بواكير تأليف السيرة النبوية في العصر الحديث
تاريخ النشر: 12th, October 2024 GMT
(1)
ثمة أشخاص/ أعلام بأعينهم (أيا ما كانت الثقافة التي ينتمون إليها أو اللغة التي يكتبون بها) لا يجب ولا ينبغي تفويت أي مناسبة أو فرصة للتعريف بهم والتذكير بقيمتهم واستدعاء ما يستحق الاستدعاء من مشروعاتهم الثقافية والمعرفية والإبداعية الكبرى.. لا أتصور أن يكون هناك أي حراك معرفي أو ثقافي أو بدايات تأسيس لنهضة جديدة أو نهوض مأمول من دون النظر إلى القيم العابرة للقرون والأزمان؛ قيم متجددة ولازمة لاستمرارية البحث عن المستقبل والتطلع إليه والعمل له!
ربما في ظني كان هذا قانونا إنسانيا طبقته الشعوب في جميع أنحاء الأرض من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب! الناطقون باللغة الإسبانية لا يفتأون يذكرون مواطنيهم وأبناء هذه اللغة وهذه الثقافة بقيمة كبرى اسمها ثربانتس مؤلف أول رواية حديثة على وجه الأرض "دون كيشوت"! رغم رحيله منذ ما يزيد على أربعة قرون كاملة!
والأمر ذاته ينطبق على معجزة الإنجليز في العصور الوسطى وعبقري المسرح في كل العصور "شكسبير" الذي يكاد اسمه يختزن في ذاكرة كل إنجليزي أو منتم للثقافة الإنجليزية وقد غادرنا أيضا منذ ما يزيد على 400 سنة، وما زال حاضرا حضور الشمس التي لا تغيب أبدا!
في ثقافتنا العربية الحديثة، هناك أسماء وأعلام يستحقون دائما أن يعاملوا بالدرجة ذاتها من الاهتمام والتقدير لا من باب التشبث بأمجاد زائلة إنما من باب الحاجة إلى استدعاء القيمة المتجددة! وهذا ما أومن به أو أظنه والله أعلم!
(2)
في هذه الأيام من كل عام تحضر ذكرى الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801-1873) مؤسس الفكر العربي الحديث، وأول عين محدقة لنا تطل على الضفة الأخرى من البحر تتقن لغة الآخر، وتتعرف على أحواله وطبائعه، وترصد مستجداته ومكتسباته وقدراته، وتركز على تفاصيل نهضته المذهلة في العلوم والفنون والآداب، ويفتح الطهطاوي الباب على مصراعيه لطرح الأسئلة التي لا تنتهي أبدا!
من أول سؤال: من نحن؟ وأين موقعنا من العالم؟ ولماذا تقدموا ولماذا تأخرنا؟ .
بحسب نقاد ومؤرخين كثر، فقد مثَّل الشيخ رفاعة الطهطاوي نموذجًا للمثقف العربي المجدد في أولى مراحل النهضة العربية الحديثة التي بزغت مع بدايات القرن التاسع عشر، وقد فرضت تلك المرحلة على ذلك المثقف الحديث والمحدّث أن يسهم بكتاباته في مجالات ثقافية واجتماعية متعددة، وقد جسد الطهطاوي هذا النموذج إذ جمعت كتاباته بين عمل المفكر الاجتماعي والتعليمي، والصحفي، والأديب (الشاعر والناثر)، والمؤرخ غير المحترف، ومثَّل منحاه الإصلاحي العنصر الأساسي الرابط بين كتاباته التي تؤكد، بتنوعها، سعي الطهطاوي إلى الوفاء بما تطلبه واقعه.
وقد تنوعت إسهامات الطهطاوي في مجالات الأدب العربي في القرن التاسع عشر؛ ورغم كونه واحدًا من شعراء المرحلة الأولى من مراحل حركة الإحياء، على نحو ما يتجلى في "ديوانه"، فإن من اللافت أن إسهاماته في ميادين الكتابة النثرية هي التي وضعت اسمه في قائمة الأدباء المجددين في القرن التاسع عشر؛ إذ جمع بين تقديم شكل الرحلة في كتابه «تلخيص الإبريز في تلخيص باريز» (1834) والإسهام في تأصيل الرواية التعليمية، وذلك بترجمته لرواية فينيلون (1651- 1715) المسماة "وقائع تليماك" (1699) والتي أعطاها الطهطاوي عنوان «مواقع الأفلاك في وقائع تليماك» (1868).
كما أن له إسهامات بارزة في مجال الكتابة التاريخية يعكسها كتابه «أنوار توفيق الجليل في توثيق مصر وبني إسماعيل» (1868)، كما يعكسها كتابه «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية» وإن لم يكن من نمط الكتابة التاريخية الخالصة.
(3)
من بين إنجازات الطهطاوي الرائدة وأولياته المحمودة؛ إخراجه أول نص مدون في السيرة النبوية الشريفة (كتابه الرائد «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز») وهذا الكتاب يمكن أن نطلق عليه أو نعتبره أول كتاب "مؤلف" في السيرة النبوية في العصر الحديث؛ كتاب يفارق إلى حد كبير تقاليد الكتابة التراثية السابقة حتى وإن تشابه في الشكل وأسلوب الكتابة، لكن اختلفت الروح والدوافع وظهر لأول مرة في كتابة السيرة النبوية إشارات بازغة لفكرة المنهج وفكرة القواعد الحاكمة في تمحيص الروايات والمقارنة بينها وعدم الاكتفاء بإيرادها أو إثباتها فقط كما كان يحدث في كتب السيرة القديمة منذ النصوص الأولى التي وصلتنا في السير والمغازي والفتوحات وصولا إلى سيرة ابن إسحاق وابن هشام التي شهرت باسمه، ثم كل النصوص التي نسجت على منوال هذه السيرة الأم، تقليدا واحتذاء، شرحا وإسهابا، تقطيعا وتفصيلا.. إلخ.
يقول الناقد والأكاديمي الدكتور سامي سليمان في دارسته التحليلية المعمقة عن هذا الكتاب "إن كتابة الطهطاوي للسيرة ذات وشائج قوية في ارتباطها بأنماط كتابات السابقين عليه للسيرة النبوية، بقدر ما هي مختلفة عن كتابات اللاحقين له مباشرة أو الأجيال التالية له؛
فكتاب محمد الخضري «نور اليقين في سيرة خير المرسلين» (1895) بمثابة سيرة تاريخية بالغة الاختصار، بينما كتاب محمد حسين هيكل «حياة محمد» (1935) يمثل، فيما نرى، أول دراسة تاريخية يقدمها كاتب أو مؤرخ مصري حديث يفيد من مناهج البحث التاريخي الغربي، ويتجادل مع كتابات بعض المستشرقين حول سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)".
ويرى الدكتور سامي سليمان أيضًا أنه بقدر ما كان سعي الطهطاوي إلى إعادة صياغة تقاليد كتابة السيرة النبوية دالّا على منحاه التجديدي الذي يبدأ بتمثل الموروث -مع السعي إلى تجاوزه- فإن فعل التجاوز لدى الطهطاوي يمثل بدوره، دالًا آخر على أن كتابة الطهطاوي السيرة النبوية لم تنفصل عن لحظتها التاريخية والأدبية؛ أي لحظة ميلاد الأنواع السردية الحديثة في الأدب العربي.
(4)
كتب الطهطاوي -إذن- السيرة النبوية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقدمها تحت عنوان «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز»، وهي تمثل بحسب الدكتور سامي سليمان "أوّل نموذج للكتابة الحديثة لمتن السيرة النبوية".
وتحمل تلك العنونة أكثر من دلالة؛ فالطهطاوي قد ربط "نهاية الإيجاز" بكتاب "أنوار توفيق الجليل"، وهذا ما يسوغ النظر إلى "نهاية الإيجاز" بوصفه جزءًا من كتابات الطهطاوي التاريخية، ويدعم ذلك تقسيم الطهطاوي كتابه إلى أبواب وفصول تحمل عناوينها دلالات مرتبطة بتتبعه حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبعض هذه العناوين -مثل "الأسباب الباعثة على الهجرة"- يبدو أكثر اتصالًا بعمل المؤرخ منه بعمل الأديب.
وفي مقابل الدلالات السابقة، هناك دلالات مضادة تشير إلى إمكانية قراءة "نهاية الإيجاز" بوصفه كتابًا مستقلًا عن "أنوار توفيق الجليل"، من ناحية، وبوصفه كتابة تقع في المنطقة الواصلة بين الأدب والتاريخ من ناحية أخرى.
كان هذا الكتاب (أي «نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز») مع كتابه الآخر «المرشد الأمين للبنات والبنين» من آخر ما كتب الطهطاوي قبل وفاته، وقد نُشرت فصول «نهاية الإيجاز» في ثلاثة وأربعين عددًا من أعداد مجلة "روضة المدارس" التي كان يحررها في سنواتها الثالثة والرابعة والخامسة.. وقد توفي رفاعة الطهطاوي قبل أن يتم نشر الكتاب كاملا في (روضة المدارس)، وترك مسوداته لابنه علي فهمي رفاعة الطهطاوي الذي قام على هذه المسودات يعيد قراءتها حتى أنجز نشرها كاملة بعد وفاة أبيه بعامين كاملين.
ولم يبعد أبدًا المنحى التعليمي أو الغاية التدريسية عن سياق تأليفه لهذا الكتاب (أو كتبه المتأخرة عمومًا).
(وللحديث بقية)
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القرن التاسع عشر السیرة النبویة رفاعة الطهطاوی الطهطاوی ا هذا الکتاب فی سیرة
إقرأ أيضاً:
مفتي الجمهورية: السنة النبوية ليست كلامًا بشريًّا مجردًا بل وحيٌا من عند الله
أكّد الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم، أن السنة النبوية تدخل في إطار الوحي الإلهي، وليست مقصورة على القرآن الكريم فقط.
وأشار إلى أن هذا السؤال من القضايا القديمة المتجددة، إذ لم تخلُ العصور من محاولات الطعن في السنة والسعي إلى إخراجها من دائرة الوحي، بالرغم من تعارض هذا الطرح مع ما جاء في القرآن الكريم، الذي يُستند إليه في كثير من الأحيان للتشكيك بها.
جاء ذلك خلال حديثه الرمضاني، حيث أوضح أن السنة النبوية هي وحي من عند الله، وأن العلاقة بينها وبين القرآن الكريم علاقة وثيقة، مشيرًا إلى قول الله تعالى:
{هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} [الجمعة: 2]، وقال العلماء إن المقصود بـ"الكتاب" هو القرآن الكريم، أما "الحكمة" فهي السنة النبوية.
وأضاف أن هذا المعنى يتأكد أيضًا في قوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علّمه شديد القوى} [النجم: 3-5]، ما يدل على أن كل ما يصدر عن النبي صلى الله عليه وسلم هو وحي محفوظ من الله تعالى.
وأشار مفتي الجمهورية إلى أن السنة تأتي مفسِّرة للقرآن الكريم، بل إن النظر إليها يتم في ضوء ما أُضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير، أو حتى من صفاته الخُلقية والخَلقية، وما صدر عنه في اليقظة أو في المنام، سواء قبل البعثة أو بعدها.
وبيّن أن من أبرز ما يدل على أن السنة وحي إلهي العلاقة الوطيدة بينها وبين القرآن الكريم، حيث إنها تؤكد ما جاء فيه، وتشرح المجمل، وتقيِّد المطلق، وتخصص العام، وتزيل الإشكالات، بل قد تنفرد أحيانًا بتأسيس أحكام جديدة، ويأتي ذلك في ضوء قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [الحشر: 7].
وفيما يتعلق بكتابة السنة وتدوينها، أوضح أن من يشكك في حجية السنة بحجة أنها لم تدوَّن في بداياتها، يتناقض حين يقبل بصحة القرآن، رغم أن نقلة القرآن هم أنفسهم من نقلوا السنة ووثقوها. ولفت الانتباه إلى أهمية التفريق بين مرحلتين: مرحلة الكتابة والتدوين التي بدأت منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومرحلة الجمع والتأليف التي جاءت لاحقًا، وخضعت لمنهج علمي دقيق ميّز الأمة الإسلامية بعلمين فريدين هما: علم الجرح والتعديل، وعلم أصول الفقه.
وأكد أن عملية النقد والتمحيص لنصوص السنة بدأت مبكرًا، وهو ما يدل على وعي العلماء بأهمية هذه المهمة، وإدراكهم لمسؤوليتهم العلمية والدينية.
وفي ختام حديثه، أشار مفتي الجمهورية إلى أن من أبرز أسباب الطعن في السنة اليوم: سوء الفهم، وقلة العلم، وعدم إدراك السياقات والدلالات النصية، وهي أمور لا يتقنها إلا من راسخ في العلم.