من النادر العثور على مفردة “الاستقالة” في قاموس المسؤولين والسياسيين في اليمن على الأقل في العقود الخمسة الأخيرة، مما يوضح كيفية نظرة المسؤول للمنصب حتى في الوقت الذي لا يقوم بواجبه على النحو الذي يجعل بقائه مصلحة شخصية أكثر من شيء آخر مهما حاول التدثر بعباءة المصلحة الوطنية.
إن الثقافة السياسية السائدة تجعل من المنصب غنيمة يتعين اغتنامها إلى أقصى حد ممكن، وهذا يعني إلغاء مفهوم الاستقالة في حالة الفشل بغض النظر عن انتماء الشخص وما إذا كان يحمل قيما إيجابية قبل توليه منصبه أم لا، وبذلك يتم ترسيم حدود استقالته في حالتين الأولى الوفاة والثانية إقالته من قبل الجهة التي اختارته.
وفي ظل هذه الثقافة، من المفهوم أن ترتبط الاستقالة بمعنى الفشل والجُبن والهروب من تحمّل المسؤولية، وهذا تعريف خاطئ في الغالب يُراد منه تكرّيس فكرة أن المنصب مغنم لا مغرم فعلا وأن الذي يستقيل فاشل ولو لم يكن كذلك، وبهذا انتقلت هذه الثقافة إلى الرأي العام الذي تأثر بهذا التحريف لمفهوم الاستقالة عند الفشل وبالتبعية يُصبح المسؤول المستقيل مُدانا بما ليس فيه كأن يُتهم بالفساد وسواه.
ومن أخطر ما رّسخته هذه الثقافة، هو اعتبار المسؤول الذي يتمسك بمنصبه وطنيا وشجاعا ومضحيا ولو ثبت عكس ذلك بالدليل القاطع، مما أعاد تعريف القيم بشكل سلبي؛ فأصبح الفاسد الفاشل ناجحا وطنيا لا لشيء إلا لأنه باق في مكانه، وبات الناجح الشجاع فاسدا فاشلا لمجرد استقالته رغم ندرة هذا النوع من المسؤولين، وقد قِيل هذا عن المهندس فيصل بن شملان حين استقال من منصبه كوزير للنفط والمعادن بعدما تأكد له أنه غير قادر على محاربة الفساد المتفشي بدعم رسمي من أعلى هرم الدولة وأن بقائه يعني إما التماشي مع الوضع ومخالفة مبادئه أو ترك منصبه وهو ما فعل.
وفي هذا السياق، قد يسأل سائل وهل المطلوب أن تكون الثقافة السياسية هي الاستقالة بما تنطوي عليه من مخاطر على عمل المؤسسات والجواب ليس كذلك طبعا، لكن ما يجب ترسيخه هو تطبيق مبدأ إذا فشلت أو عجزت عن أداء مهامك لأسباب خارجة عن إرادتك ولم تستطع التغلب عليها، ينبغي أن تستقيل، وهذا الحال ينطبق على أولئك الذين يستشعرون مسؤولياتهم الوطنية ويحرصون على سمعتهم النزيهة فقط، أما عداهم فلا يفيد الكلام بشأنهم.
إن التخلي عن المنصب أيا كان ليس جبنا ولا فشلا طالما كان الشخص نزيها لديه بصمات جيدة في عمله، ولو أن هذه الثقافة النادرة وجدت طريقها بين المسؤولين لكانت من أدوات الضغط والمحاسبة على أداء المسؤولين ولتحوّلت إلى خيار لا فكاك منه لأي فاشل أو فاسد لأن الرأي العام والنخبة السياسية ستتعامل مع رفضه الاستقالة نوعا من إصراره على الفشل والفساد وتهديد المصلحة الوطنية مما يستوجب عزله.
من مؤشرات هذه الثقافة السياسية، سيطرة الأعذار واللجوء إليها لتبرير ما لا يُمكن تبريره مما يعني ضمنا تحصين الفاشل والفاسد من المسؤولية واعتباره ناجحا حتى عندما لا يكون كذلك، ونسب المسؤولية لجهات أخرى وهكذا يتم ترحيل الإخفاق لغير أصحابه بدلا من الاعتراف به ودفع الثمن.
يتولى أحدهم رئاسة الحزب أو أمانته العامة عقود من الزمن ويصاحب ذلك أخطاء وفشل ونكبات لا حصر لها تتجاوز تأثيراتها أعضائه وجماهيره لسواهم ومع ذلك لا يستقيل من نفسه ولا تنشئة حزبه تدفعه إلى هذا الخيار، بل ويتم التبرير له والدفاع عنه بحق وباطل وعادة ما يُطلق عليه لقب “رجل المرحلة” مع أنه بشر يُخطئ ويصيب ولديه قدرات محددة وعُمر محددا أيضا للعطاء.
يترتب على هذه الثقافة تحصين هؤلاء السياسيين والمسؤولين معنويا في أذهان الرأي العام حتى إذا ما تعرّضوا للنقد لفسادهم أو فشلهم يتم اتهام من يقوم بذلك بأنه إما حاقد أو مصلحي وربطه بكل نقيصه ولو كان خلاف ذلك، والمهم الدفاع الأعمى من قبل الأتباع وغيرهم نتيجة تأثرهم بالتعبئة والتنشئة الحزبية والفكرية والثقافة السياسية عموما.
عندما يبقى أي شخص في منصبه السياسي أو الحكومي أكثر مما يجب، فهو يؤثر سلبا على هذه الجهة والمستفيدين منها ويمنع التغيير وتداول المناصب ويحرم فئة الشباب من حقوقهم الأساسية في الترّقي والقيادة والمشاركة في صنع القرار، وهو ما لا يُدركه البعض من الشباب نتيجة تأثرهم سنينا بتلك الثقافة.
إن بقاء شخص في منصب مؤثر على حياة الناس سواء قليلا أو كثيرا له أمرٌ كارثي فكيف وحالنا زاخر بهذا النموذج السائد والذي يجعل ملايين الأشخاص في حالة يُرثى لها بينما قلة قليلة ممن يديرون الأمور لا يتغيرون بأي شيء والأسوأ من هذا أن يدافع عن بقائهم الضحايا.
ينبغي أن نتذكر أننا في وضع لا أثر فيه لأي مؤسسة رقابية أو محاسبية سواء البرلمان أو الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة أو هيئة مكافحة الفساد أو نيابة الأموال العامة أو غيرها، مضافا لذلك غياب ثقافة الاستقالة أو التشجيع عليها، وهذا يحتم على كل صاحب ضمير حي أن يدفع باتجاه توعية الرأي العام بأهمية مراقبة مسؤوليهم وسياسييهم ودفعهم للاستقالة عند الفشل الذي لا يُحتمل والفساد الذي يؤثر على حياتهم واعتبار الذي يفعل ذلك شخصا محترما ومن يرفض فهو سيء ومنبوذ.
هذه مسؤولية عامة يُمكن المشاركة في تأسيسها لأجل المصلحة العامة وهذا يتطلب تجاوز التعصب الحزبي والمناطقي والمصلحي والأهم أن يعرف كل مواطن أن مصلحته في ذلك أكبر مما يعتقد أنها في بقاء المسؤول أو السياسي الذي يتفق معه في الانتماء أو المنطقة.
بقاء المسؤول المشهود له بالفساد والفشل كارثة على الدولة والشعب لا العكس، ولا يجب تصديق فكرة أن الاستقالة ليست حلا أو الهروب لسؤال وماذا بعد وكأنه لو حدثت الاستقالة سيحدث الأسوأ، مع أنه في أحسن الأحوال لن يسوء الوضع أكثر مما هو قائم وبالتالي فلا مبرر لأي عذر الإقدام على مثل هذه الخطوات.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق كتابات خاصةنور سبتمبر يطل علينا رغم العتمة، أَلقاً وضياءً، متفوقاً على...
تم مشاهدة طائر اللقلق مغرب يوم الاحد 8 سبتمبر 2024 في محافظة...
يا هلا و سهلا ب رئيسنا الشرعي ان شاء الله تعود هذه الزيارة ب...
نرحو ايصال هذا الخبر...... أمين عام اللجنة الوطنية للطاقة ال...
عندما كانت الدول العربية تصارع الإستعمار كان هذا الأخير يمرر...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: الثقافة السیاسیة الأرصاد الیمنی الرأی العام الحوثیین فی هذه الثقافة فی الیمن
إقرأ أيضاً:
بن صهيون.. والد نتنياهو الذي غرس فيه كره العرب
لم يكن بن صهيون نتنياهو مجرد اسم في تاريخ عائلة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بل هو شخصية تحمل بين طياتها قرنًا من الزمان مملوءًا بالأفكار والمواقف التي لا تقل تطرفًا وإثارة عن سياسات ابنه الحالية.
ويبدو أن هذه الأفكار التي صاغتها تجربة حياة مفعمة بالمواقف الصدامية مع العالم العربي قد تسربت بوضوح إلى توجهات بنيامين نتنياهو، لتشارك في تشكيل مواقفه الحادة تجاه الفلسطينيين، والتي يتضح صداها في أفعاله وكلماته حتى اليوم.
فما الذي نعرفه عن بن صهيون نتنياهو؟ وكيف أثر على مسار الحركة الصهيونية؟ ولماذا كانت رؤيته للعرب دائمًا عدائية إلى هذا الحد؟
وُلِد بن صهيون ميليكوفسكي -الذي سيُعرف لاحقا باسم نتنياهو وتعني هبة الله- في وارسو عاصمة بولندا خلال فترة تقسيمها وخضوعها للسيطرة الروسية القيصرية في عام 1910.
وكان والده ناثان ميليكوفسكي كاتبا وناشطا صهيونيا من بيلاروسيا، وقد شغل ناثان منصب حاخام، وجاب أوروبا والولايات المتحدة لإلقاء خطب تدعم الحركة الصهيونية التي آمن بها حتى النخاع.
وفي عام 1920 قرر ناثان الهجرة إلى فلسطين مصطحبا معه عائلته ضمن الموجة الكبرى للهجرة اليهودية. وبعد تنقلها بين مدينة يافا وتل أبيب وصفد، استقرت الأسرة أخيرا في القدس حيث التحق بن صهيون بمعهد ديفيد يلين للمعلمين والجامعة العبرية في القدس.
إعلانوكان من الشائع بين المهاجرين الصهاينة في تلك الفترة تبنّي أسماء عبرية، فبدأ ناثان ميليكوفسكي الأب بتوقيع بعض مقالاته باسم "نتنياهو"، وهو الصيغة العبرية لاسمه الأول، واعتمد ابنه هذا الاسم ليكون اسم العائلة.
وفي عام 1944، تزوج الابن بن صهيون نتنياهو من تسيلا سيغال التي سيصفها ابنها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لاحقا بأنها "محور عائلتنا والسلطة النهائية فيها".
درس بن صهيون نتنياهو تاريخ العصور الوسطى في الجامعة العبرية بالقدس، وفي إبان دراسته انخرط في "حركة الصهيونية التصحيحية"، وهي حركة انفصلت عن التيار الصهيوني السائد، معتقدين أن هذا التيار الغالب كان أكثر تصالحية مع السلطات البريطانية الحاكمة لفلسطين آنئذ.
في المقابل، تبنّى التصحيحيون بزعامة زئيف جابتونسكي نهجا قوميا يهوديا أكثر تشددا، مخالفا للصهيونية العمالية اليسارية التي قادت إسرائيل في سنواتها الأولى، معتقدين أن حدود إسرائيل تمتد على كامل فلسطين التاريخية والأردن معا.
ولإيمانه بالعمل الصحفي والأكاديمي، شغل بن صهيون منصب محرر مشارك في المجلة العبرية المعروفة في ذلك الوقت "بيتار" بين عامي 1933 و1934، ثم أصبح رئيس تحرير صحيفة "ها ياردن" اليومية الصهيونية التصحيحية في القدس (1934-1935)، حتى أوقفت سلطات الانتداب البريطاني صدورها بين عامي 1935 و1940.
وفي عام 1939، قرر السفر إلى نيويورك للعمل سكرتيرا لزعيم الحركة الصهيونية التصحيحية جابوتنسكي الذي كان يسعى لحشد الدعم الأميركي لحركته الصهيونية القتالية الجديدة.
ومع وفاة جابوتنسكي في العام نفسه، تولّى بن صهيون نتنياهو منصب المدير التنفيذي للمنظمة الصهيونية الجديدة في أميركا التي كانت منافسا سياسيا أكثر تشددا للمنظمة الصهيونية الأميركية المعتدلة، واستمر في هذا الدور حتى عام 1948.
كان بن صهيون مؤمنا بفكرة "إسرائيل الكبرى"، وفي سبيلها عارض بشدة أي تنازلات إقليمية أو محلية، ولهذا السبب عندما أصدرت الأمم المتحدة خطة تقسيم فلسطين في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، كان من بين الموقعين على عريضة ترفض الخطة، وخلال تلك الفترة كان ناشطا سياسيا في واشنطن العاصمة حيث عمل على التواصل مع أعضاء الكونغرس لدعم رؤيته الصهيونية المتشددة.
إعلانوفي عام 1949، عاد إلى إسرائيل محاولا دخول الحياة السياسية، لكنه لم يحقق نجاحًا يُذكر نتيجة سيطرة الحركة الصهيونية التقليدية على مقاليد البلاد بزعامة ديفيد بن غوريون ممن كانوا يرون عصابات شتيرن والمؤمنين بأيديولوجية جابتونسكي خطرا يهدد دولتهم في ذلك الحين.
في المقابل، واصل بن صهيون نتنياهو نشاطه الأكاديمي، لكنه لم يتمكن من الانضمام إلى هيئة التدريس في الجامعة العبرية، ورغم ذلك ساعده أستاذه جوزيف كلاوسنر أستاذ الأدب العبري في الحصول على منصب محرر في "الموسوعة العبرية"، وبعد وفاة كلاوسنر تولّى بن صهيون رئاسة التحرير مع آخرين.
لاحقًا عاد إلى كلية دروبسي في فيلادلفيا حيث عمل أستاذًا للغة العبرية وآدابها ورئيسًا للقسم بين عامي 1957 و1966، ثم شغل منصب أستاذ التاريخ اليهودي في العصور الوسطى والأدب العبري من عام 1966 إلى 1968، ثم انتقل إلى جامعة دنفر ليعمل أستاذًا للدراسات العبرية (1968-1971)، قبل أن يعود إلى نيويورك لتولي تحرير موسوعة يهودية.
في النهاية، التحق بجامعة كورنيل حيث شغل منصب أستاذ الدراسات اليهودية ورئيس قسم اللغات السامية وآدابها من عام 1971 إلى 1975.
وعقب مقتل ابنه يوناتان خلال عملية عنتيبي لإنقاذ الرهائن عام 1976، قرر العودة مع عائلته إلى إسرائيل منخرطا في المجال الأكاديمي.
وعند وفاته عام 2012 عن عُمر ناهز 102 عاما، كان عضوًا في أكاديمية الفنون الجميلة وأستاذًا فخريًا في جامعة كورنيل.
أُثر عن بن صهيون نتنياهو قوله في إحدى مقالاته إن "العرب واليهود مثل عنزتين التقتا على جسر ضيّق، إحداهما مضطرة إلى القفز في النهر، ولكنهما لا تريدان الموت. ولذلك فإنهما تنتطحان على الدوام، وتؤمنان بأن إحداهما ستُنهَك في نهاية المطاف وتستسلم، وعندئذ سيتقرر الأقوى الذي سيرغم الأضعف على القفز. إن القفز لليهود يعني ضياع الشعب اليهودي، أما بالنسبة إلى العرب فإن قفز عنزتهم يعني تضرر جزء يسير منهم".
إعلانيكشف هذا الاقتباس عن تأثره الكبير بزعيم الحركة التصحيحية الصهيونية زئيف جابتونسكي الذي آمن به من قبل والد بن صهيون الحاخام ناتان ميلوكوفسكي ورآه رائد الحركة الصهيونية وموجّه بوصلتها نحو التعامل الجذري مع العرب.
كان يرى أن الأغلبية العظمى من العرب داخل إسرائيل سيختارون إبادة اليهود إذا سنحت لهم الفرصة. وهذا الاعتقاد دفعه منذ شبابه إلى تأييد فكرة ترحيل السكان العرب من فلسطين، وهي الفكرة التي ظل متمسكًا بها حتى أواخر حياته، إذ واصل التعبير عنها في مناسبات مختلفة.
ففي مقابلة له عام 2009 مع صحيفة معاريف الإسرائيلية، عبّر عن آرائه تجاه الصراع العربي الإسرائيلي بقوله إن "النزعة إلى الصراع هي جوهر فكر العرب، إنهم أعداء بطبيعتهم، فشخصيتهم لن تسمح بالتنازل، وبغض النظر عن المقاومة التي سيواجهونها أو الثمن الذي سيدفعونه، فإن وجودهم يعني حربا دائمة".
وربما هذا الموقف الجذري من بن صهيون وآرائه المتطرفة تجاه العرب جعلت العديد من المحللين يتوقعون أن ابنه بنيامين نتنياهو كان غير قادر على التوقيع على اتفاق سلام شامل مع جيران إسرائيل العرب ما دام والده كان لا يزال على قيد الحياة.
ورغم أن نتنياهو نفسه نفى هذه الفرضية بشكل قاطع واصفًا إياها بأنها "هراء"، بحسب ما نقلته صحيفة هيرالد، فإن مواقفه وسياساته على الأرض، ولا سيما في غزة، تعكس تبنيًا واضحًا للنهج المتشدد ذاته الذي اشتهر به والده.
ولكن يجب أن نعود إلى جابتونسكي لنرى كيف أقنع الثلاثي الجد والأب والحفيد من عائلة نتنياهو بهذه الأفكار التي كانت تعكس سخطه الواضح على الحركة الصهيونية التقليدية وسعيها لخداع العرب في فلسطين عبر المفاوضات وإظهار نواياها كأنها بريئة من أي نية للاستيلاء على الأرض، وضرورة التعامل بصورة جذرية عنيفة.
فقد جاءت مقالاته وأفكاره لتوضح جوهر الصراع، وكشف الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للحركة الصهيونية، إذ كتب "يمكننا أن نقول للعرب ما نشاء عن براءة أهدافنا، ونتفنن في استخدام العبارات المنمقة، ونغلفها بالكلمات المعسولة لجعلها مستساغة، لكنهم يدركون تماما ما نريده، كما ندرك نحن ما لا يريدونه. إنهم يشعرون تجاه فلسطين بالحب الغريزي نفسه الذي شعر به الأزتيك القدامى تجاه المكسيك القديمة".
إعلانكان جابوتنسكي يرى أن الحركة الصهيونية تهدُر وقتها في المفاوضات، بدلا من التركيز على بناء قوة عسكرية رادعة تحمي المستوطنين. فكتب "كل الشعوب الأصلية في العالم تقاوم المستعمرين طالما بقي لديهم أدنى أمل في التخلص منهم".
وأضاف "لا يهم كيف نصوغ أهدافنا الاستعمارية، سواء كانت بعبارات هرتزل أو السير هربرت صموئيل، فالاستعمار يحمل تفسيره الوحيد الممكن، الواضح كضوء النهار، لكل يهودي بسيط ولكل عربي بسيط. فالمستعمرات لا يمكن أن يكون لها إلا هدف واحد، ولا يمكن لعرب فلسطين أن يقبلوا بهذا الهدف".
وبناء على ذلك شدد جابوتنسكي على أن نجاح المشروع الصهيوني واستقراره لن يتحقق إلا عبر إنشاء "قوة مستقلة عن السكان الأصليين، خلف جدار حديدي لا يستطيعون اختراقه. هذه هي سياستنا العربية".
وأمام هذه الأيديولوجية آمن بن صهيون نتنياهو إيمانا مطلقا بما آمن به أستاذه جابوتنسكي حول الصراع مع العرب، إذ كان جابوتنسكي يرى أن موقف العرب متصلب للغاية، ولا يمكن تسويته أو التوصل إلى اتفاق معهم، خلافا لما اعتقده التيار الصهيوني السائد، ومن ثم لم يعتمد التيار التصحيحي الدبلوماسية إلا بالقدر الذي يسمح بتمرير عمليات التهجير والقتل بحق الفلسطينيين.
وقد صرّح جابوتنسكي بأن "90% من الصهيونية تقوم على أعمال الاستيطان العنيفة من قتل وتهجير، في حين أن 10% فقط منها تتعلق بالسياسة".
وفي مقال نشرته صحيفة هآرتس العبرية عام 2018 بعنوان "كيف تبنى والد نتنياهو وجهة النظر القائلة بأن العرب همج؟" استعرض فيه الكاتب المسيرة الفكرية المتطرفة لبن صهيون تجاه العرب والفلسطينيين، إذ أشار المقال إلى أن بن صهيون استلهم هذه الأفكار من المؤرخ جوزيف كلاوسنر أستاذ الأدب العبري والمحرر الرئيسي للموسوعة العبرية، الذي كان مرشده الفكري.
إعلانوقد اعتنق بن صهيون بشكل كامل وجهة نظر كلاوسنر التي تصف العرب بأنهم "أمة من نصف الهمج" يجب التعامل معهم بالقوة والحسم، بحسب المقال الذي أشار إلى أن بن صهيون أعاد تبنّي هذه الأوصاف والسياسات وحولها إلى ركيزة أساسية لفكره، مما رسخ مواقفه العدائية تجاه العرب بشكل أكبر.
تتجلى هذه النظرة المتطرفة في مقالات بن صهيون التي نشرها بصحيفة ها ياردن التصحيحية التي كان يحررها حتى وفاة والده عام 1935، ففي مقال بتاريخ 6 أغسطس/آب 1934 وصف بن صهيون العرب بأنهم "همج شبه متوحشين"، قائلًا "كما كان همج جزيرة العرب يطاردون اللاجئين اليهود من إسبانيا على منحدرات الجزائر في القرن الخامس عشر، فهم الآن يطاردون اللاجئين من جحيم الشتات عند بوابات الوطن".
وفي مقال آخر بعنوان "الاستيطان الريفي والاستيطان الحضري" نُشر في ديسمبر/كانون الأول 1934، قارن بن صهيون أرض إسرائيل بأميركا، وشبّه اليهود بمواطني الولايات المتحدة، بينما قارن العرب بالهنود الحمر، وقال في مقاله "إن غزو الأرض هو أحد أول وأهم المشاريع في كل استعمار".
وأضاف بنزعة تطهير عرقي واضحة "يجب أن نعلم أن الدولة ليست مجرد مفهوم حسابي لعدد السكان، بل مفهوم جغرافي كذلك، ذلك أن أبناء العِرق الأنغلو-ساكسوني، الذي كان في صراع دائم مع الهنود الحمر، لم يكتفوا بتأسيس المدن الكبرى مثل نيويورك وسان فرانسيسكو على شواطئ المحيطين اللذين يحدان الولايات المتحدة. بل سعوا أيضا لضمان الطريق بين هاتين المدينتين.. لو تركَ غُزاة أميركا الأراضي في يد الهنود، لكان هناك الآن في أحسن الأحوال بعض المدن الأوروبية في الولايات المتحدة وكان البلد كله سيأهله ملايين من الهنود الحمر!".
يظهر تأثير بن صهيون نتنياهو في ابنه رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني بنيامين نتنياهو واضحا لا ريبة فيه، ففي 16 ديسمبر/كانون الأول 2023، وبعد ما يقارب 17 عامًا من توليه رئاسة الحكومة بشكل متقطع، سيقف بنيامين أمام الشعب الإسرائيلي متفاخرا بمواقفه المتشددة تجاه القضية الفلسطينية قائلا بكل وضوح "كنت أنا العقبة أمام إقامة دولة فلسطينية"، بينما كان اليسار الإسرائيلي يسعى، بشكل أو بآخر، إلى تقديم تنازلات قد تؤدي إلى حل سياسي وإنهاء النزاع".
إعلانذلك هو بن صهيون نتنياهو والد رئيس الوزراء الحالي الذي يدعو علانية إلى تطهير غزة وتهجير أهلها، والتغيير العميق في الشرق الأوسط، لا يقول صراحة إنه يؤمن بمبادئ الحركة الصهيونية التصحيحية التي آمن بها والده من قبل، ولكنه على أرض الواقع يسعى لتحقيق هذه الأحلام!