«التفكيكية».. ثورة دريدا على التاريخ الفلسفي
تاريخ النشر: 12th, October 2024 GMT
أنهينا كبسولتنا السابقة بالتساؤل، هل هناك تشابه بين القراءة والتفكيكية، أم أن هناك اختلاف واضح وصريح بين الاصطلاحين؟ ويأتي موضعنا الآن للإجابة عن هذا التساؤل، ببيان وتحليل المقصود بمصطلح التفكيكية، ومن قام بإدخال هذا المفهوم إلى الحقل الفلسفي، وأيضًا هل استطاع هذا المصطلح المساهمة في تطوير قراءة النص الفلسفي، أو التاريخ الفلسفي ككل؟
عزيزي القارئ تُعد التفكيكية من أهم مشاريع الفيلسوف الفرنسي المعاصر جالك دريدا (1930م – 2004م)، وهي تمثل الثورة التي أحدثها على مركزية اللوغوس أو العقل في الميتافيزيقا الغربية.
كما أشار دريدا إلى ما يسميه تأويلًا في هذا الخصوص إنما هو لإحدى المقاطع ذات الصلة بين ما يقدمه فوكو وما يقوله ديكارت، من اجل تصميم بنية تاريخية أو مشروع تاريخي عام، قد يسمح له بالإشارة – تخصيصًا إلى ما يقوله ديكارت. لكن عندما يحاول المرء عمومًا المرور من كلام ضمني إلى كلام صريح، يجب عليه أولًا أن يتأكد من المعني بشكل دقيق، لذلك ينبغي لمحلل النص (وهو فوكو) ان يتكلم أولًا اللغة التي يتكلمها المريض(ديكارت). ولكن هل وضع لنا دريدا تعريفًا واضح نفهم من خلاله المقصد من هذه العملية؟
عزيزي القارئ يخبرنا دريدا بأن "التفكيك ليس أداة تحليلية ولا تركيبية؛ ليس منهجًا ولا عملية، ليس فعلًا تنجزه ذات على نص؛ عوضًا عن ذلك، فإنه مصطلح يستعصي عن التعريف والترجمة". كان هذا نص ما تركه لنا دريدا عن التفكيكية، الأمر الذي يجد فيه قارئ هذه السطور صعوبة بالغة في الفهم والوضوح.
وللوصول إلى معنى واضح لِمَا سُمي بالتفكيكية، علينا النظر بعين فاحصة ومتأنية لفلسفة دريدا ككل، وهنا نصل إلى الفهم الكافي لهذه الفكرة، ونستطيع القول بأن التفكيكية فلسفة تهاجم فكرة الأساس وترفض المرجعية، وتحاول إثبات أن النظم الفلسفية كافة تحتوي على تناقضات أساسية لا يمكن تجاوزها. فهي ليست مجرد ألية في التحليل أو منهجًا في الدراسة وإنما رؤية فلسفية متكاملة. ولكن ماذا كان يقصد دريدا بهذه الكلمات السابقة المحاطة بالغموض والاستتار؟
صديقي القارئ لا نجانب الصواب، إذا قلنا إن التفكيكيين قد خرجوا من عباءة البنيوية وبالرغم أنهم بدأوا حياتهم داخل البنيوية، وحينما فشل المشروع البنيوي في تحقيق طموحاتهم نحو تقديم مشروع متكامل للتحليل تمردوا على البنيوية، فتحول بعضهم إلى التحليل النفسي مثل لاكان، بينما تحول البعض الآخر إلى دراسة اللغة مثل دريدا، وبحكم هذه العلاقة الخاصة بالبنيوية، فإن التفكيك يعد امتدادًا لها، وبالرغم من اختلاف دريدا مع قراءة فوكو عن ديكارت، وهجومه الشديد على إعادة تفسير الكوجيتو. فإن - الكتابة الدال، المدلول، الدلالة – تظل هي محور التفسير أيضًا في التفكيك.
وختامًا نجد أن التفكيكية إنما تحول دون استمرار صلة القرابة في تأسيس الخطاب علي مر تاريخ الفلسفة، منذ أفلاطون حتى عقلانية هيجل، لذلك يمارس دريدا لعبة اللغة التي تخلوا من الفوائد، وهي "لغة الاختلاف"، التي تبحث عن منزلة جديدة للكلمة بعد انتزاع سلطتها كأصل ومركز للغة. وفي عبارة واحدة نستطيع القول بأن إستراتيجية دريدا تقوم على تفكيك التراث الفلسفي، بهدف القضاء على هيمنة العقل وسيطرة مركزية اللوغوس على الفكر الغربي، والوصول إلى فهم صحيح ودقيق للنص الفلسفي.
المصدر: بوابة الوفد
إقرأ أيضاً:
بين حاضنتين .. تموضعات التاريخ والمجتمع
يستلزم الحديث أولا النظر إلى مفهوم الحاضنة الاجتماعية، والحاضنة التاريخية في هذه المناقشة فقط، فالمقصود بالحاضنة الاجتماعية هنا: هو القدرة على احتواء أحداث التاريخ، والاستفادة منها، وعدم تجاوز تأثيراتها، وإن ارتبطت هذه الأحداث بزمن معين، وكان له فترة انتهاء، لأن الأحداث لا تموت موتا مطلقا، وإنما تختفي فورتها الآنية في اللحظة الزمنية لحدوثها، في الوقت الذي تسعى الذاكرة الاجتماعية للاحتفاظ بها لأقصى فترة زمنية ممكنة، وتوظيفها توظيفا بنيويا عبر ذات الذاكرة التي تنقلها من عصر إلى عصر من خلال أجيالها المتعاقبة. ومن هنا تواردت وتسلسلت إلينا الأحداث والوقائع التاريخية منذ آلاف السنين، ولا زلنا نرويها، ونتحدث عنها، ونتخذها مثلا، وكأننا الشخوص التي عاشت تفاعلاتها المختلفة؛ حيث نمارس هنا دور «شاهد على العصر» مع أننا لم نعش تلك العصور، ولكننا استسغنا هذه السرديات التي نقلها إلينا من كان قبلنا، لأنها جزء من تكويننا الاجتماعي بكل مفرداته، وبالتالي فهذا الرصيد يعود الفضل في بقائه واستمراره إلى الحاضنة الاجتماعية التي ترى فيه بقاءها، وأصالتها، وهويتها.
وبالتالي فالحاضنة الاجتماعية لن تتنازل عنه قيد أنملة، مع ما تلاقيه من صد للحديث عنه، وانتقاد لبقائه على رأس أهميته كل هذه السنين، خاصة من الفئة التي ترى أن كل ما يشير إلى الماضي، يدفن في مقبرة ماضيه، وما النداء الذي ينادى به بضرورة إعادة قراءة النص، أو المفاهيم المصاحبة لذات الفكرة، إلا صورة ماثلة لهذا الاشتباك وعدم الرضى لاستمرار الحاضنة الاجتماعية على قرارها الذي تعض عليه بالنواجذ، وهذا أمر واضح ومسلم به، والكل يعيش تفاصيله، سمه حوار الأجيال، سمه صراع الأجيال، وارتق به إلى حوار الحضارات، أو صراع الحضارات، كل ذلك مفهوم ومقبول، ومع ذلك يبقى للحاضنة الاجتماعية فضل البقاء والاستمرار، تأصيلا للمقولة المتداولة: «الإنسان لن يكون مقطوعا من شجرة» في كل مراحل نموه واستمراره الاجتماعي المتواصل.
أما الحاضنة التاريخية: فهي غير منكورة، بل متنوعة، وتتضمن تباينات مختلفة، وكل مآلات الأنشطة، والممارسات التي يقوم بها أبناء المجتمع تنضوي تحت الحاضنة التاريخية، فهي الملتحمة على طول خط السير الزمني مع الحاضنة الاجتماعية، والدليل على أن للتاريخ حاضنة قوية، هو ما يشير إليه هذا الكم النوعي، المادي وغير المادي الذي استطاع الإنسان أن يحصده طوال تجربته في الحياة، وظل التاريخ ساعده الأيمن لتوثيق كل صغيرة وكبيرة بذلها الإنسان عبر المساحة الزمنية المتاحة هذه، منذ بدء الخليقة، وإلى يومنا هذا، وما بعده، وفي هذا المكتسب يمكن الخروج بقراءة واسعة عن الإنجازات البشرية المادية وغير المادية أيضا، ومن هذا المكتسب يمكن الخروج بكثير من القناعات، والمواقف، والرؤى، فالتاريخ حفظ كل ذلك، ورصده رصدا متواترا، لا لبس فيه ببعديه المادي وغير المادي، تبقى فقط همة المجتمع الإنساني لكي يغرس فيه أدواته من البحث والتقصي، والتمعن، والتمحيص، فهناك؛ أيضا؛ الكثير مما حُمِّلَ التاريخ فوق ما يحتمل، خاصة عندما تتجاوز الأقوال -وليس الأفعال- المنطق «حدث العاقل بما يعقل» وإن كان في هذه الأقوال ما يذهب كله إلى التمجيد، بالأشخاص على وجه الخصوص، واحتساب ما لم يفعلوه على أنهم فعلوه، وهذه إشكالية كبيرة وموضوعية في كتابة التاريخ، وأمانة كبيرة تقع على عاتق كتاب التاريخ في كل عصر، فالمسألة ليست محصورة بزمنها الآني، بل تنتقل عبر الأجيال «الحاضنة الاجتماعية» مدعومة بأعمار هذه الأجيال «الحاضنة الزمنية» فتتوافق هنا الحاضنتان، ولا تتباينان في حجم المسؤولية، وعلى الإنسان الفرد أن يعي هذه الحقيقة، حتى في التفاصيل الصغيرة من حياتها، فحياته هي انعكاس لمستوى جميع أفراد حاضنته الاجتماعية، ولعل الهوية هنا تلعب دورا محوريا، خاصة من حيث التأصيل، وتلعب مفردات الهوية الدور الأكبر في هذا الاتجاه من حيث مستوى التنوع الذي تعيشه المجتمعات، لتحتكم على أصالتها أكثر وأكثر، والناس عموما يعبرون عن مجتمعاتهم من خلال مفردات هوياتهم، والتي لا تنقطع إطلاقا عن مجريات حياتهم اليومية، فهم ملتحمون معها وبها إلى درجة الاندماج المطلق، الذي يقاس عليه درجة تفوق هذا المجتمع عن غيره، في قدرته على المحافظة على أصالته وتجذره؛ والتجذر هنا هو الحمولة الزمنية التي يسجلها التاريخ.
من ضمن الأسئلة التي يمكن أن تطرح في العلاقة بين الحاضنتين، لتجلية الصورة عن الوقوع في مأزق التباين بينهما، ولتأكيد الفهم على مسألة التوافق والتكامل بينهما أيضا، لشدة التماس بين الوظائف المسنودة إلى كل منهما: ومن ذلك، أيهما متقدم على الآخر، هل الحاضنة التاريخية أم الحاضنة الاجتماعية، هذا من حيث النشأة؟ وأيهما أكثر تأثيرا في مجريات الآخر؛ التاريخية أم الاجتماعية؛ هذا من حيث التفاعل؟ ومع التسليم بأن الإنسان هو الفاعل في أحداث كليهما، فما هو المسوغ الذي يتكئ عليه لكي يجازف بتكرار أحداث التاريخ عبر مقولة: «من ينكر التاريخ، يجازف بتكراره» هذا من حيث الفهم؟ والتكرار هنا هو العودة الدائمة إلى المربع الأول، وكأن ما تم تحقيقه أو إنجازه يذهب في غياهب النسيان، أم أن الحاضنة التاريخية من تعاني من الشتات، هذا من حيث الإهمال؟ نعم، التاريخ يعطي اتساع المساحة الزمنية للبذل والعطاء، ولكن يبقى للحاضنة الاجتماعية القول الفصل في أحياء هذه المساحة، وإشعالها اشتغالا وتفاعلا وتأثيرا، والحرص على الاستفادة من كل موطئ قدم للتاريخ، وهل يمكن أن نقرأ تضادية معينة بين الطرفين: التاريخ والاجتماع هذا من حيث الدلالة؟ والتضادية هنا تذهب إلى أن المساحة الزمنية تظل دائما ضيقة لاستيعاب تفاعلات المجتمع، بينما يرى آخرون أن تفاعلات المجتمع غير قادرة على ملأ فراغ هذه المساحة التي يتيحها الزمن للإنسان، وتعكس الصورة برمتها حالة من المراوحة بين الطرفين، ولكنها تصل ختاما إلى أن كلا الطرفين (الحاضنة التاريخية/ الحاضنة الاجتماعية) يؤسسان منطلقات حياة الناس، ويصلان بها إلى مصاف التميز، ويبقى على الإنسان (الفرد/ المجموع) أن يكون حاضرا بفعله وتأثيره في تفاعلات الحاضنتين.
هنا؛ أيضا جانب متعلق بذات المسألة أو الفهم، وهو أن ما يحدث في المسألة التاريخية من تفاوت نسبي في شأن التدوين، وفي تجاوز الأحداث، وفي تهجينها، وفي التحايل على أكثرها، هو نوع من التلاعب الذي يحدثه الإنسان، ويتجاوز من خلاله المنطق، حيث تذهب به العاطفة إلى المآلات غير المتوقعة منه كمؤرخ، وكراصد للحقيقة، وكشاهد على عصر لن يشاهده من بعده؛ لطول أزمنة التاريخ، أكثر مما تقع عينه على آثاره، ومحتوياته، وقد تصل إليه مشوهة، وهو يقرأ ما كتب عن تاريخ أصبح شيئا من الماضي، وكتابة التاريخ هي نوع من المجازفة غير محمودة العواقب، في أغلبها، لأن الكاتب لن يكون صادقا، وأمينا، وحياديا، بالقدر الذي يتوقعه منه الآخرون لعوامل اجتماعية، وأغلبها ومطامع ذاتية، وذلك فإن مجمل كتاب الحاضنة التاريخية واقعون في هذا المأزق، وهذا لا ينفي أن هناك رجالا صدقوا ما عاهدوا عليه أنفسهم، بأن يكونوا منصفين، وصادقين، وحراسا أوفياء على أمانتهم التي يحملونها عن طيب خاطر، وهؤلاء كثير منهم أيضا؛ واجهوا في حاضنتهم الاجتماعية الكثير من الصعاب، والطرد من رضى المجتمع من حولهم فـ «الدهر لا يبتغي إلا مادحا ملقا؛ يتغنى بالهوى فوه» وهذا إشكالية موضوعية في الحاضنة الاجتماعية، تتأثر بها الحاضنة التاريخية.
تتبلور عقدة هذه المسألة أكثر في أن الإنسان واقع بين فكي كماشة، فلا الزمن يعطيه صك برهان لكي يكتب ما يريد، ولا المجتمع يعطيه هذا الصك ليعيش كما يريد، وللخروج من هذه العقدة «الإشكالية» أن يكون صادقا صادقا، ويكفيه ذلك.