «حلوان للتعليم الثانوي وصهيب للتعليم الأساسي» في الشارقة.
وكان الشيخ سلطان بن أحمد القاسمي رئيس مؤسسة الشارقة للإعلام، وحميد محمد القطامي وزير التربية والتعليم السابق، أزاحا الستار عن اسمي الراحلين في المدرستين على اللوحتين التذكاريتين اللتين أقيمتا بهذه المناسبة، بحضور خالد عبد الله عمران تريم وعمران عبد الله عمران تريم.
مدرسة في الشارقة
إن الراحل عبد الله عمران، طيب الله ثراه، كان مدرسة في العطاء والبذل، وقدم لوطنه خدمات جليلة طوال حياته، وخلال مسيرة طويلة حافلة بالإنجاز كل في مجاله وموقعه ومهامه، وأنه ضرب مثالاً ونموذجاً للمواطن الصالح الذي لا يشغله سوى ما ينفع بلاده ومجتمعه وأمته.

مقالات مشابهة

  • محمد الضيف.. الشبح الذي قاد كتائب القسام إلى طوفان الأقصى
  • الكشف عن قادة حماس الذي قتلوا إلى جانب محمد الضيف (أسماء)
  • محمد رمضان يعترف: أنا الممثل الأعلى أجراً في مصر
  • عبد الله عمران تريم.. سيرة عطرة تعبق بها الأمكنة والتواريخ
  • رحلة لجماهير الثغر.. لمشاهدة لقاء الاتحاد السكندري و بتروجيت بإستاد الكلية الحربية
  • محمد صبحي يكشف عن المشهد الذي يرفض تقديمه في أعماله!
  • إنْ هي إلا سيرةُ الشهيد القائد أَو النار
  • إطلاق خدمة إصدار البطاقة الذكية لمنتسبي الكلية الحربية في عدن
  • نزار قباني في مصر.. سيرة أخرى
  • الشهيد القائد سيرةً ومسيرة