التواضع من القيم الأخلاقية العليا التي يحضّ عليها القرآن الكريم، ويُعتبر أحد السلوكيات المحمودة التي يدعو إليها الإسلام. هذا الخلق الكريم هو الذي يقوض نزعة الكبر والغرور عند الإنسان، ولما كان القرآن الكريم يشدد على ذمّ الكبر ويتوعد المتكبرين، فإن التواضع هو علاج هذا الداء لدى المسلم، والتواضع مظهر من مظاهر الأدب والاحترام بين الناس.

يُمثل التواضع في القرآن الكريم قاعدة مهمة للرفعة الحقيقية، حيث أن هذه القيمة تجمع بين تقوى النفس وعظمة الأخلاق، وهو ما يؤدي إلى تحقيق السمو والرفعة في الدنيا والآخرة.

التواضع في القرآن الكريم يعني خفض الجناح للآخرين والتعامل معهم بدون تعالٍ أو تكبر. وينبع التواضع من إدراك الإنسان لحقيقة وجوده في هذه الحياة، وأنه عبدّ لله كغيره من العباد، وأن كل ما يملكه من مال أو جاه أو علم هو من عند الله، وبالتالي، لا يحق له أن يتكبر أو يستعلي على الناس. قال تعالى: ﴿ وَلَا تُصَعّرْ خَدّكَ لِلنّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]. وقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾[ الإسراء: 37]، وهذه الآيات تأمر الناس بشكل واضح وصريح بالتواضع وعدم التفاخر بما لديهم، وتذكر حقيقتهم كعبيد لله لا يملكون من أمرهم شيء. قال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾ [الجن: 21 – 23].

يعكس التواضع في القرآن أيضاً مدى احترام الإنسان لحقوق الآخرين وتقديرهم بغض النظر عن مكانتهم أو قدراتهم. فالتواضع يعزز من سمو الأخلاق ويؤكد على مكانة الإنسان كخليفة لله في الأرض، فهو الخليفة الذي يعمل على تحقيق العدل والمساواة بين البشر، وهذه المهمة لا تتحقق بدون التخلي عن الكبر والغرور والتحلي بخلق التواضع لله ولعباده المؤمنين. فالتواضع صفة لصيقة بعباد الرحمن كما وصفهم القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان: 63].

ولأهمية هذا الخلق في بناء شخصية المسلم وتهذيب أخلاقه فقد أمر سبحانه وتعالى المؤمنين بالتحلي بصفة التواضع، وعدم التكبر والتعالي، وخصوصاً أمام إخوانهم في الدين والعقيدة. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَد مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54]. وقال سبحانه: ﴿مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعًا سُجّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ﴾ [الفتح: 29]. بل إن الله تعالى وجه هذا الأمر بشكل خاص إلى سيد الخلق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وهو من شهد الله تعالى له بحسن الخلق في قوله سبحانه: ﴿ وَإِنّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]. ورغم ذلك فقد شدد الله تعالى على التحلي بخلق التواضع في خطابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في موضعين من القرآن الكريم، وذلك في رسالة لعموم المسلمين بأهمية هذا الخلق وضرورة الالتزام به، قال سبحانه: ﴿ لَا تَمُدّن عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الحجر: 88]. وقال عز وجل: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 215].

ويعتبر التواضع يعتبر مفتاحاً لبناء علاقات إنسانية متينة ومتوازنة، كما أنه يقوي أواصر المحبة ويذيب أسباب الكراهية بين الناس. فمن يتصف بالتواضع ينجح في كسب قلوب من حوله، لأنهم يرون فيه شخصاً ينظر إليهم بعين الاحترام والتقدير، دون أن يُشعرهم بأنهم أقل قيمة، فيسمعون منه وينتصحون بقوله، وذلك نهج الأنبياء في دعوتهم للناس إلى الحق والتوحيد، قال سبحانه: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضّوا مِنْ حَوْلِكَ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ ۚ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكّلِينَ﴾ [سورة آل عمران: 159] فالتواضع يزيد من الثقة والود بين الناس، حيث يشعر الجميع بأنهم سواسية، فلا تطغى عليهم مشاعر الحقد والتباغض أو الحسد والغيرة.

والتواضع في الإسلام سبيلاً مهماً للرفعة في الآخرة. فالله سبحانه وتعالى يكرم المتواضعين، ويرفع من شأنهم في الدارين. قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الدّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ ﴾ [القصص: 83]. وهذه الآية تؤكد على أن الرفعة الحقيقية ليست لأولئك الذين يسعون إلى العلو في الدنيا ويتكبرون ويتجبرون على الناس، بل للمتواضعين الذين يتجنبون التكبر والاستعلاء بغير الحق.

فالتواضع هو مدخل للقبول عند الله، فمن يتواضع لله ولعباده ينال رضوان الله ومغفرته، لأانه يجعل المسلم قادراً على الاعتراف بذنبه والشعور بضعفه وحاجته لله، وهذا الاعتراف يقوده إلى الاستغفار والتوبة والخشوع، مما يعزز مكانته عند الله. والقرآن الكريم يربط التواضع وعدم التكبر بالتقوى والإيمان، قال تعالى: ﴿ إِنّما يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الّذِينَ إِذَا ذُكّرُوا بِهَا خَرّوا سُجّدًا وَسَبّحُوا بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [السجدة: 15]. فالمؤمن يستشعر عظمة الله ويخشاه في السر والعلن، ويستحضر عجزه وضعفه، فيتعامل مع الآخرين برحمة وعدل، ويتجنب التصرفات التي تسيء للآخرين أو تنتقص من قيمتهم، لأنه يعلم أن ما عنده من فضل أو مكانة هو ابتلاء من الله ليختبر سلوكه وأخلاقه.

لذلك، ينبغي على المسلمين أن يتمسكوا بهذه القيمة العظيمة ويطبقوها في معاملاتهم اليومية، وأن يسعوا دائماً إلى التخلص من مظاهر الغرور والتكبر، لأن التواضع هو الطريق الأمثل للوصول إلى أعلى مراتب الإيمان التي لا تتأتّى إلا بالتواضع لله ولخلقه.

الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.

المصدر: عين ليبيا

كلمات دلالية: القرآن الکریم قال سبحانه الله تعالى ف ی ال أ ال أ ر ض ع ل ى ال

إقرأ أيضاً:

دلالات أخطاء جماعة "نصرة الإسلام" في آيات القرآن الكريم

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

نعت جماعة نصرة الإسلام والمسلمين بمالى الموالية لتنظيم القاعدة أحد قيادتها الذين قتلوا في المعركة التي دارت بين عناصر الجماعة والقوات المسلحة المالية وقوات فاجنر الروسية بمدينة بير والتي استهدفت مطاري تمبكتو وغاو العسكريين وفق ما أعلنه طلحة أبو هند أمير منطقة تمبكتو في بيان اصدره الخميس 10 أكتوبر الجاري.

وقال البيان: نزف استشهاد الأ القائد جليبيب الأنصاري (العزة ولد يحيى) من قبيلة أولاد إعيش مع مجموعة في رفاقة أثتاء الهجوم الذي نفذه عناصر الحركة في منطقة بير منذ ايام قلائل.

واستهل النعي بآيات من القرآن الكريم كعادة الجماعة في بياناتها خاصة تلك المناسبات ولكن وقع البيان في خطأ يعد كارثيًا ونادر الحدوث من الجماعات الإسلامية التي لا تقبل أي خطأ في القرآن الكريم بل ويعتبرون الخطأ وإن كان غير مقصود تحريف لكلام الله.

وحين نقل البيان قول الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169- 175]. وقع كاتبه في خطأ كتابي أسقط فيه حرف الميم في قوله تعالى: {مِنْ خَلْفِهِمْ}، فكتب { مِنْ خَلْفِهِ} الأمر الذي أثار حالة من الاستنكار بين متابعي التنيظم ومخالفيه في مالي من التنظيمات المسلحة الأخرى.

ويعبر هذا الخطأ عن حالة الاضطراب التي تمر بها الحركة في مالى نظرا للصراعات التي دخلت فيها من جديد مع التنظيمات المسلحة الأخرى وعلى رأسها تنظيم داعش الذي كان الطرفان دخلا في مرحلة كمون استمرت عدة أشهر لكن الصراعات بدأت بينهما مؤخرا في اطار تنافسهما التقليدي على النفوذ.

كما تزاداد الضغوط الأمنية على الجماعة من قبل القوات المالية بعد التحولات التي شهدتها الحركة والتي بدأت تتوسع في انشطتها بدلا من الاقتصار على المواجهات المسلحة مع القوات الأمنية إلى تكثيف الاعتداءات على قرى المدنيين والنصارى منهم على وجه الخصوص إضافة إلى القرى التي ترى الجماعة أنها موالية للنظام في مالي.

ومن الناحية التنظيمة يكشف الخطأ الذي يعتبر غير مقصود عدم تدقيق ومراجعة البيانات من قبل القيادات العليا للجماعة قبل نشرها على منابرها الإعلامية، وهو ما يشير إلى وجود أزمة قيادة ومتابعة، حيث تعتبر النصوص الشرعية من الأمور التي لا تتهاون فيها الجماعات بصورة من الصور.

ويرى المراقبون أن الجيل الحالي من عناصر الحركة باتوا غير مؤهلين شرعيا ولم يعد هناك اهتمام لديهم بالتأسيس الشرعي كما كان في السابق إذ كل ما يهم الجماعة حاليا هي الاستقطاب العددي مقابل النوعي.

غير أن هناك وجهة نظر أخرى إذ رأى البعض أن هذا الخطأ غير مقصود وقد يكون مجرد خطأ طباعي عابر نتيجة التسرع في إصدار البيان.

وقد ردت الجماعة على الانتقادات الموجهة لها في بيان آخر بعد هذا البيان لكنه كان موجها لنفي ما اثاره الاعلام الرسمي في مالي الذي اكد احباط استهداف قافلة عسكرية في مدينة تمبكتو الخميش 10 اكتوبر الجاري.

بيان الجماعة البيان

مقالات مشابهة

  • شر الرجال.. خطيب المسجد النبوي يحذر من 7 أفعال تجعلك واحدا منهم
  • خطيب المسجد النبوي: شر الرجال من كان متغطرسًا ومعجبًا بنفسه
  • دلالات أخطاء جماعة "نصرة الإسلام" في آيات القرآن الكريم
  • يا وريث المجد: كفكف دمعك وارفع رأسك
  • ختام التصفيات الأولية لمسابقة القرآن الكريم بشمال الشرقية
  • مسابقة الأزهر الشريف للقران الكريم.. تعرف على قيمة جوائز العشر الأوائل
  • لماذا سمى الرسول حفظة القرآن الكريم بـ«السفرة البررة»
  • الأزهر يعلن فتح باب التقدم لمسابقة الأزهر السنوية ‏لحفظ القرآن الكريم
  • شروط مسابقة شيخ الأزهر لحفظ القرآن الكريم 2024.. آخر موعد للتقديم