الاستشراق البدوي.. الأساطير المؤسسة لرؤية الغرب للشرق
تاريخ النشر: 11th, October 2024 GMT
في التصور التوراتي للصحراء ينقل لنا مؤلف كتاب "الأسطورة البدوية" دراما وصول الملكة بلقيس ملكة سبأ إلى القدس في عصر نبوة النبي سليمان، مع جناح كبير من أتباعها، ترافقهم الجمال التي تحمل الأعشاب العطرية وكميات ضخمة من الذهب والأحجار الكريمة، فالثروة مرتبطة بالصحراء، خاصة جنوب غرب شبه الجزيرة العربية، وخلاف ذلك تظهر الصحراء في العهد القديم كمساحة قاحلة، وكمكان ملعون يأوي المستبعدين والهاربين والحيوانات البرية والشياطين، ولذا يعاقب قابيل على قتل شقيقه بالتشرد الأبدي فيها، وقد طردت هاجر جارية إبراهيم المصرية إلى الصحراء مع ابنها إسماعيل، ولم ينقذها إلا ظهور ينبوع الماء.
يناقش كتاب "الأسطورة البدوية في كتابات رحالة القرنين الـ18 والـ19" لمدير الأبحاث في المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي سارغا موسى، عددا من المسلمات التي تبنتها الصورة النمطية للبدو العرب.
ويلقي الضوء على الجهود التي أسهمت في إنصاف هذه الجماعة البشرية، عبر إبراز القيم الإنسانية الرفيعة التي تتبناها، والكتاب صدر بالفرنسية عام 2016 عن منشورات جامعة السوربون وترجمته إلى العربية أستاذة الآثار والحضارات القديمة منى زهير الشايب، من خلال إصدارات المركز القومي المصري للترجمة.
يفتتح المؤلف الكتاب باقتباس من رسالة كتبها غوستاف فلوبير إلى لويس كوليه بتاريخ 13 أغسطس/آب 1846: "أحب هؤلاء القوم الحادّي الطباع، المثابرين، الأشداء، فهم الصورة الباقية للمجتمعات البدائية، تراهم في قيظ النهار يتمددون في الظلال أسفل جمالهم، ويسخرون –وهم يدخنون غلايينهم – من التمدن الذي أشعرهم بالغضب الشديد".
ويؤكد المؤلف على أن رحالة القرن الـ19 لعبوا دورا رئيسا في بناء هذه "الأسطورة البدوية" ونشرها، والتي يمكننا تتبع رواياتها المختلفة عند كتّاب أوروبيين معروفين مثل لامارتين، وجان جاك روسو، وشاتوبريان، وغوستاف فلوبير، ومؤرخين مثل جوزيف بوغولات"، حيث تناولوا الانتقادات الداعمة للنظرة المثالية للبدو، جنبا إلى جنب مع الخطاب المعادي للإسلام في مطلع القرن الـ19، مستعينا بكتاب "رحلة إلى الشرق" لفلوبير كمحصلة نهائية لهذا التحيز.
ويشير الكتاب إلى أن "الأسطورة البدوية" لا تقوم على فكرة هيمنة "الآخر"، بل على العكس، تظهر تجرد عددٍ من الرحالة عن "الذات" وتسمح بنقد المركزية الأوروبية نفسها، التي تسمح لنفسها بالهيمنة بصورة لا تخلو من الاستبداد الذي ناهضه مفكرو عصر التنوير والرومانسية.
ويضيف المؤلف أن الأسطورة البدوية ليست أقل مركزية من الخطاب الاستشراقي الذي انتقده إدوارد سعيد، ومثالية البدو على مدى أكثر من قرن في الأدب الوصفي، بين القرنين الـ18 والـ19، تبين أن الثقافة الأوروبية، بفضل الرحالة انفتحت على الشرق -على الأقل شرق معين ـ تتغير فيه الحياة في الصحراء، عند اتصالها بصور جديدة بنتها بنفسها.
جذور الأسطورةحظي البدو الرحل شيئا فشيئا خلال القرن الـ18 بنظرة مثالية تحوَّلت بعد كتابات روسو "لأسطورة بدائية"، ولفهم هذه النقلة النوعية التي بدأت في عصر التنوير، إذ تم تصوير البدو وتقديمهم طيلة قرون سابقة على أنهم لصوص، وكيانات همجية وشريرة، تتجذر هذه الصورة النمطية في سرد مزدوج وثني وديني، في العصور اليونانية القديمة، يبدو العرب البدو على نقيض الإنسان المتحضر المستقر، ويصور الكتاب المقدس (العهد القديم) الصحراء كمكان مخيف تسكنه الشياطين، ويستمر هذان التصوران لفترة طويلة ويتم نقلهما إلى حد كبير لحجاج الأراضي المقدسة، دون أن يختفي تماما في القرن الـ19.
وجاء حجاج الأراضي المقدسة ليبرزوا الجانب السلبي للصورة التوراتية للصحراء بشكل كبير، كانوا يصورون الصحراء كجحيم يسمح بتصورات رمزية لسكانها، وتحدث بيير بايلون عام 1553 عن "اللصوص العرب" حين حاول حماية نفسه منهم بقضاء ليلة في الظلام في نزل بالقرب من غزة، وكثر استخدام لفظ اللصوص كناية عن "عرب الصحراء"، وكأن السرقة سمة موجودة عند البدو – حسب المؤلف.
وساد حكم سلبي في كل روايات الحج في الشرق حتى القرن الـ17، وحتى من غير الحجاج، كما في كتابات الطبيب وعالم الطبيعة بايسونيل الذي يرجع تاريخ إقامته في شمال أفريقيا إلى عامي 1724 – 1725، لم يستطع منع نفسه من اتهام البدو بجميع أنواع الرذائل، على الرغم من تمتعه بكرم ضيافتهم طوال فترة إقامته، واصفا إياهم: بأنهم يحبون المال والاستقلال والكسل، هم رصينون جدا، وبليغون بشكل طبيعي، مرنون في الشدائد، ومتعجرفون في الرخاء، كذابون ولصوص بارعون، ومحلفون رائعون وبذيئون للغاية".
تحول الصورةحلت كلمة "بدو" محل كلمة عربي شيئا فشيئا، وساد هذا المصطلح مع تغير الوعي بين بداية ونهاية عصر التنوير، الذي يعكس الانتقال من صورة العربي اللص إلى صورة البدوي الكريم.
وتعد المكتبة الشرقية (1697) لـ بارتيلمي هريلو واحدة من أفضل المقاييس لتغيير الصورة الذي صاحب نشر مصطلح البدو في الثقافة الفرنسية، وإذا كان السابق للموسوعة الإسلامية، ومن خلال هذا التحقيق المعجمي البسيط، بدا نفي الصورة السلبية للبدوي المتوحش، وذكر أيضا: "ومن الواضح أن فكرة تفوق عرب الصحراء على سكان المدن ترتبط بتاريخ النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي انتشرت دعوته في شبه الجزيرة العربية.
ويعلق دو هريلو أيضا في العديد من القصص المستمدة من مصادر عربية، على أن البدوي يظهر كمستودع للحكمة الإلهية، التي يقولها بلغة شعرية طبيعية، لذا فعندما يسأل العربي أو البدوي: كيف تعرف أن الله موجود؟.. يجيب بصيغة براقة: "هل يحتاج الفجر إلى شعلة لكي يُرى؟".
ومن خلال إلقاء نظرة من الداخل عن البدو من خلال معايشة رحلات وبعثات الفارس دارفيو (1653 – 1697) الذي عاش في الشرق فترة طويلة قنصلا في صيدا وحلب وكتب كتابات مطولة عن العيش في مخيم قبيلة بدوية من سوريا، فند دارفيو النظرة السلبية التي تبناها بعض الرحالة، وقدم كتابا لما نسميه اليوم نقدا للمركزية الأوروبية، فهو يحتج على سبيل المثال على الاستنتاجات المتسرعة التي يستخلصها الأوروبيون عن ممارسة السرقة بين القبائل العربية: " نحن مخطئون بشكل فادح عندما نعتبر البدو أناسا غير مهذبين، غلاظا، وقحين، وحشيين، ظالمين، لديهم عنف، دون ولاء، دون مشاعر.
ويشير المؤلف إلى أن الرحالة يستعينون بقصص رحلات سابقة، إما للحصول على معلومات أو للاستشهاد، وقصة دارفيو أشار إليها كارستن نيبور الشهير بمشاركته عام 1671 في الرحلة الاستكشافية العلمية إلى شبه الجزيرة العربية التي نظمتها الحكومة الدانماركية، وهو الوحيد (من أصل 5 رحالة) الذي عاد حيا، ومن خلال الوصف الأنثروبولوجي العلمي الذي قال به دارفيو للبدو العرب في الصحراء.
وقال نيبور في الفصل الثامن من وصفه للجزيرة العربية بعنوان "عن مختلف قبائل البدو، أو عن العرب المتجولين": إن البدو العرب الحقيقيين الذين قدروا دوما حريتهم أكثر من تقديرهم للثروة، يعيشون في قبائل منفصلة تحت الخيام، ومازالوا يحتفظون بنفس شكل الحكم ونفس الأعراف والعادات مثلما فعل أسلافهم حتى في أبعد المناطق".
روسو والأسطورةوكان للمفكر روسو دور حاسم، فقد كان لروايته دور حاسم في بزوغ الأسطورة البدوية خلال الأعوام 1770 – 1780 لتمييز هؤلاء البدو الذين اعتادوا العيش في الهواء الطلق عن غيرهم من العرب الذين يقطنون المدن ولوثتهم الحضارة الحديثة "البدو لديهم رائحة خفية للغاية، تعجبهم المدن قليلا ولا يفهمون، كيف يمكن للناس الذين يفتخرون بحب النظافة أن يعيشوا في هذا الهواء الملوث؟.
ويقول المؤلف، من العوامل التي أسهمت بشكل كبير في إلحاق الطابع الأسطوري بالقبائل البدوية في القرن الـ18 أنهم من نسل إسماعيل وهاجر، ويعتبر المستشرق سافاري الضيافة البدوية نتيجة منطقية لإحدى حالات الطبيعة التي يمكن الحفاظ عليها على مر القرون، ويشير أيضا إلى سفر التكوين لوصف الطريقة التي يستقبل بها البدو الغرباء، وكان سافاري أكثر تأثرا بروسو من تشويسول – جوفييه، فأعطى للبدو صورة متجانسة تدحض قدر الإمكان مسألة السرقة.
وفي عام 1780، في الطبعة الثالثة لـ"تاريخ الهند" أضاف فقرة في الفصل الحادي عشر "وصف الجزيرة العربية" من الكتاب الثالث، تقدم مدحا لافتا لشعر العرب البدو، و تشكل انعكاسا كاملا للصورة البدوية وموقفا معارضا للنقد الذي صاغه توربين عن تنافر اللغة العربية: "تتسم مؤلفاتهم بسمو وعذوبة وصفاء من حيث التعبير ومن حيث الإحساس، الذي لا يتماثل مع أحاسيس أي من الشعوب القديمة والمعاصرة، كأن عذوبة اللغة التي يخاطبون نساءهم بها في هذا العالم، هي نفسها التي سيخاطبون بها حورياتهم في الآخرة، إنها نوع من الموسيقى شديدة التأثير والرقة والرنين، هذه مفارقات مضحكة ومتجددة: وأود أن أقول إن شعرهم معطر بعطر بلادهم…"
وعلى المستوى البلاغي فإن الاستخدام الواسع للمقارنات من المفترض أن يقلد لغة الشعر المنمقة المحبوبة بين العرب، وفي النهاية، على مستوى تسلسل المدلول فإن تكرار الحرف "ب" عند قراءة الشفاه للحرف الساكن يعطي جمالا افتراضيا على سبيل المثال: (presque poesie – parfumée) ولكن أيضا صوت الحرف المتحرك الممدود (contree – parfumee) يكشف عن رقة هذه اللغة الشعرية وموسيقاها المتخيلة من خلال السجع والقوافي.
ولا يمكن دراسة ميلاد الأسطورة البدوية دون النظر إلى المناقشات الفلسفية التي تسببت فيها بين الموسوعيين، بعد روسو تناقش عدد من الفلاسفة والكتاب والمؤرخين من عصر التنوير وغالبيتهم لم يعبروا البحر المتوسط وتجادلوا حول صورة النموذج البدوي، لاسيما التي تظهر باعتبارها شكلا استشراقية لـ"الهمجي النبيل"، ويعتبر هذا الفصل التفافا لابد منه حول أدب الرحلات، علما بأن رحلات دارفيو ونيبور و فولني قد أنعشت مناظرة الأفكار التي تلفت الأنظار إلى صورة البدوي التي أسسها الرحالة في نهاية عصر التنوير.
فولتيرأسهمت الصورة السلبية للبدو عند فولتير إما بشكل مباشر أو غير مباشر في انتقاده للدين، حيث قدّم فولتير في كتابه "محمد" صورة سلبية عن نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، وربطها بالصورة النمطية السائدة عن البدو في عصره. وقد استخدم هذه الصورة لتوجيه انتقادات عامة، ليس للإسلام وحده بل لليهودية أيضاً، وقام فولتير في كتابه "محمد" بتطوير سجل نقدي مزدوج، ويحمل كتابه هدفا خفيا معاديا للإسلام من خلال انتقاده لما يزعمه عن أشكال التعصب الديني، وإن كان فولتير قد وجه نفس الاتهام لليهود العبرانيين، وهو يقول "هؤلاء الإسماعيليون يشبهون اليهود بالحماس والتعطش للنهب، وكانوا متفوقين من قبل بالشجاعة وقوة الروح والرحمة".
وعلى العكس مما خطه فولتير، فإن العديد من النصوص التي تعد جزءا من كتاب "وصف مصر"، الذي أنجزه علماء الحملة الفرنسية، وكيف أسهمت في نقل وإعادة تشكيل الأسطورة البدوية في عهد الإمبراطورية الأولى، سواء لإعطاء صورة مثالية أو سلبية عنهم".
ومن المتناقضات الموجودة للأسطورة البدوية الصورة التي جاءت عليها في موسوعة وصف مصر، ودور الباحث الفرنسي جون – ماري – جوزيف إيميه دي بوا (1799 – 1846) وهو ضابط مهندس ومتخصص في التاريخ الطبيعي، وكان مكلفا باستكشاف وادي التيه الذي يمتد من ضواحي القاهرة إلى الشاطئ الغربي للبحر الأحمر، ودراسته حول القبائل العربية في صحاري مصر الدراسة الأكثر أهمية وصف البدو في كتاب وصف مصر، والذي تشي بعداء تجاه البدو من البداية الذي يصور البدو الرحل كخطر على السكان "فنراهم يتجولون في جميع أنحاء مصر، وكأنهم حيوانات جائعة حول فريسة دسمة".
والواقع فإن هذا العداء قد انقلب لإعجاب شعر به دي بوا إيميه فيما يخص أسلوب حياة البدو العرب، وينعكس الإعجاب في عدد من الملاحظات المتفرقة والمتكاملة، والتي تميل إلى توضيح القيم الأساسية للثورة الفرنسية.
في حين يقف على النقيض أدم فرانسوا جومار المسؤول عن البعثات الميدانية لوضع خريطة عامة للبلاد خلال الحملة الفرنسية على مصر، فهو يغالي في الصورة النمطية عن طريق تعميم وجهة نظره على قرى بأكملها "جميع السكان دون استثناء، والشيوخ أنفسهم، يمتهنون السرقة"، وأن بداوتهم هي السبب الرئيسي في عمليات السلب التي يتهمون بها.
أما ماري جوزيف كوتيل فيزيائي في الحملة الفرنسية الذي توجه إلى صعيد مصر وسيناء وأتيحت له فرصة دراسة حياة العرب الرحل عن كثب، وكشفت كتاباته عن موقف وسطي ومحايد إلى حد ما، إعجابا بشجاعتهم وكرم ضيافتهم، وصدق تعاهداتهم.
القس رافائيل دي موناكيسمع النظر للصورة التاريخية للأسطورة البدوية، نجدها في المقام الأول أسطورة أوروبية انبثقت عن الثورة الفرنسية، وفي أعقاب الحملة الفرنسية على مصر، وجدت الأسطورة دعما جزئيا على الأقل من الشرقيين، وينطبق هذا على حال القس روفائيل دي موناكيس، واسمه الحقيقي أنطوان زخورة مؤلف العمل الرائد "البدو أو عرب الصحراء" المنشور في 3 مجلدات في باريس عام 1816، وفي الجزء الثاني من الكتاب معلومات زائفة عن البدو، مكررا على الأذهان الصورة النمطية القديمة عن البدوي اللص.
بوخارتفي مذكراته عن البدو والوهابيين 1830، استطاع السويسري جوهان لودفيج بوخارت (مكتشف آثار أبو سمبل 1812 في صعيد مصر) أن يوجه اهتماماته للبدو العرب، وتمثل كتاباته شكلا من أشكال الترحال، ويعد امتدادا للرحالة الدانماركي كارستن نيبور، وأسهم بوخارت في تغيير وجهة النظر من خلال ملاحظاته عن البدو، بتقديم البدو العرب بوصفهم أمة خرجت عن إطار التاريخ.
في نفس العام الذي يموت فيه بوخارت في القاهرة 1817، يرحل النبيل البولندي الكونت ووكلو روزيسكي إلى الشرق، ويبقى هناك سنين عدة، ويعنى بشكل كبير بنمط حياة البدو، ولكن على النقيض من خلفه السويسري عاش روزيسكي حقيقة حياة قبائل البدو في الصحراء، وسمي نفسه اسما عربيا، في محاولة للاندماج وسط عالم أغلبيته مسلمون مخفيا مظهره الأوروبي، وعرف بين البدو لاهتمامه بالخيول العربية الأصيلة التي اشترى منها مئة حصان عند عودته إلى أوروبا، وكتب كتابه الشهير "الخيول العربية"، ورسم للبدو الهاربين من وطأة العثمانيين شكلا من أشكال مقاومة الاحتلال الأجنبي.
شاتوبريانمع متابعة تحولات هذه الأسطورة على مدار الفترة الزمنية المحددة، نجد أنه مع وصول شاتوبريان إلى المسرح الأدبي، حيث تطور في طبيعة سرد قصص السفر والترحال، والتي تم توجيهها بفضله نحو الصيغة الأدبية ونحو السيرة الذاتية التي أصبحت منذ ذلك الوقت فصاعدا لغة التواصل، وعندما رحل شاتوبريان إلى الشرق 1806 كتب إلى جوزيف جوبير من تونس في 13 يناير/كانون الأول 1807: "رأيت اليونان واليهود ومصر، وأنا على أنقاض قرطاجة، لكن هذا كلفني كثيرا يا صديقي، تعرضت للهجوم 3 مرات من قبل البدو، وفي المرة الأخيرة فكرت في الانتحار في نهر النيل".
وعلى الصعيد الديني، يشترك شاتوبريان مع الأب بواريه في نفس الروح المعادية للإسلام، وقبله معظم الحجاج المسيحيين إلى الأرض المقدسة، مما جعله متشككا في ضيافة البدو له، "فقد سافر شاتوبريان إلى الأرض المقدسة، التوراة والإنجيل والحروب الصليبية في يده" كما يقول لامارتين.
على عكس ما خطته يدا شاتوبريان المثيرة للدهشة، تطور تصوير العرب البدو عند جوزيف بوجولا (1808 – 1880) وأستاذه جوزيف فرانسوا ميشو (1767 – 1839) حيث قدما صورة مواربة ومثالية للبدو في بداية عام 1830، وهي الفترة التي رحل فيها المؤرخان رحلة طويلة إلى الشرق.
لامارتين.. في مدح عنترةكانت رحلة لامارتين إلى الشرق بين (يوليو/تموز 1832 – سبتمبر/أيلول 1833) في فترة فارقة في حياته، وعلى عكس شاتوبريان، فإن مؤلف "رحلة إلى الشرق" 1835 لم يسع إلى إثبات تفوق المسيحية على الديانات الأخرى، بشكل عام يعطي لامارتين صورة إيجابية للغاية للورع التركي.
ولم يكن الأتراك وحدهم هم الذين يمثلون الصورة المثالية في "رحلة إلى الشرق" ولكن العرب أيضا بما يتعارض مع وجهة نظر شاتوبريان، ولذا كان على لامارتين أن يدفع عنه دور الفارس والراهب ليقضي وقتا أكبر في الشعر والفلسفة.
ويلتقي الرحالة لامارتين بالسيدة ستانهوب في جبال لبنان، وسجل لامارتين وقائع الزيارة في فصل أعطاه عنوانا في كتاب الرحلة "زيارة إلى السيدة ستانهوب" وفي هذا الفصل سجل حوارا طويلا بينهما، وأعلنت السيدة ستانهوب له عن موهبته الشعرية، بل لعبت دور الوسيط في الاهتمام الذي أبداه الرحالة تجاه الشعر العربي، لاسيما شعر العرب الرحل.
كما اهتم لامارتين بشكل خاص بشخصية عنترة، الشاعر العربي الذي عاش في القرن السادس، واستلهم من حياته ملحمة كتبها نحو القرن الـ15 وهي "رواية عنترة"، وأعتبر أن الجزء الرعوي متفوق على الجزء الغنائي في شعر عنترة، ومن ناحية أخرى قام لامارتين بتحوير صوت المؤذن ليعلن أنه صوت شعري، وبنظرة مغايرة، فإن الصلاة نفسها أداء شعري.
وضاعف لامارتين أوجه التشابه بين ملحمة عنترة وبين الشعراء اليونانيين، أو التوراة ليظهر بوضوح وفقا لمفهومه الكوني أن الشعر في جميع الأماكن وفي جميع الأوقات لجميع الحضارات.
فلوبير.. ونقد المركزية الأوروبيةمثل لامارتين، يصور غوستاف فلوبير نفسه كبدوي، غير أن فلوبير الذي قام مع دو كومب برحلته العظيمة في البحر المتوسط، له فكر نقدي عن الاستشراق في عصره، وعن الصيغ المبتذلة التي تعبر عن أدب الرحلات، ومن ثم كانت خطاباته ومذكراته عن الرحلة في منتصف القرن الـ19 نوعا ما، عرضا من أعراض أزمة الأسطورة البدوية.
قام صاحب "مدام بوفاري" برحلته إلى الشرق في الفترة من 1849 – 1851، حيث عاش فلوبير حلمه الاستشراقي التي ستصبح الصحراء أحد مكوناته الأساسية، صحراء فلوبير لم تكن اللاشيء، بل على العكس مكان مأهول بالبدو ودوابهم، وكان مفتونا بشكل الجمل.
مع تطور الإمبراطوريات (الفرنسية والبريطانية) وميلاد ما يسمى (الخطاب الاستشراقي) في الأدب، الخطاب الذي قصده الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي يقوم على إضفاء شرعية على هيمنة الغرب على الشرق، كان من الضروري التركيز على شخصية البدو لا العرب ولا الأتراك، كان لابد من معالجة سؤال الاستشراق – بحسب المؤلف.
وجاء إدوارد سعيد يثير سؤال الاستشراق النظري مركزا على الجزء المهم من الأصل العرقي في العمل الأدبي الغربي، بخاصة أدب الرحلات منذ منتصف القرن الـ18 وحتى منتصف القرن الـ20.
المشرق الذي أنشأه الفكر الغربي، ليظهر كعنوان فرعي مناسب في الترجمة الفرنسية لكلمة "الاستشراق"، هو من ثم مجموعة كاملة من الصور كانت موضوعا لخطابات غير متجانسة مثلما يعتقد إدوارد سعيد.
ومع الاهتمام بصورة العرب البدو في الأدب الوصفي، يتضح أنه منذ منتصف عصر التنوير، تظهر صورة البدوي المثالي التي غالبا ما تستخدم للنقد، بشكل غير مباشر، في أوربا نفسها، وهذا ما أطلقت عليه (الأسطورة البدوية) التي دفعت كاتبا بحجم غوستاف فلوبير أن يكتب في لحظة غضب عندما احتج على شكل من أشكال السلطة في بلده (القوانين والحكومة والمجتمع): "سأعود إلى البدو الأحرار" بحسب المؤلف.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الحملة الفرنسیة الجزیرة العربیة الصورة النمطیة القرن الـ19 إلى الشرق عن البدو البدو فی فی کتاب من خلال على أن فی عصر
إقرأ أيضاً:
شرخ في جدار الغرب.. الطلاق بين الولايات المتحدة وأوروبا
في عام 2020، أبلغ الرئيس الأميركي دونالد ترامب رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين أنها تحتاج إلى أن تفهم أنه في حال تعرَّضت أوروبا للهجوم، فإن الولايات المتحدة لن تأتي أبدا لتقديم المساعدة والدعم، وأن "حلف شمال الأطلسي (الناتو) قد مات"، وأن أميركا ستنسحب منه.
لربما تمنَّى الأوروبيون حينها أن تكون فترة ترامب في البيت الأبيض مجرد زوبعة استثنائية في مسار تاريخ العلاقات بين أوروبا وأميركا، وأن يأتي بعده رؤساء كهؤلاء الذين اعتادت أوروبا على التعامل معهم، ممن يؤمنون في أعماقهم بأن أوروبا هي المُكمِّل الرئيسي لـ "الحضارة الغربية"، وأن الهجوم عليها هو هجوم على الولايات المتحدة نفسها.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2من يربح حرب القاذفات المقاتلة "بي-2" الأميركية أم "إتش-20" الصينية؟list 2 of 2ماذا تعرف عن مانفيستو 2025؟ وهل يستلهم منه ترامب أفكاره؟end of listغير أن آمال أوروبا بشأن أن يكون ترامب لحظة عابرة في التاريخ لم تتحقَّق إلا لأربع سنوات، فسرعان ما عاد الرجل إلى رأس السلطة بفترة رئاسية جديدة، وهذه المرة بدعم شعبي أميركي واسع ظهر في نتائج الانتخابات الرئاسية التي أُجريت نهاية العام الماضي، وصاحبتها سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسَيْ الشيوخ والنواب. ومع بداية فترة ترامب الثانية، يبدو أنه يحمل يوميا خبرا غير سار لحلفاء أميركا التاريخيين في القارة العجوز.
لقد صرَّح بيت هيغْسيث، وزير الدفاع الأميركي الجديد، بأن أوكرانيا عليها ألا تحلم باستعادة حدودها كما كانت في السابق، واتهم ترامب بنفسه نظيره الأوكراني زيلينسكي بأنه "دكتاتور بلا انتخابات"، ومختلس لأموال المساعدات الأميركية، ولا يؤيده إلا 4% من مواطني أوكرانيا.
إعلانكما قطع ترامب العُزلة الغربية المفروضة على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فأجرى اتصالا معه دون إبلاغ قادة أوروبا أو أوكرانيا لفتح باب المفاوضات حول الملف الأوكراني.
وقد اتفق الرجلان على اجتماع مرتقب محتمل في المملكة العربية السعودية، ويبدو أن مباحثات واشنطن وموسكو بشأن أوكرانيا ستُقصي الأوروبيين تماما. في الوقت نفسه، أرسل ترامب نائبه جيمس ديفيد فانس إلى أوروبا كي يحاضر القادة الأوروبيين عن افتقار بلادهم إلى الديمقراطية وحرية التعبير.
يبدو أن هناك نظاما عالميا جديدا قد بدأ يتشكَّل في الأسابيع القليلة الماضية، ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية نشهد هذا القدر من التناقض بين بروكسل وواشنطن.
لطالما حدثت خلافات قوية بين الولايات المتحدة وأوروبا على مدار الأعوام المئة المنصرمة، لكن لعل الأزمة الحالية هي المرة الأولى التي يكون الخلاف فيها بتلك الحِدّة، وليس فقط حول مصالح مُحدَّدة، وإنما حول الأسس العميقة للرابطة الأطلسية، والقيم المشتركة بين القارة العجوز والدولة الأقوى في العالم، اللتين تُمثلان معا "الحضارة الغربية" كما عرفناها.
انفجار مفهوم الغرب"يجب أن نكون واضحين اليوم بشأن حقيقة أن أوروبا مُهدَّدة بالموت، ويمكن أن تموت".
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطاب بتاريخ أبريل/نيسان 2024مَثَّل مؤتمر ميونخ للأمن، الذي انعقد في مدينة ميونخ بألمانيا في شهر فبراير/شباط الماضي، نقطة تحول كبرى في تاريخ العلاقات الأميركية الأوروبية، إذ ترك المؤتمر القادة الليبراليين في أوروبا في حالة ارتباك.
ففي أثناء المؤتمر، وجَّه نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس كلمته إلى قادة القارة في صيغة تحمل توبيخا، وقال: "عندما نرى المحاكم الأوروبية تلغي الانتخابات، وكبار المسؤولين يهددون بإلغاء انتخابات أخرى، نحتاج أن نسأل أنفسنا ما إذا كنا نلتزم بمعايير عالية بشكل مناسب".
إعلانوقد شبَّه فانس ما وصفه بحملات أوروبا القمعية على حرية التعبير بتلك التي كانت تجري في الأنظمة الاستبدادية التابعة للاتحاد السوفياتي في القرن العشرين، وذكر أن هذه الأنظمة كانت تطارد المعارضين وتفرض الرقابة عليهم، وتغلق الكنائس، وتلغي الانتخابات، وأنها خسرت الحرب الباردة لأنها لم تحترم قيمة الحرية، على حد قوله.
وختم فانس كلمته قائلا إن قادة أوروبا لا يحق لهم أن يُملوا على الناس ما يشعرون به أو يفكرون فيه أو يعتنقونه.
إن الانتخابات التي يقصدها فانس بالتحديد هي انتخابات رومانيا، التي تصدَّر الجولة الأولى فيها مرشح أقصى اليمين، وألغتها المحكمة الدستورية على خلفية اتهامات بتدخُّل روسيا، وهو ما ألمح فانس إلى أنه جرى تحت تأثير القوى الكبرى في أوروبا.
كما يقصد نائب الرئيس الأميركي حملات قمع حرية التعبير، والإجراءات التي تتخذها بعض الدول الأوروبية ضد أحزاب ورموز أقصى اليمين في بلادها، التي يعتقد فانس أنها محاولة من الدول العميقة في أوروبا للوقوف بوجه رغبات واختيارات الناخبين، فضلا عن تكميمها أفواه المواطنين، ومنعها الآراء اليمينية المعارضة للخطاب الليبرالي السائد في أوروبا من وجهة نظره.
رأى العديد من قادة أوروبا في خطاب فانس تدخلا سافرا في شؤون الاتحاد الأوروبي وبلدانه، ودعما صريحا لخطاب أقصى اليمين، وافتراقا تاما في التصوُّرات والقيم السياسية بين واشنطن وبروكسل حيال الديمقراطية والحريات.
وقد أثار خطاب فانس كثيرا من الجدل في أوروبا، إلى الحد الذي دفع كريستوف هويسْغِن، رئيس مؤتمر ميونخ للأمن، للصعود إلى المنبر، حيث قال إنه بعد كلمات فانس، يبدو أن المبادئ المشتركة بين الدول الغربية لم تعُد مشتركة اليوم، ثم انهار هويسْغِن باكيا ولم يستطع إكمال كلمته.
إعلانإن الشرخ بين شقَّيْ التحالف الغربي، أوروبا وأميركا، كان آخذا في الاتساع منذ سنوات طويلة قبل مجيء ترامب، فقد شاعت مقولات في صفوف النخب الأميركية مفادها أن أوروبا ينبغي أن تتعلم كيف تقف على قدميها بنفسها، وأن الولايات المتحدة عليها أن تتوقف عن الدعم الكبير، والأمني بالتحديد، الذي تمنحه لأوروبا.
في المقابل، ثمَّة استعلاء باسم الثقافة الأوروبية على نظيرتها الأميركية في أروقة الاتحاد الأوروبي، وقد تكثَّف هذا الازدراء للثقافة الأميركية منذ الغزو الأميركي للعراق، الذي مضت فيه واشنطن منفردة رغم معارضة فرنسا وألمانيا.
وبحسب دراسة نُشِرَت في مطلع الألفية بمؤسسة "هوفر" الأميركية، سادت مشاعر معادية لأميركا في أوروبا، لا تجاه مؤسسات الحكم الأميركي فحسب، بل وتجاه الثقافة الأميركية واختيارات الشعب الأميركي، الذي يجلب أسوأ الحكام عبر الانتخابات في نظر الأوروبيين. ومن ثم يبدو أن الخلاف الحالي ضارب بجذوره في تباين ثقافي وشعبي أوسع من مجرد مشكلة بين صناع القرار في واشنطن وبروكسل.
ورغم كل ذلك، لم يصل الخلاف والافتراق إلى الحد الذي نراه الآن، ويبدو كأنه إعلان طلاق بين ركيزتَيْ الحضارة الغربية، مما دفع إذاعة "مونت كارلو" الدولية الفرنسية للقول إن هذا الطلاق الأوروبي الأميركي يكتب نهاية مصطلح "الغرب"، لأن منظومة القيم التي تحكم أوروبا صارت مختلفة بصورة كبيرة عن نظيرتها على الجهة الأخرى من المحيط الأطلسي، ومن ثم لم يعد هناك ما يمكن وصفه بمنظومة القيم الغربية.
تصدُّع القارة الأوروبية أم اتحادها؟لا يقتصر الأمر على نهاية مفهوم الغرب، إذ إن سياسة الولايات المتحدة الماضية في طريق الانفصال عن أوروبا قد تهدد القارة العجوز، مهد الحضارة الغربية، بعواقب تُزعزعها من الداخل. وكانت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية قد أعدَّت تقريرا قبل الانتخابات الأميركية الأخيرة تستشرف فيه واقع أوروبا إذا ما صعد ترامب إلى السلطة وطبَّق سياسته التي أعلن عنها تجاه أوروبا، ووضعت المجلة سيناريوهات كابوسية للاتحاد الأوروبي نتيجة فقدان المظلة الأمنية الأميركية.
إعلانوبحسب التقرير فإن أغلب الناس نسوا ما كانت عليه أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، حيث أنتجت القارة أبرز المعتدين والطغاة حينها، وكانت أرضا لحروب لا تنتهي، وجمعت الجغرافيا الأوروبية مجموعة من المتنافسين الأقوياء في مساحة واحدة ضيقة نسبيا، ومن ثم حلم كلٌّ منهم بأن يتوسع على حساب الآخر.
لطالما شهدت أوروبا تقلبات من النظم الليبرالية إلى الأنظمة الاستبدادية العنيفة. بالإضافة إلى ذلك، فإن تدخُّل الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية في إطار الحرب الباردة عبر حلف شمال الأطلسي كان الضامن الوحيد لكبح النزعات المُدمِّرة للدول الأوروبية، إذ باتت المظلة الأميركية السبب الوحيد في ألَّا يخشى أعداء الماضي داخل القارة من بعضهم بعضا كما كان الحال سابقا.
ومن ثم بدأ التعاون بين القوى الأوروبية المتنافسة، كما فرضت الولايات المتحدة النظام الديمقراطي على بعض الدول لمنع عودة الاستبداد، الذي حفَّز الحروب في الماضي.
وقد دعمت الولايات المتحدة، وفقا للمجلة الأميركية، الهياكل التي وفَّرت الرخاء والتقدم في أوروبا على نحو جعلها ما هي عليه الآن، ومن ثم فإن واحدا من السيناريوهات المتوقعة في حالة انعزال أميركا عن أوروبا هو عدم قدرتها على الاتحاد بالشكل نفسه، إذ إن روسيا قد تُشكِّل تهديدا شديد الخطورة بالنسبة للدول الأوروبية القريبة منها، وإن لم تُهدِّد دول الجنوب أو الغرب الأوروبي بالقدر نفسه، وهو ما سيولِّد تضاربا في المصالح بين بلدان القارة يُهدِّد هياكل التعاون القائمة بينها.
ولكن السيناريو الأسوأ الذي توقعته المجلة الأميركية هو أن تعود أوروبا لماضيها، بحيث يؤدي إحساسها بالضعف وعجزها عن حماية نفسها إلى تعزيز إحساس كل دولة فيها بمصالحها الخاصة وبالمخاطر المحدقة بها، فتبدأ العداوات القومية المكبوتة منذ عقود في الانفجار، وتُحفِّز فوضى من التدخل الأجنبي، ويبدأ سباق التسلح بين الدول الأوروبية من جديد، وتتعاظم المشاعر القومية المتطرفة على حساب القيم الليبرالية.
وبشكل حاسم، توقع المقال أن غياب المظلة الأمنية الأميركية عن أوروبا سيغيب معه امتصاص الصدمات الجيوسياسية التي وفرتها الولايات المتحدة لعقود، ومن ثم سيكون شكل القارة العجوز مختلفا كليا عن الشكل الذي نعرفه عنها الآن.
إعلانوالواقع أن صعود ترامب في الولايات المتحدة ونشاطه المكثف من أجل فرض إرادته على العالم لا يهدد أوروبا بإزالة الغطاء الأمني من عليها فحسب، بل ويهددها بشيء آخر، إذ إن خطة الإدارة الأميركية بشأن أوروبا تمتد لمحاولة تصعيد الأفكار اليمينية المشابهة للترامبية داخل الأقطار الأوروبية ذاتها، بحيث يصعد اليمين القومي المتطرف في شتى أنحاء القارة بشكل يجعل "الترامبية" أكبر من مجرد مرحلة زمنية يمكن أن تنتهي سريعا، واتجاها للمستقبل الغربي نفسه لا محض انحراف، بحسب تعبير وكالة "رويترز" للأنباء. وقد بدأت إدارة ترامب تُشجِّع بالفعل أقرانها من الرموز والأحزاب اليمينية القومية في مختلف بلدان أوروبا.
تقول ناتالي توتشي، المحللة بصحيفة "الغارديان" البريطانية، إن فكرة الالتقاء بين الترامبية والحركات اليمينية الأوروبية كانت تشغل ستيف بانون كبير مستشاري ترامب للشؤون الإستراتيجية سابقا، وذلك من أجل إنشاء جبهة مشتركة لمكافحة الليبرالية والتعددية الثقافية والعولمة.
وبحسب توتشي، فإن تلك الإستراتيجية توسعت وتبدو واضحة الآن من هجوم فانس على أوروبا في مؤتمر ميونيخ، الذي تضمن دعم اليمين الأوروبي والترويج لفكرة أنه يتعرض للقمع في القارة، فضلا عن لقاء فانس قبل أيام من الانتخابات الألمانية بالسياسيَّة أليس فايدل، زعيمة حزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف، والمرشحة لمنصب المستشار في ألمانيا. وجدير بالذكر هنا أن إيلون ماسك، المستشار رفيع المستوى للرئيس ترامب، وأحد أهم داعميه، قد أعلن تأييده الكامل لحزب البديل من أجل ألمانيا.
صفعات ترامب العنيفةقبل خطاب فانس الفارق، كان توجُّه إدارة ترامب الجديد تجاه أوروبا قد ظهر أثناء الأيام الأولى لتوليه منصبه، حيث انسحب من منظمة الصحة العالمية ومن اتفاقية باريس للمناخ للمرة الثانية، وهدَّد أيضا بالاستحواذ على جزيرة غرينلاند التابعة للدنمارك، ولم يستبعد استخدام الأسلحة العسكرية أو الاقتصادية لتحقيق هذا الهدف.
وأعلن ترامب أيضا عن خطته لفرض رسوم جمركية على الاتحاد الأوروبي، وهو أمر يرى براين كولتون، كبير الخبراء الاقتصاديين في وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، أن ترامب جاد في تنفيذه، حيث من المتوقَّع أن تزيد الرسوم الجمركية بنسبة 10% أو 20%، وهو ما سيُكلِّف أوروبا 1% زائدة من إنتاجها المحلي الإجمالي.
إعلانثم جاءت تطورات تصريحات ترامب بشأن أوكرانيا وخطاب فانس كي تُقنع قطاعات واسعة من المحللين بأن الطلاق البائن بين أوروبا والولايات المتحدة تمَّ بالفعل، مما دفع صحيفة "لوموند" الفرنسية للقول إن أوروبا الآن في مواجهة تحدٍّ تاريخي، وإن خطاب فانس الفارق في العلاقات عبر الأطلسي أوضح بما لا يدع مجالا للشك بأن الانقسام بين القارة العجوز وواشنطن جذري، وأن القطيعة ستكون تاريخية.
أمام هذا التحدي التاريخي، يرى غونترام وولف، الخبير بمركز "بروغيل" للبحوث، أن الاتحاد الأوروبي لم يكن مستعدا لهذا السيناريو الراديكالي الذي جاء به ترامب، وأن أوروبا لم تخطط للتعامل معه سواء على مستوى الاتحاد أو حتى على مستوى الدول الأوروبية الكبرى مثل ألمانيا وفرنسا.
وتوقع الباحث في حديثه مع منصة "سويس إنفو"، التابعة لهيئة الإذاعة والتلفزيون السويسرية، أن عدم التخطيط سيؤدي إلى إثارة الذعر بين الدول الأوروبية بسبب خطة الرسوم الجمركية التي يعتزم ترامب فرضها، وربما تذهب كل دولة كي تتفاوض معه بمفردها، فيتعمَّق الانقسام الاوروبي أكثر وأكثر.
لا يمكننا التكهُّن الآن بما ستنتهي إليه الأمور، وتأثير صفعات ترامب على أوروبا، إذ يأمل البعض في القارة بأن يُسهم التهديدان الروسي والأميركي اليوم في تعزيز شعور دول أوروبا بخطورة الموقف، ومن ثم يدفعها إلى إدراك حساسية اللحظة التاريخية الحالية، وضرورة ترجيح كفة التعاون العسكري والحفاظ على وحدة أوروبا وتأسيس دفاع مشترك على كفة مصالح الدول المنفردة.
ولعل هذا السيناريو هو ما يتوقعه أكثر المتفائلين من داعمي القارة العجوز، في حين هناك سيناريو آخر يأمله متفائلون آخرون، وهو أن تنجح رئيسة وزراء إيطاليا جورجا ميلوني في تقريب وجهات النظر بين إدارة ترامب والاتحاد الأوروبي، خاصة أنها محسوبة على مساحة وسط بين اليمين من جهة، وصناع القرار الليبراليين والمحافظين التقليديين في أوروبا من جهة أخرى.
إعلانغير أن هناك سيناريوهات متشائمة تنتشر في صفوف محللين أوروبيين آخرين، وتتوقع أن أوروبا في السنوات القادمة، وهي قارة ضعيفة عاجزة عن حماية نفسها بدون المظلة الأمنية الأميركية، لن تتعاون لمواجهة تحدياتها، وأن العديد من أنظمتها السياسية ستتحوَّل إلى أنظمة قومية يمينية أو استبدادية. وهنا ينظر كثيرون إلى المجر، التي عمل نظامها على تفكيك القواعد الليبرالية للممارسة السياسية في بلاده، ولذا يتوقع المتشائمون في أوروبا أن يتكرر النموذج المجري، وأن يصبح أكثر راديكالية واستبدادا في السنوات القادمة، لا سيَّما في ظل رغبة الإدارة الأميركية نفسها بأن يكون لها أصدقاء من هذا النوع في أوروبا.
وتشير بعض التوقعات الأكثر تشاؤما إلى أن بعض دول أوروبا قد تفقد استقلالها وسيادتها بالكُلية في السنوات القادمة أمام المدِّ الروسي، وبالتحديد دول شرق أوروبا التي كانت جزءا من الاتحاد السوفياتي أو حلف وارسو أثناء الحرب الباردة.
أيًّا كان السيناريو الذي يمكن أن يحدث لأوروبا في الفترة القادمة، وما يُمكن أن نسميه حقبة ما بعد الشرخ الأميركي الأوروبي، سواء كان سيناريو القدرة على التعاون والاعتماد على الذات، أو سيناريو عودة أوروبا للحروب الداخلية والصراعات وتحول بعض أنظمتها للاستبداد وفقدان بعضها لاستقلاله؛ فإن اللحظة التي تواجهها القارة الآن هي الأصعب منذ عقود طويلة كانت تتمتَّع فيها بالرعاية الأميركية.