الشيّوعِي الصَالِح «خليّل الياس»
تاريخ النشر: 12th, October 2024 GMT
نضال عبدالوهاب
في طفولتنا وقبل مرحلة الوعيّ وقبل أن تسوقنا خطواتنا لذات المكان بعدها بسنوات في بدايات أعوام الشباب الباكِر ، كنا عندما تأتي سيّرة “الشيّوعيين” والحزب الشيّوعي السُوداني ، يقترن ذلك مُباشرة بسيرة ” الكُفر والإلحاد” ، والفاسقين والجماعات “المحظورة” ، ولعل تركيبة المُجتمع السُوداني الذي لعبت الجماعات الدينية ، وتمدّد الأثر “الصوفي” فيها ، ونشاط جماعات الإخوان المُسلمين ، والدعايات المُضادة التي تركها المُستعمر في مُحاربته للفكر الشيّوعي وماكان يُعرّف “بالنشاط الهدّام” ، كُل ذلك توارثته الذاكراة المُجتمعية في السُودان وضربت بذلك سياجاً يحجُب رؤية أن هذا الحزب هو مُجرد “حزب سياسِي” وطني سُوداني ، صحيح يستمّد في تفكيره للفكر الماركِسي الإشتراكي من حيث التحليل وأدواته ، ويعتمّد في التنظيم كذلك علي هذا الطابع ، ولكنه مع هذا فهو حزب سياسي سُوداني ينتمي لليسار ، وتكون في ظروف سياسِية مُحددة مؤدياً دوره الوطني ماقبل الإستقلال ومُنذ عهد الإستعمار ، ومابعده ، وإحتفظ بتميّزه السُوداني.
نشأنا ومُعظم الأجيال السُودانية في العموم علي هذا النمط للنظرة للشيّوعين ، بل وحتي الديمُّقراطيّون كان يُنظر لهم بذات هذه النظرّة.
إلا أنني ولظروف النشأة الأُسرية نفسها فقد ساعدتني لتعديّل طريقة التفكير لاحقاً نحو “الشيّوعيين” ، فقد كان والدّي عليه الرحمة “ديمُّقراطياً” ، وله العدّيد من الأصدّقاء “الشيّوعيّون” ، ومن المعروف أن التحالف مابيّن الشيّوعيين السُودانيّون والديمُّقراطيين فيه كان متيناً ، ولعل الذي كان يُعطي الحزب الشيّوعي السُوداني هذا التأثير هو إرتباط حلقات الديمُّقراطيين به ، وكان هذا موجوداً في حركتي الشباب والنساء في السُودان بصفة خاصة ، إضافة لفئيات الطلبة ، والمُزارعين والعُمال وصغار الموظفين ، كانت تلك هي الدائرة التي يتحرك فيها الحزب ، وكان والدي أحد كوادر الديمُّقراطيين هؤلاء الذين إرتبطوا بأحد روافد الحزب في حركة الشباب ضمّن “إتحاد الشباب السُوداني” ، وعمل وسط كوكبة من أصدقائه الشيّوعيين في ذلك الوقت ، في عصره الذهبي ومجده داخلياً وخارجياً ، وكان أحد أقرب أصدقائه الأثيرين فيه هو “خليل الياس” ، كُنا نراه وبعد خروجه من فترة إعتقاله الطويل والتي إمتدّت لسبع سنوات متواصلة في عهد نظام “مايو” ، مابعد إنقلاب ١٩ يوليو ٧١ ، وقد كان يأتي بمعدل شبه يومي لزيارة والدّي ومنزل الأُسرة والعائلة ، فتعلقنا به وإخوتي ونحن أطفالاً ، فقد كانت له طريقة جاذبة في التعامل الأبوي المُختلف ، تُساعده روحه المرحة وطريقته الساخرة في الكلام والتعليق علي الأشياء ، ثم لم يلبث كثيراً وغادر إلي “المجر” وأُوروبا الشرقية ، يؤدي دوره الحزبي في حركة الشباب وإتحاده ، حتي صار نائباً لرئيس الإتحاد العالمي ، وكان كذلك رئيساً لإتحاد الشباب السُوداني لعدة دورات ، ساعد في إبتعاث العديد جداً من الطلبة للدراسة بالخارج ، في مختلف التخصصات ، وبعد أن عاد من المجر ، عمل في بنك السُودان وتدرج وتنقل فيه ، سكن “المزاد” بحري ثم أستقرّ به المقام بمنزله في “الصافية” ، وظلّت الصداقة القوية التي جمعته بوالدّي مُستمرة ، فقد إبنه الأصغر “طارق” وهو في “السابعة عشر” من عمره ، في حادث حركة “مرّوع” ، وبقدر ما كان هذا الحادث مؤلماً ، ليس لأنه فقد إبنه ، ولكن لأن “طارق” كان مشرّوع شخصيّة مُتميزة جداً ، وموهوب لدرجة غير طبيعية في كثير من الأشياء ، وسابق لسنه كثيراً ، ومحبوب من الجميّع ، لم أري في حياتي شخصيّة “جلِّدة” وصبورة في المواقف “الصّعبة” كشخصية “عم خليل الياس” ، كانت له فلسفته الخاصة في “الموت” ورحيل “الأحباب” ، شهدت معه لاحقاً موت الكثير من العزيزين جداً له من “أسرته” وأصدقائه وزملائه في “الحزب” وخارجه ، وكان يقابل كُل ذلك برباطة جأش وتحمّل “عجيب”.
تم التضييق عليه كغيره من الشيّوعيين سواء بالإعتقال أو النداءات المُتكررة للتحقيق في مكاتب “أجهزة الأمن” لنظام “الكيزان” ، إضافة للإحالة للصالح العام والمعاش المُبكر ، فقرر الهجرة إلي الولايات المُتحدة التي مكث فيها عدد من السنوات ، ولكنه قطع المدة دون أن يتحصل علي جنسيتها ، وأذكر وفي يوم عودته بعد “٤” سنوات قضاها بأمريكا تقريباً ، وفي ذات ليلة عودته ، وفرح زوجته وابنائه بعودته ، إنتقلت رفيقة دربه “خالتي إقبال” في ذات تلك الليلة ، مُخلّفة المزيّد من الحزن لهذا “المُناضل” الجسّور ، ثم إنتقل للعيش بعدها مع إبنتيه ” مني ومها” في السعودية ، مع زيارات للإمارات لإبنه “عادل” وإبنته “منال”…
كُل تلك الرحلة كان مواصلاً لعمله الداخلي في الحزب الشيّوعي السُوداني ، وبعد عودته للإستقرار الأخيّر بالسُودان ، كنت حينها قد تخرجت من الجامعة ، وأصبحت مُلازماً لعم “خليل الياس” بصورة شبه مُستمرة ، ولا يكاد يمر يوم دون أن نلتقي أو نتحدث هاتفياً مطمئناً عليه بمثل ما كنت أفعل مع والدّي ، فقد كان بمثابة “أبي الثاني” فكنت بذلك محظوظاً جداً في وجود أكثر من “أب” في حياتي ، تربيت علي يديهم ، وكان صديقاً مُقرباً جداً لي برغم فارق العُمر بيننا والتجربة ، ولكنه لايشعرك بهذا الفرق ، كانت بيننا ثقة وإحترام ومودة ومحبة عظيّمة وقُرب ، يجعلني أبوح له بأشيائي الخاصة جداً وأنا “الكتوم” بطبعي ، تعرفت من خلال عمّ خليل علي كثير من “الشيّوعيين” ، الذين من المُحتمل لم تكن تسمح لي ظروف العمل الحزبي في ذلك الوقت للتعرف عليهم ، وظروف العمل السري وإختلاف الهئيات والمسؤليات ، وكمثال الأعمام “عبدالحميد علي ، حسن شمت ، فاروق زكريا ، يوسف حسين ، عبدالجليل ، صديق يوسف ، التجاني الطيب ، عبدالقادر الرفاعي ، محجوب عثمان ، محجوب شريف ، طه سيد احمد ، محجوب خالد ، علي الكنين ، صدقي كبلو ، صلاح العالم ، مصطفي الشيخ ، الشيخ عووضة وغيرهم ، دخلت بيوت العديد من الشيوعيين والشيوعيات معه ، فقد كان مداوماً ومُلتزماً بالزيارات الإجتماعية معهم وتفقدهم ، كان كثيراً ما يوصيني لحمل “أمانة” لهؤلاء الرفاق وأسرهم ، وحتي أُسر الذين أنتقلوا ورحلوا ، وكان يتميّز عن الكثير من الشيّوعيين في أنه يفرق بيّن العلاقات الإنسانية ، والإختلاف السياسِي ، فقد ظلت علاقته كمثال بعبدالله عبيد والخاتم عدلان مُستمرة ومع أسرتيهم برغم خروجهم في توقيتات مختلفة عن الحزب وكذلك آخرين ، كعبدالقادر عباس وأبوبكر الأمين وغيرهم ، يحكي لك عن تاريخ الحزب ونسائه ورجاله وتضحياتهم العظيمة ، وكلما كنا نسمع عن احد الأسماء التي لم نعاصرها كالجزولي سعيد ، وكرومة وعباس علي ، والسخي وجيل المُبكرين ناس عمر مصطفي المكي والوسيلة والشفيع و عبدالخالق ، يخبرك تفاصيلاً عنهم كأنك قد عشت معهم زمانهم ، كان محبوباً جداً وسط الشيّوعيين والشيّوعيات ، و كان له إهتمام خاص بالكوادر الشبابية والنسائية منهم ، ويعرف كيف يتعامل معهم ، وشهدت له شخصياً الكثير من النقاشات والمواقف مع شيّوعيين “أفذاذ” ومُناضلين “حقيقين” وكيف كان يُدافع عن جيل الشباب ، ولعلي كنت “أحدهم” قبل مُفارقتنا لتلك “الضفة” والمكان ، فقد كان يعلم أننا نحمّل “أفكاراً” “مُتمردّة” وطريقة “مُختلفة” للتعبير عنها.
خليل الياس كان مثالاً للشيّوعي الصالح المُلتزم ، رجل ذو أخلاق عالية جداً وطبع نادر الوجود ، لم تكن علاقته فقط بالشيوعيين والديمّقراطيين ، ولكنه كان من الذين يعيشون وسط الناس “البسيطة” ، عمل لفترة بعد المعاش المبكر في بنك السودان مديراً لأحد مطاحن الغلال في المنطقة الصناعية بحري ، وكنت كثيراَ ما ازوره فيها ، فرأيت تعامله مع العُمال والناس البسيطين من حوله ، كثيرون وحتي رحيل عم خليل الياس كانوا يزورونه ، ويقضي حوائج الكثيرين منهم ، كان إذا سافر خارج السُودان يأتي مُحمّلاً بالهدايا للعديد من أصدقائه ، الشيوعيين وغيرهم ، لايدخل للمركز العام ودار الحزب إلا وفي يده شئياً يسد جوع من لم يفطر من الرفاق حينها أو يتناول طعاماً ، وظل مداوماً علي هذا حتي في زياراته لمقر صحيفة الميدان ، مُساعداً لهم في تصحيح موادها بمعية رفيق دربه العم “حسن شمّت” ، له مواهب خاصة في كتابة الشعر ، وذو صوت غنائي بديع ، وهو دفعة عثمان الشفيع في مدينة شندي التي ولد ونشأ بها ، وكان يقول لي أنه لولا مُمانعة أسرته كان ليكون فناناً ومطرباً منافساً لعثمان الشفيع ومُطربي تلك الحقبة لما يتمتع به من صوت جميل ، عم خليل الياس كان شخصاً لاتمل الجلوس إليه والإستماع ، له روح مختلفة ، ساخر ومرّح ، “مناضل” وطني حقيقي ومُحب للسُودان والنيل والحياة…
كم نشتاق إليك يا “عم خليل” ، تأتي ذكري رحيلك الثالثة اليوم ، وقد تغيرت أشياء كثيرة من بعد رحيلك في بلادنا ، والثورة التي كنت قد شهدتها وكنت مزهواً بها وبثوارها وشبابها أُختطفت وقُطع عنها الطريق ، وعاد العسكر و عمّت الحرب والغوغاء بلادنا وتفرق الناس…
ختاماً سأخبرك شئيين ، الأول فأسرتك وابناؤك وأهلك بخير ونحن علي تواصل مُستمر بحمدلله ، أم الأمر الآخر فهو أنني لاأزال كما عهِدتني في “صف الجماهير” لم نتغيّر و إن فارقنا المكان الذي جمعنا والرفاق القُدامي ، وبرغم مُحاربة الكثيرين وسوء ودنئي ما عندهم ، لكن سنظل أوفياء لمبادئنا وما تعلمناه ، نُدافع عن الكادّحيّن ونعمّل لأجل المظلوميّن ولبلاد حلمنا معاَ كثيراً لأجلها وهتفنا وغنيّنا وقاومنا وفكرّنا وعمِّلنا ، لن نستسلم لليأس في أن تعود لنا أنضّر وأجمّل وأبهي بإذن الله تعالي ، نُم هنالك قرير العين في مرقدك الأخير مُطمئناً ، والسلام عليك أيها الرجُل الشيّوعي الصالّح والتحايا الزاهيّات الزاكيات الطيبات… الوسومنضال عبد الوهاب
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: نضال عبد الوهاب الس ودانی الس ودان فقد کان ل الیاس ن الشی
إقرأ أيضاً:
حزب الله في المرحلة المقبلة… إرباك في صفوف خصومه!
تعتقد بعض القوى السياسية أنها استطاعت تحقيق نصر سياسي على "حزب الله"، وأنها ستصبح في المرحلة المقبلة قادرة على تفعيل هذه المعادلة المُراكَمة من أجل فرض بعض المعادلات الجديدة في السياسة الداخلية.
لكنّ هذه القوى الداخلية تجهل أن ما اعتبرته انتصارًا قد يرتدّ عليها في المدى المتوسط أو ربمّا في المدى القريب.
احدى أهم عوامل ما سُمّي انتصارًا على "حزب الله" هو ما تعرّض له من ضربات عسكرية اسرائيلية خلال الحرب الأخيرة، وبمعنى آخر، إنّ من انتصر على "حزب الله" هو العدوّ الاسرائيلي، وبالتالي فإن القوى المناهضة للحزب ليست صاحبة الجهد في إضعافه، بل على العكس تماماً، فقد لعبت دور المتفرّج من بعيد أو من قريب في تلك المعركة.
تعتبر مصادر سياسية مطلعة أن خسارة "الحزب" للحرب تفرض عليه، وفق مفاهيم ومطالب القوى السياسية المعارضة في الداخل اللبناني، ترك موضوع الصراع مع اسرائيل، ما يعني بالنسبة اليهم عودة "الحزب" الى الداخل اللبناني، علماً أنّ هذه القوى تقول عكس هذا الخطاب، إذ تعتبر أنّ مشكلتها مع "حزب الله" داخلية سيّما مع سلاحه، في الوقت الذي لم يكن لديها أية مشكلة مع اسرائيل عموماً.
أمام هذا الواقع من الواضح أن "حزب الله" لن يسلّم سلاحه، وإن كان سينكفىء تدريجياً الى الساحة اللبنانية، لذلك فإنّ تركيز "الحزب" على الزواريب الداخلية وخوضه معركة بناء الدولة والإصلاح قد يؤدي الى إرباك كبير في صفوف خصومه وحتى بين حلفائه، إذ إنّ قوة "حزب الله" التي يحتاجها في الداخل اللبناني لا تزال متماسكة وهي في الواقع قوّة شعبية من الدرجة الاولى.
من هُنا سيكون "حزب الله"، الأقوى شعبياً في لبنان، متفرّغاً في المرحلة المقبلة وخلال الأشهر القليلة المقبلة للداخل اللبناني، وهذا من شأنه أن يزعج خصومه السياسيين لأنه عملياً سيكون أساساً لأي ضغط شعبي داخلي، ما يعزّز قدرته على الضغط محلياً والتي ستكون أكبر بكثير من المرحلة الفائتة حين كان يجيد "التطنيش" عن أمور عدّة بسبب انشغاله في الواقع العسكري.
المصدر: خاص لبنان24