طلاب يزيلون الغبار عن قلب مدينة بغداد التاريخي
تاريخ النشر: 11th, October 2024 GMT
في ظل بوابة تاريخية شيدت قبل أكثر من 800 عام، وبين مستودعات صناعية ضخمة وطريق سريع وسط العاصمة العراقية بغداد، يستمع طلاب قسم الهندسة المعمارية لأستاذ ثمانيني يروي كيف بنى خلفاء عباسيون السور لحماية المدينة من المغول.
في العاصمة العراقية التي عصفت بها لسنوات انفجارات بسيارات مفخخة وهجمات انتحارية شبه يومية وصراعات سياسية وطائفية، لم يكن التخطيط المُدُني والحفاظ على التراث من ضمن أولويات الدولة.
لكن مع عودة الحياة إلى طبيعتها بشكل تدريجي في المركز الحضري الذي يسكنه اليوم أكثر من تسعة ملايين شخص، ويُعدّ ثاني أكبر عاصمة عربية من ناحية عدد السكان، توسّعت مروحة الاهتمامات.
من بين هذه الاهتمامات، جولة نظمها "نادي المعماريين الشباب" شارك فيها حوالى ثلاثين طالبا ومصوّرا.
يقول الطالب في الجامعة التكنولوجية في بغداد، عبد الله عماد (23 عاما)، وهو أحد منظّمي الجولة، لوكالة فرانس برس، إن الهدف من الجولة هو "أن نظهر للناس ما تحتويه بغداد من عمارة إسلامية وقيمتها وهويتها".
الجولة تشمل محطات عدة منها، القصر العباسي الواقع على ضفاف نهر دجلة والذي يعود بناؤه إلى أكثر من 800 عام بباحته الواسعة وأروقته المنقوشة أسقفها بالزخرفات العربية والأشكال الهندسية الدقيقة والمعقّدة، بالإضافة إلى مسجد مرجان و"الباب الوسطاني" وهو بوابة تاريخية بُنيت حوالى القرن الثاني عشر ضمن مشروع أسوار عملاقة شُيّدت لحماية العاصمة العباسية.
وتحت قبة الباب الوسطاني المهيبة المشيّدة بحجر اللبنة، تفرّق الحضور بعدما استمعوا لشرح قدّمه الأستاذ موفق الطائي (83 عاما)، وأخرجوا هواتفهم وكاميراتهم لالتقاط صور في الموقع التاريخي.
ويشرح الطائي أن عملية البناء استغرقت 130 عاما، وتناوب عليها الخلفاء "المستظهر بالله والمسترشد بالله والناصر لدين الله".
ويضيف الطائي أن الحروب في العراق "أثارت إحباطات لدى الناس، إذ لم يكن بالإمكان أن نسأل شخصا ما عن رأيه بالقوس المعماري فيما ابنه ذاهب إلى جبهة القتال" على حد قوله.
ويرى الطالئي أن الحفاظ على التراث يساهم اليوم في نشر الوعي حول "الهوية الوطنية"، ويشكّل كذلك عاملا اقتصاديا جاذبا للسياحة.
وينظّم "نادي المعماريين الشباب" منذ سنة تقريبا، ندوات وجولات في شوارع بغداد وأزقة الأسواق القديمة.
ويقول الطالب في الجامعة التكنولوجية في بغداد عبد الله عماد "في السابق، كان الاهتمام بهذه الأمور قليلا وحتى شبه معدوم، لكن بدأ الاهتمام يزداد حاليا"، "لأن بغداد بدأت تستقرّ" بعد كل "الأحداث الأمنية" التي شهدتها على مدى عقود.
المهندسة المعمارية فاطمة المقداد (28 عاما) تؤكد بدورها الاهتمام المتزايد بالتراث العراقي الذي أُهمل لفترات طويلة، قائلة "عندما نرى شبابا مهتمين بهذا الموضوع، نتأمل بالخير لإحداث تغيير في ما يتعلق بالتراث والحفاظ عليه".
وتضيف "عندما يتصفّح الشباب شبكة الإنترنت، يرون كيف تهتم الأمم بتراثها، وهم يريدون ويستحقون الشيء نفسه".
وتتابع فاطمة المقداد "أصبح هناك وعي بأن العراق يحتوي على مواقع تستحق الزيارة وأنه من غير الضروري السفر إلى الخارج من أجل السياحة".
في منطقة الرصافة بوسط بغداد على الضفة الشرقية لنهر دجلة، تعلو مبان خرسانية تعود لستينات القرن الماضي إلى جانب واجهات مزخرفة وشرفات أنيقة من مطلع القرن الماضي.
ووسط ضجيج عربات الـ"توك توك" والدراجات النارية وسيارات الأجرة الصفراء، يشقّ حمالو البضائع بعرباتهم الكبيرة طريقهم بين عشرات الباعة الذين يفرشون النظارات الشمسية والأسماك والأحذية على جانب الطريق.
وفي وسط مدينة بغداد التاريخي، صُنّف نحو 2400 مبنى من ضمن المباني التراثية، لكن نحو 15% منها مدمّر أو طرأت عليه تغييرات، بحسب "أمانة بغداد".
وكان العديد من هذه المباني مملوكا لعائلات يهودية أو لعراقيين تركوا البلاد جرّاء الصراعات التي أدّت إلى هجرة معماريين وخبراء في التخطيط المُدُني والترميم.
وبمشاركة رابطة المصارف الخاصة العراقية، تولّت أمانة بغداد تنفيذ مشروعين لترميم "شارع المتنبي" المعروف لبيع الكتب وشارع آخر يضم السراي القديمة، إضافة إلى 15 مبنى تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر أو عشرينات وثلاثينات القرن الماضي.
وشملت الأعمال بصورة رئيسية إعادة رصف الطريق وإعادة الإنارة وترميم الوجهات.
ويشيد المهندس المعماري الذي أشرف على ترميم شارع السراي محمد الصوفي (39 عاما) بـ"القيمة الجمالية للمباني كون نقشاتها وفضاءاتها وزخارفها فريدة من نوعها".
تشمل المرحلة التالية من أعمال الترميم شارع الرشيد الذي افتتح عام 1916 والذي تحوّل مع الوقت إلى "عمود فقري مريض ومتعب"، بحسب مسؤول العلاقات في أمانة بغداد محمد الربيعي.
ويعتبر المهندس الربيعي، نقلا عن وكالة فرانس برس، أن هذا الشارع هو "روح بغداد القديمة وهويتها"، مضيفا "تحت هذا المركز توجد المدينة العباسية القديمة".
وتكثر التحديات، بحسب الربيعي، أبرزها التمويل الكبير الذي تحتاجه السلطات من أجل عمليات الترميم وكذلك صعوبة الوصول إلى "الملاك الأصليين" من أجل أخذ موافقتهم قبل المباشرة بالأعمال. لذلك تركزت الجهود الأولية على "مناطق لا تثير مشاكل"، بحسب تعبيره.
وتسعى الحكومة، وفق الربيعي، إلى "إعادة إحياء مركز بغداد التاريخي" بعد أن أصبح اليوم مركزا يجمع مخازن البضائع والآلات الصناعية الثقيلة ومتاجر بيع زيوت محركات السيارات. وتطمح السلطات إلى إبعاد هذه النشاطات نحو أطراف المدينة.
ويتابع مسؤول العلاقات في أمانة بغداد "لا نطلب من الناس مغادرة أماكنهم بل نقول لهم +ابقوا لكن دعونا نحوّل مستودعات الجملة إلى متاجر ومقاه ودور سينما ودور ثقافية وتراثية".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: أمانة بغداد فی بغداد
إقرأ أيضاً:
معجم الدوحة التاريخي ثروة لغوية وفكرية وريادة على مستوى العرب والعربية
لا تكاد وجوه الجدوى من إنجاز معجم تاريخي لأي لغة من اللغات تحصر أو تنقضي، واللغة العربية منها خاصة؛ لامتداد تاريخها، وضخامة مدونتها، وموثوقية مادتها المستقاة من نصوص نحو 20 قرنا من تاريخ اللغة العربية.
ولعل من أبرز تلك الوجوه: تمكين الأمة من فهم لغتها في تطوراتها الدلالية، الأمر الذي يتيسر معه تحصيل الفهم الصحيح لتراثها الفكري والعلمي والحضاري؛ بإدراك دلالة كل لفظ بحسب سياقه التاريخي.
فضلا عن كون المعجم التاريخي للغة العربية سجلا حافلا بجميع ألفاظ اللغة العربية، وديوانا مبينا أساليبها، وموضحا تاريخ استعمالها، وتطور دلالاتها ومبانيها عن طريق ذكر الشواهد ومصادرها مع التوثيق العلمي لكل مصدر؛ فهو معجم لغوي موسع يكشف عن خبيء تاريخ اللغة العربية، وعن تاريخ الأمة العربية وحضارتها.
وإن الناظر فيما اجتمع حتى الأوان من مادة معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، ليجد قدرا كبيرا من الجذور اللغوية الجديدة التي تبطنها المعجم ودلت عليها السياقات الاستعمالية المبثوثة في مدونة المعجم وخارجها، في حين خلت منها سائر معجمات العربية قديمها وحديثها.
كما يجد وفرة وثراء عظيمين في المعاني والمباني الجديدة في تلك الجذور المستدركة العربية منها والدخيلة (الأعجمية)، وفي غيرها من الجذور الموقوف عليها في غير المعجم، ولا سيما في عصرنا الحاضر.
إعلانوالقارئ اليوم يلحظ أن عربية معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، المستلة من سياقات استعمالية اشتملت عليها مدونة المعجم والمدونات الملحقة بها، أوسع كثيرا جدا من عربية معجمات اللغة التي قصرت الفصاحة على (عليا هوازن وسفلى تميم) وحصرت تدوين اللغة على عصر الاحتجاج، ففاتهم من اللغة بهذا القيد ما زهدوا فيه، أو لم يطلبوه، أو عجزوا عن الوصول إليه؛ كالثروة اللغوية التي كانت تجري على ألسنة العرب الأقحاح في اليمن.
على أنه لو كان سعي علماء اللغة في تطلاب ألفاظها كسعي علماء الحديث، الذين طلبوه أجمل طلب، فجابوا اليمن من صعدة إلى أقصى حضرموت، مرورا بصنعاء والجند، وغيرها من أقاليم اليمن الكبير، لاجتمعت لديهم من ألفاظ اللغة معاني ومباني قدر كبير لأهل اليمن من ممضى باذخ في كل شيء، ولا سيما في الزراعة والعمارة والتقاويم والتواريخ وغيرها؛ نحو:
بَتَلَ الأَرْضَ: حَرَثَها. والبِتْلَةُ: الحِراثَةُ. والبَتُولُ: مَنْ حِرْفَتُهُ حِراثَةُ الأَرْضِ، ويُجمع على (أَبْتال). والمَبْتولُ من الأراضي: المحروث. شَرْيَفَ الزَّرْعَ: قَطَعَ وَرَقَهُ إِذَا طَالَ خِيفَةَ فَسَادِهِ. والشِّرْيافُ: وَرَقُ الزَّرْعِ إِذَا طَالَ. والمُشَرْيِفُ: الّذي يَقْطَعُ الشِّرْياف. والمُشَرْيَفُ: منَ الزَّرْعِ: المقطوعُ الشِّرْياف. على أنّ بعض المعجمات جعلت جذره (شرنف) بالنّون، وليس ذاك بشيء.
خَزَّنَ القاتَ: مَضَغَهُ وَحَفِظَهُ فِي أَحَدِ شِدْقَي فَمِهِ أو في كليهما. والتَّخْزِينُ والخِزّانَةُ والتَّخْزينَةُ: مَضْغُ القاتِ وحِفْظُهُ فِي أَحَدِ شِدْقَي الفَمِ أو في كليهما. والمُخَزِّنُ: الماضِغُ القاتَ، الحافظُهُ فِي أَحَدِ شِدْقَي فَمِهِ أو في كليهما. قَوَّتَ القَاتَ: تَعَاطَاهُ، أَوْ بَاعَهُ وَاشْتَرَاهُ. والقاتُ: شَجَرٌ بَرِّيٌّ وَزِرَاعِيٌّ لَا ثَمَرَ لَهُ، أَوْرَاقُهُ صَغِيرَةٌ إِلَى مُتَوَسِّطَةٍ، يُزْرَعُ بِكَثْرَةٍ فِي اليَمَنِ وَالحَبَشَةِ، تُمْضَغُ أَوْرَاقُهُ فَتَمْنَحُ نَشْوَةً وَنَشَاطًا، وَتُحَسِّنُ المِزَاجَ ثُمَّ تُفْسِدُهُ، يَزِيدُ بَعْضُهُ فِي الرَّغْبَةِ الجِنْسِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ أَكْثَرَهُ يُخْمِلُ أَدَواتِ تَحْقِيقِهَا، يُضْعِفُ الشَّهِيَّةَ، وَيُقَلِّلُ النَّوْمَ. والمِقْواتُ: مكانُ بَيْعِ القاتِ. والمِقْواتَةُ: مُزاوَلَةُ بَيْعِ القاتِ وَشِرائِهِ. والمُقَوِّتُ: بائِعُ القاتِ. والمَقْوَتيُّ: الذي يبيعُ القاتَ، ويجمع على مَقاوِتَة.
صَرَبَ الزَّرْعَ: حَصَدَهُ. والصِّرابُ: الحَصادُ. وصارِبُ الزَّرْعِ: حَاصِدُهُ. ويجمع على (صُرّاب). والمَصْروبُ: المَحْصودُ. وذو الصِّراب: هو الشَّهْرُ السّابعُ مِن شهور السّنة الحِمْيَريّة، ويُقابلُهُ في السُّرْيانيّة: تشرين الأوّل، ومنَ الرُّوميّة: أُكْتُوبَر.
وفيما يأتي عرضٌ لأسماء الشُّهور في السّنة الحِمْيريّة، مشفوعًا بذِكْر ما يُقابلها من الشُّهور الآراميّة السُّريانيّة والرُّوميّة، وذلك كلُّهُ من فوائد معجم الدّوحة على فَوائت المعجمات:
1- ذو الثّابة: هو الشَّهْرُ الأوّلُ مِنَ السّنة الحِمْيَريّة، ويُقابلُهُ في السُّرْيانيّة: نيسان، ومنَ الرُّوميّة: أَبْريل.
2- ذو المَبْكَر: هو الشَّهْرُ الثّاني، ويُقابلُهُ: أَيّار، ومايو.
3- ذو القِياظ: هو الشَّهْرُ الثّالثُ، ويُقابلُهُ: حَزيرانُ، ويونيو.
4- ذو مَذْرأَن: هو الشَّهْرُ الرّابعُ، ويُقابلُهُ: تَمُّوز، ويوليو.
5- ذو الخِراف: هو الشَّهْرُ الخامسُ، ويُقابلُهُ: آب، وأُغُسْطُس.
6- ذو عَلّان: هو الشَّهْرُ السّادسُ، ويُقابلُهُ: أَيْلول، وسِبْتِمْبَر.
7- ذو الصِّراب: هو الشَّهْرُ السّابعُ، ويُقابلُهُ تشرين الأوّل، وأُكْتُوبَر.
إعلان8- ذو المُهْلَة: هو الشَّهْرُ الثّامنُ، ويُقابلُهُ: تِشْرينُ الآخِر (الثاني)، ونُوفِمْبِر.
9- ذو الآل: هو الشَّهْرُ التّاسعُ، ويُقابلُهُ: كانونُ الأوّلُ، ودِيسَمْبِر.
10- ذو الدَّثأ: هو الشَّهْرُ العاشرُ، ويُقابلُهُ: كانونُ الآخِرُ (الثاني)، ويَناير.
11- ذو الحِلَّة: هو الشَّهْرُ الحادي عَشَر، ويُقابلُهُ: شُباط، وفِبَرايِر.
12- ذو مَعُون: هو الشَّهْرُ الثّاني عَشَر، ويُقابلُهُ: آذارُ، ومارِس.
وإتّمامًا للفائدة يحسن ذكر فصول السّنة الحِمْيريّة الفائتة من معجمات اللُّغة أيضًا، وهي أربعةُ فصولٍ في اثني عشر شهرًا، هي: دَثَـأ (الصّيف)، وأَشْهُرُهُ: ذو الثّابة، وذو مَبْكَر، وذو القِياظ. وخَريف (الخريف)، وأَشْهُرُهُ: ذو مَذْرَأَن، وذو الخِراف، وذو عَلّان. وسَعْسَع (الشّتاء)، وأَشْهُرُهُ: ذو الصِّراب، وذو المُهْلَة، وذو الآل. ومَلِي (الرّبيع)، وأَشْهُرُهُ: ذو دَثَأ، وذو الحِلَّة، وذو مَعُون.
ومثل هذا كثيرٌ في معجم الدوحة التّاريخيّ للُّغة العربيّة، ولعلّ في الاستزادة من خبيئه ما يدلّ على ثراء المادّة المستدركة فيه، ولا غَرْوَ في ذلك فهو يُعَدُّ أوّلَّ معجمٍ عربيٍّ شاملٍ يُؤرّخ لألفاظ اللُّغة العربيّة ومعانيها انطلاقًا من مدوّنةٍ نصيّةٍ مُمثِّلةٍ للُّغة العربيّة في مراحلها المختلفة على امتداد تاريخها الطّويل
وبالنظر إلى تاريخ اللغة العربية الطويل، وضخامة حجم نصوصها، جرى إنجاز المعجم على مراحل ثلاث: المرحلة الأولى، وتمتد من القرن الثاني الميلادي إلى نهاية القرن الثامن، والمرحلة الثانية، وتمتد من القرن التاسع الميلادي إلى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، والمرحلة الثالثة/ المفتوحة، وتمتد من القرن الثاني عشر الميلادي إلى العصر الحاضر 2023م، وهي مرحلة أوشكت على الانتهاء، ويرجح أن يربي عدد المداخل المعجمية في المراحل الثلاث على 300 ألف مدخل معجمي، مستقاة من نصوص نحو 20 قرنا من تاريخ اللغة العربية.
وليس يخفى أن هذا المعجم يعنى بأمرين أساسيين، هما مدار الصناعة المعجمية فيه:
أولهما: رصده ألفاظ اللغة العربية منذ بدايات استعمالها في النقوش والنصوص، وما طرأ عليها من تغيرات في مبانيها ومعانيها داخل سياقاتها النصية الاستعمالية، متتبعا الخط الزمني لهذا التطور.
ثانيهما: تأريخه للألفاظ وتحولاتها البنيوية والدلالية، فلا يذكر لفظا في شاهد إلا مصحوبا بتاريخ استعماله، المقدر وفق المصادر المتاحة بين تاريخ استعمالي دقيق، وتاريخ وفاة، وتاريخ تأليف.
إعلانوممّا لا يحسن تجاوزُهُ في هذه الوَجازة من الكلام على معجم الدّوحة التّاريخيّ، ذكرُ أهمّ ما يَنْمازُ به مِن غيرِهِ؛ نحو:
أولا- أنه يرجع باللفظ العربي إلى استعمالاته الأولى في النقوش المزبورة على صفاح الحجارة ونحوها، متى توافر ذلك، ويقدم معلومات مهمة عن النقش الذي عثر على اللفظ فيه.
ثانيا- أنه يرجع باللفظ المقترض إلى أصله، اللاتيني، أو اليوناني، أو غير ذلك؛ والاقتراض -كما هو معلوم- سمة من سمات اللغات الحية؛ فاللغة التي لا تقرض ولا تقترض لغة ميتة، أو في حكم الميتة.
ولا تختلف اللغة العربية عن غيرها من اللغات في هذه المسألة؛ فقد اقترضت وأقرضت. وفي اللغات غير العربية، التي تقترض العربية منها اليوم بكثرة، فيض من المفردات العربية الأصل، وكثير منها مصطلحات علمية في الرياضيات، والطب، والفلك والهندسة، وغيرها.
على أن الاقتراض لا يرتبط باختلاف المستويات بين اللغات أو بكثرة كلماتها أو بالغلبة والسيادة، وإنما هو ظاهرة طبيعية ترتبط بالتواصل بين الشعوب، وبالتلاقح بين الحضارات، وبدرجة التطور العلمي والحضاري التي تحققها الأمم؛ بدليل أن اللغة العربية التي تحتل المرتبة الرابعة عالميا من حيث عدد المتكلمين بها، بعد الإنجليزية والصينية والهندية، وتربي كلماتها على 12 مليون كلمة، اقترضت من الإيطالية التي لا تزيد كلماتها على 400 ألف كلمة.
وثمّة عواملُ عدّةٌ للاقتراض اللُّغويّ بين اللُّغات، أبرزها: الجوار، الّذي يكون فيه مجال الاحتكاك بين الشّعوب كبيرًا، ومجال التّأثير ممكنًا، ومنها:
التطور الحضاري والمعرفي والاقتصادي والصناعي ونحو ذلك. الهجرة، التي ينتقل فيها المهاجر بثقافته ولغته وأدواته التعبيرية. الاغتراب بأنواعه المختلفة: التعليمية والوظيفية، ونحوهما. سد حاجة اللغة المقترضة في تغطية قصور المفردات لديها. ميل أصحاب اللغة المقترضة إلى الترف التعبيري والتفاخر بلغة أخرى. الغزو بأنواعه المختلفة: العسكري والثقافي والفني والفكري، وغير ذلك.ثالثا- أنه يتيح الفرص لصناعة معاجم تاريخية للألفاظ المقترضة من لغات أخرى كثيرة. أنه يرصد المصطلحات في مجالاتها العلمية والمعرفية والفنية، على النحو الذي يرصد به ألفاظ الحياة العامة؛ أي وفق ضوابط علمية ومنهجية معتمدة.
إعلانوقد أربى عدد المصطلحات في المعجم على 20 ألف مصطلح، وتلك مادة ذات قيمة علمية ومعرفية كبيرة، لأنها مستلة من سياقات استعمالية حية دلت عليها وعلى تطورها، والمعجم مع ذلك لا يعنى بالمعلومات الموسوعية التي تتجاوز أهداف المعجم اللغوي، فلا يستطرد في التعريفات اللغوية والاصطلاحية، ولا يتوسع فيها، ولا يعلل التعريفات أو يفسرها.
رابعا- أنه يتيح المجال لإمكانية استخلاص معاجم لغوية تاريخية قطاعية، كمعاجم المصطلحات، ومعاجم الأبنية واللغات، ومعاجم المعاني، والمكانز المتخصصة، ومعاجم الفروق اللغوية وغيرها.
خامسا- أنه يربط ألفاظ اللغة العربية بنظائرها في اللغات السامية، متى أمكن ذلك.
سادسا- أنه يصحح المدونة التراثية من التصحيف والتحريف اللذين اعتريا شيئا غير يسير من مادتها، بما في ذلك المعجمات المتداولة بدءا من كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت: 170هـ أو 175هـ) حتى تاج العروس للزبيدي (ت: 1205هـ).
سابعا- أنه يتيح المجال للمشاريع البحثية في علوم اللغة بجميع فروعها، وفي أسباب التطور الدلالي وقوانينه.
ثامنا- أنه يعيد قراءة التاريخ العربي من خلال اللغة، ومن خلال شخوصه الفاعلين فيه من كل الفئات والطبقات، ومن مختلف الأعراق والأديان، ومن شتى الملل والنحل.
تاسعا- أنه يوفر أرضية خصبة لقراءة جديدة للتراث المعرفي العربي ونصوصه، مبنية على فهم اللفظ في سياقه التاريخي، بعيدا عن الإسقاط وانحراف التأويل.
عاشرا- أنه يرصد ألفاظ الحياة العامة وفق ضوابط علمية ومنهجية معتمدة؛ إذ تحرر مداخل معجمية لألفاظ الحياة العامة الواردة في نصوص عربية فصيحة، شائعة ومتداولة بين الكتاب، في الحالات الآتية:
الألفاظ العربية التي اكتسبت دلالات مستحدثة في الحياة العامة، مثل: (العيش) بمعنى (الخبز)، و(الطَّهارة) بمعنى (الخِتان)، و(الحَرَامِيّ) بمعنى (اللّصّ)، و(السُّفرة) بمعنى (المائدة)، و(الفكَّة) للقِطع الصّغيرة من النَّقْد، و(الشِّلَّة) بمعنى (الثُّـلَّة)، و(الشَّنَب) بمعنى (الشّارب)، و(الماهيّة) بمعنى (الرّاتب). ألفاظ الحياة العامّة النّاتجة عن القياس على أوزان العربيّة، أو النّاتجة عن التّوسع في الاشتقاق، مثل: (تمرجل) على وزن تمفعل، و(استعبط)، على وزن استفعل و(تحويجة) على وزن تفعيلة. ألفاظ الحياة العامّة التي أقرّتها مجامع اللُّغة العربيّة، أو الواردة في المعاجم المعتمدة، مثل (المعجم الوسيط، المعجم الكبير، محيط المحيط). إعلانفي حين أعرض عن تحرير مداخل معجمية لألفاظ الحياة العامة التي تخالف الأصول والقواعد الصرفية والصوتية، في مثل الحالات الآتية:
الألفاظ التي تخالف الأصول والقواعد الصّرفيّة: مثل: (الملفت) في (اللّافت)، و(أخصّائي) في (اختصاصي)، و(جليته) في (جلوته)، و(دعيته) في (دعوته)، و(شكيته)، في (شكوته)، و(كسيته) في (كسوته) … أو قلبت ياؤها واوًا، مثل: (زاود مزاودةً) في (زايد مزايدة). الألفاظ التي تخالف الأصول الصّوتيّة، مثل: (حَمْرة، وصَفْرة، وخَضْرة)، في (حَمْراء، وصَفْراء، وخَضْراء)، و(صَحْرة) في (صَحْراء)، و(حُبْلة) في (حُبْلَى)، و(توم) في (ثوم)، و(ديب) في (ذئب)، و(الضِّل) في (الظِّل)، و(مَزهب)، في (مَذهب).ومن الجدير بالذكر هنا أن ولادة المعجمات التاريخية تبدأ مع انتهاء تحرير مادتها، وبناء هيكلها، وجمع شواهدها، ومعجم الدوحة التاريخي للغة العربية منها خاصة، لاشتماله على مادة لغوية هائلة، يمكن أن تقام عليها كثير من الدراسات المعمقة، وتصنف فيها عشرات الكتب المختصة، وتعقد لها مئات الندوات والمؤتمرات الدولية.
الأمر الذي يكشف عظم الجهود التي بذلتها طائفة من العلماء والخبراء والباحثين: لغويين وحاسوبيين، من أصقاع الوطن العربي كله، أربى عددهم، منذ انطلاق مشروع الدوحة التاريخي للغة العربية، على المئين.
* رئيس وحدة التّحرير في معجم الدّوحة التّاريخيّ للُّغة العربيّةالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.