بعض جوانب تجارة الرقيق العربية من السودان بين القرنين السابع والتاسع عشر (1 -3)
تاريخ النشر: 11th, October 2024 GMT
بعض جوانب تجارة الرقيق العربية من السودان بين القرنين السابع والتاسع عشر (1 -3)
SOME ASPECTS OF THE ARAB SLAVE TRADE FROM THE SUDAN - 7th to 19th CENTURY
يوسف فضل حسن Yusuf Fadl Hassan
تقديم: هذه ترجمة للجزء الأول مما ورد في مقال طويل للأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن (1931- )، نُشِرَ عام 1977م في العدد الثامن والخمسين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR" في صفحات 85 – 106.
والأستاذ الدكتور يوسف فضل حسن غنِيّ عن التَّعريف، ويمكن الاطلاع على سيرته الذاتية ومؤلفاته في هذا الرابط: https://tinyurl.com/53skxv9s
المترجم
********** ********** *********
لقد كان الاسترقاق ممارسةً شائعة في الجزيرة العربية وبقية مختلف المناطق في العالم القديم من قبل ظهور الإسلام بوقت طويل في بداية القرن السابع عشر الميلادي. وكان وجود المسترقين الأجانب (وغالبهم من السود، وقليل منهم من البيض أيضاً) قد ورد في الشعر العربي القديم ومرويات ما قبل العهد الإسلامي. وقبل مجيء الإسلام بفترة قصيرة كانت هناك بمنطقة غرب الجزيرة العربية (وخاصة مكة) أعداد كبيرة من المسترقين الأفارقة، أغلبهم من الأحباش. ولكلمة "أحباش" أو "حبش" دلالات أوسع، أُدْخِلَ فيها غالب المسترقين السود البشرة الذين جُلِبُوا من الساحل الغربي للبحر الأحمر. وقد يكون السبب في ذلك هو أن معرفة العرب بإفريقيا كانت في ذلك الزمان تقتصر على الحبشة وما جاورها من مناطق (1). غير أن العرب لم يكونوا هم أول من أدخلوا الرق وتجارة الرقيق في أوساط الأفارقة (السود)، ولم يكونوا هم أيضاً أول من استرقهم. فقد كان الاسترقاق أو أي شكل من أشكال "العبودية" وبيع المسترقين ظاهرة شائعة إلى حد كبير في أجزاء كثيرة من القارة الإفريقية. وبالإضافة لذلك، كان الفراعنة والرومان ضالعين منذ فترة طويلة سابقة في جلب المسترقين السود من أفريقيا. وهناك بالفعل آثار في المنحوتات المصرية القديمة تدل على وجود مسترقين أفارقة.
ومع ذلك، فإن تجارة الرقيق التي تسربت عبر الصحراء الكبرى إلى شمال أفريقيا، وأسفل نهر النيل إلى مصر وعبر البحر الأحمر إلى شبه الجزيرة العربية، لم تكن بذلك الحجم والأهمية إذا ما قورنت بالتجارة الواسعة التي تدفقت عبر نفس الطرق وتطورت مع إنشاء الدولة الإسلامية.
لقد كان العالم العربي قد غُمر بأعداد كبيرة من الأسرى في أعقاب موجة الفتوحات العربية الإسلامية، وكانوا من مجموعات عرقية مختلفة بما في ذلك السوريين والأقباط والفرس والنوبيين والبربر والهنود واليونانيين والأتراك. واُسْتُخْدِمَ الأسرى الذكور والإناث في البداية للخدمة في منازل العائلات العادية وفي قصور الأغنياء والكبراء. وقد ساهم تدفق هؤلاء المسترقين، مترافقاً مع تطور الحياة عند العرب، ومع اتساع المجتمعات الحضرية، في توسيع النطاق التقليدي لتوظيف المسترقين والمسترقات، وفي إدخالهم في مهن جديدة. إلا أن أعداد أسرى الحرب الذين كانوا يشكلون مصدراً رئيسياً للمسترقين لم يعد كافياً لتلبية الطلب الجديد (والمتزايد)، وذلك لسببين: أولهما هو انخفاض أعداد المسترقين كثيراً بسبب العتق، وثانياً، هو انتهاء موجات الغزو العربي التي كانت المصدر الرئيسي للأسرى، وذلك بحلول القرن الثامن. ونتيجة لذلك صار الكثيرون يحصلون على المسترقين عبر عمليات الشراء، أي بطرق تجارية وليست عسكرية. وسرعان ما غدت القوافل الكبيرة تحمل آلاف المسترقين والمسترقات سنويا من أفريقيا وآسيا الوسطى في الغالب، ومن أوروبا المسيحية بدرجة أقل، إلى أسواق الرقيق في كل أرجاء الإمبراطورية. وكان يُؤتى بأولئك المسترقين لأغراض عديدة توسع في وصفها (الطبيب البغدادي النصراني) مختار بن الحسن بن بُطْلان في مؤلفه المعنون "رسالة في شرى الرقيق وتقليب العبيد" (2). وكان الطلب على نوعين من المسترقين كبيراً: النوع الأول هم المسترقين من أصول تركية، وكانوا يلحقون بالعمل جنوداً في الجيش، ويُسَمَّوْنَ "المماليك"، والنوع الثاني هم "السود" أي أنهم من أصول سودانية، وكانوا يعملون في الغالب كخدم وجنود وعمال. وسأركز في مقالي هذا على هذا النوع الثاني من المسترقين السود الذين كانوا يَجْلُبُونَ من "بلاد السودان"، وعلى الذين كانوا يعملون في تلك التجارة.
وفي رسالة الجاحظ (المتوفي في عام 869) المعنونة " فخر السودان على البيضان" كان المؤلف يستخدم كلمة "السودان" بالمعنى المحدود (المقيد) وبالمعنى العام: فالأول يشير إلى مجموعة متميزة بهذا الاسم لم يأت على ذكر موقعها أو صفاتها بالضبط. ومن السابق لأوانه بالفعل التحدث عن مجموعة عرقية تحمل هذا الاسم في القرن العاشر الميلادي، وربما لم يتم استخدامه إلا بعد القرن السادس عشر عندما أصبح قابلاً للتطبيق إلى حد كبير على سكان غرب إفريقيا؛ بينما يشمل المعنى العام كل الأشخاص السود البشرة، مثل الزنج، والأحباش، والنوبة (النوبيين)، والزغاوة، والهنود، وسكان جنوب شرق آسيا، والأقباط، والبربر، والصينيين (3).
وعلى الرغم من أن المعنى المقيد والعام لكلمة "سودان" كان يستخدم لفترت طويلة من الزمن، إلا أن غالبية الكتاب العرب الأوائل كانوا يقصرونه على سكان أفريقيا من ذوي البشرة السوداء، وكان يطلقونه أيضاً في بعض الأحيان على سكان الهند. أما التعبير الجغرافي لـ "بلاد السودان"، فهو يشير إلى كل مناطق أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى التي تمتد من البحر الأحمر (أو ربما من الحدود الغربية أو الجنوب – غربية لأرض النوبيين) إلى المحيط الأطلسي.
وشرع الكُتَّاب العرب والمسلمين – بعد أن ازدادت معرفتهم بالمناطق الداخلية في أفريقيا عبر عمليات نقل كبيرة للمسترقين - في التفريق بين المجموعات الإثنية الكبيرة التي تندرج تحت مسمى "سودان". وتشمل تلك المجموعات النوبيين والبجا والزنج، وأحيانا الإثيوبيين، ولكنها لا تضم سكان شمال أفريقيا (رغم أنها تشمل أحياناً سكان فزان (في الجنوب الغربي من ليبيا الحالية. المترجم).
وكما ذكرنا آنفاً، فقد كان الأحباش (الحبش) هم أول من اتصلوا بالعرب المسلمين. بل كانت أول هجرة للمسلمين قد توجهت للحبشة، حيث وجدوا الحماية والرعاية من مَلِيكها. وتشمل كلمة "حبش" الأحباش Abyssinians وجيرانهم من جهة الجنوب على القرن الإفريقي، وبعض البجا على حدودهم الشمالية. وربما بسبب قرب بلادهم من الحبشة، وشبههم للأحباش، أطلق عليهم بعض الكُتَّاب العرب "عِرْق الأحباش"، واسموا كل تلك المناطق "الحبشة الوسطى". وكان للمسترقين والمسترقات الأحباش قيمة مادية كبيرة كخِصيان وسراري.
أما لفظة "نوبة Nuba"، فهي مثل كلمة "سودان" تحمل معنىً مقيداً، وعاماً أيضاً. فهو يشير في المعنى الأول لشعب أرض النوبة المسيحية الذين قاوموا العرب ببسالة في النصف الأول من القرن السابع. أما المعنى العام فهو يشمل كل سكان السودان النيلي، وكل السكان السود الذين اُشْتُرُوا من مناطق خارج منطقة النوبة وبِيعُوا رقيقاً. غير أن أولئك المسترقين لم يكونوا بالفعل من النوبيين، على الرغم من أنهم كانوا يُعْرَفُونَ بذلك الاسم. ومثلهم مثل الأحباش، كان النوبيون قد حَظُوا بسمعة جيدة في العالم الإسلامي كعمال مخلصين في أداء أعمالهم، وكخدم مفيدين. وكان يعملون كخدم وعمال وجنود، وكممرضات ومحظيات.
والبجا هم من الرحل المتحدثين باللغة الكوشية، وتقع مناطقهم بين النيل والبحر الأحمر. وهم يشبهون الأحباش، وربما كان هذا سبب هو القيمة العالية لسبايا البجا. وبسبب حملاتهم العسكرية في صعيد مصر اشتبك العرب معهم في القرن الثامن. كما كانوا على صلة معهم عبر الموانئ العربية المنشأة حديثاً على الساحل الغربي للبحر الأحمر.
والزنج هم شعوب شرق أفريقيا الناطقة بلغة البانتو، الذين يقطنون مناطق جنوب الحبشة (من خط عرض 30 شمالاً إلى خط عرض 50 جنوباً)، رغم أن كلمة "الزنج" تستخدم لوصف كل الأفارقة السود (negros) على وجه العموم. وبالنسبة للعرب، كان موطن الزنج (أرض الزنج) منذ منتصف القرن الثامن مصدراً لا ينقطع لجلب المسترقين. وكان الزنج، عند المقارنة ببقية المسترقين الأفارقة، أقلهم قيمة (مادية) عند العرب.
طبيعة تجارة الرقيق عند العرب
لقد أحتل العرب مكانة مهمة في مجالي التجارة والملاحة نظراً لكونهم يمثلون قلب الإمبراطورية الإسلامية المنشأة حديثاً. وكان العرب في الأساس تجاراً وليسوا غزاة. وعلى وجه العموم، كانت تجارة الرقيق الأفريقية، مثلها مثل التجارة في المنتجات الأفريقية الأخرى، في أيدي العرب أو الرجال من ذوي الأصول العربية والإفريقية المختلطة. ويُسْتَخْدَمُ مصطلح "العرب" هنا بمعنى فضفاض للغاية للإشارة إلى الأفراد والمجموعات الناطقة بالعربية من أصول متنوعة. ويدخل في هذا التعريف أيضاً تجار الرقيق الآخرون، سواءً أكانوا من غير العرب المسلمين (كالمسيحيين أو اليهود)، والذين كانوا من رعايا الدولة الإسلامية. وكان تجار الرقيق العرب أو المستعربين (مثل "الجلابة" في السودان النيلي أو السواحليين في شرق أفريقيا) يمثلون مجموعة بارزة في تجارة الرقيق.
وعلى الرغم من أن العرب كانوا قد قاموا بدور قيادي في التجارة بأفريقيا، إلا المعلومات المتوفرة لدينا ليست كافية، أو ليست كافية لدرجة تمكننا من الاعتماد عليها أو الوثوق بها لتقدم لنا كل الأجوبة المطلوبة فيما يتعلق بضُلوع العرب في تجارة الرقيق، أو مدى مساهمتهم فيها. فمعظم ما رود من معلومات في هذا الشأن أتى من التجار والرحالة أو البحارة الذين دخلوا إلى أماكن بعيدة في تلك الأراضي، ومِنْ ثَمَّ جاءت رواياتهم محاطة بالغموض والأساطير. ومع ذلك ربما كان العرب هم أول الأجانب الذين دخلوا عميقاً في الأراضي الإفريقية المأهولة بالسكان، وهم من عملوا على مقابلة الطلب المتزايد في العالم الإسلامي على المسترقين. وكان ما قاموا به في هذا المجال قد حفز الآخرين للانخراط في تجارة الرقيق، وجعل لها أهمية عظيمة. وعند ظهور التجار العرب في المشهد الإفريقي، كانت تجارة طرق المسافات الطويلة قد أُنْشِئَتْ مسبقاً، وإلى حد كبير، من خلال المبادرات الأفريقية. غير أن التجار العرب عند دخولهم في تجارة الرقيق كانوا قلما يواجهون معارضة أفريقية منسقة؛ ويبدو أن العوامل المحلية كانت متجانسة بشكل عام مع يقوم به التجار العرب من أعمال.
وبعد أن وجد الإسلام - مثله مثل اليهودية والمسيحية - أن الرق يمثل سمة اِعتِيَادِيّة وثابتة للنظام الاجتماعي، لم يأمر بإلغاء العبودية بالكلية، بل سعى للتخفيف من شرورها من خلال الدعوة إلى المعاملة الجيدة وتشجيع العتق؛ وتردد صدى روح الإسلام تجاه الاتجار بالبشر في الأثر المنسوب إلى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) الذي يدين مثل هذا النشاط: "شر الناس من باع الناس" (لم أجد لهذا القول أثراً في المصادر المعروفة، إلا أن هناك حديثا قدسيا ورد فيه: "ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ ، ذكر منهم : رَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ. المترجم). وكما هو معلوم، فالإسلام لا يبيح استرقاق المسلمين، ويعترف بنوعين: الذين ولدوا في العبودية، ومن أسروا في الحرب – كنتيجة لحرب أُعْلِنَتْ على سكان "دار الحرب" التي تقع خارج دار الإسلام. وكانت المصادر المحلية للعبودية ضئيلة للغاية لدرجة أنه لم يتم الحفاظ على تلك المؤسسات إلا من خلال استمرار جلب المسترقين بوسائل تجارية إلى حد كبير، من الأراضي الأجنبية.
طرق ومصادر الحصول على الرقيق
تختلف طرق ومصادر الحصول على الرقيق (إما بالانتصار الحربي أو الخطف أو الشراء)، ويتباين دور التجار العرب بحسب المنطقة التي يقومون فيها بمثل تلك الأعمال. غير أنه يبدو أن التجار العرب لم يكونوا – على وجه العموم – يصطادون المسترقين بأنفسهم، بل كانوا يعتمدون في الغالب على ما يحصلون عليه من وسطاء أو من "أهل البلاد natives". واستفاد كل من التجار العرب والموردين المحليين بشكل كامل من العادات المحلية القديمة التي تناسب وتتوافق مع مثل تلك الأنشطة. والأمثلة التالية المستمدة من أجزاء مختلفة من المنطقة على مدى فترة زمنية واسعة، تمثل طرقاً مختلفة لشراء المسترقين. فبادئ ذي بدء، فرض العرب في أول مواجهة لهم مع النوبيين وسكان شمال أفريقيا جزية سنوية يتم تسليمها للمسلمين. وفي النوبة كانت الجزية السنوية هي حوالي 400 مسترق في مقابل المواد الغذائية. وكانت الجزية المعروفة في "معاهدة البقط" مواصلة لممارسة قديمة. ولمقابلة ما التزم به النوبيون، كانوا يغيرون على أعدائهم الذين كانوا يقنطون في جنوب أو جنوب غرب مناطقهم ويصطادون منهم من يقدمونهم جزيةً للعرب. وقد ورد في كتاب عمارة اليمني المعنون "تاريخ اليمن" أن حاكم دهلك Dahalk كان قد قدم ألف فتاة مسترقة (نصفهن من النوبيات والنصف الآخر من الحبشيات) لحاكم اليمن في عام 977م.
وكتب القبطي أبو البشر سيفرس (Abu al - Busher Severus) أن المسلمين كانوا منذ وقت باكر (عام 747- 8) يخطفون النوبيين لبيعهم في أسواق الرقيق بمصر. وذكر الرحالة الفارسي نصري خاسرو Nasiri Khusraw (4) أن المسلمين وغيرهم كانوا يسرقون الأطفال من بوادي البجا ويبيعونهم في مدن المسلمين. وربما كانوا يفعلون ذلك بحجة أنهم كانوا في حالة حرب بأرض الأعداء. فالغارات المسلحة، رغم أنها كانت موجهة على نطاق واسع ضد الوثنيين، لم تستثن المجتمعات الإسلامية الموجودة على حدود دار الإسلام. وفي عام 1391 اشتكى أبو عمرو عثمان بن إدريس، ملك بورنو، إلى السلطان المملوكي في مصر من أن بعض القبائل العربية التي كانت تعيش بالقرب من مملكته داهمت رعاياه وقتلت بعضهم وأسرت آخرين. وتم بيع الأسرى لتجار الرقيق من مصر وسوريا وأماكن أخرى. وليس من الواضح من النص ما إذا كان البيع الفعلي يتم في بورنو نفسها أم في الخارج، بحسب ما جاء في نص كتاب "صبح الأعشى في صناعة الإنشا" لأبي العباس القلقشندي.
ولكن على الرغم من تلك الأنشطة العربية، انتهى المطاف ببعض المسترقين عند التجار العرب بسبب عوامل عديدة. وكانت عادات الاستعباد المشار إليها أعلاه سائدةً بين "السودان"، وهم، بحسب مصدر فارسي، أشخاص يسرقون أطفال بعضهم البعض ويبيعونهم لتجار الرقيق عند وصولهم (5).
وبحسب ما جاء في كتاب "مجمع البلدان" لياقوت الحموي، كان لملك علوة الحق في استرقاق من يريد من أفراد شعبه، بينما كان لأفراد قبيلة "التكونا Takuna" الحق في استعباد أي فرد آخر من قبيلتهم. وكان الأحباش يسرقون أطفال غيرهم ويبيعونهم للتجار عندما يشح الطعام عندهم.
غير أن أهم مصدر للرقيق ربما كان ما تنتج عنه الصراعات الداخلية بين القبائل الإفريقية وزعمائها، الذين كانوا يقاتلون بعضهم بعضا، ويبادلون من يأسرونهم بمختلف عروض التجارة مع التجار العرب.
وذكر الجغرافي العربي اليعقوبي (ت897) أن الزويلا Zawila (في وسط بلاد السودان (كانوا يخطفون السود من قبائل ميرا ( Mira) والزغاوة ومروة (Maruwa) وبعض القبائل الأخرى التي تقطن بالقرب منهم. وأضاف اليعقوبي أنه سمع بأن ملوك القبائل السوداء كان يبيعون السود الآخرين دون تبرير أو بسبب تهديد بالحرب. ومن أمثلة ذلك مثل ملك برنو الذي كان يبادل من يسترقهم في حملاته السنوية لجمع الرقيق بالبضائع الأجنبية.
وبغض النظر عن الطريقة التي كان التجار العرب يجلبون بها المسترقين، فقد كانت هناك عوامل عديدة أدت أدواراً مهمة في تسهيل وجود تلك "السلعة" في الأسواق. في الواقع، وعلى وجه العموم، لم يشارك التجار العرب (باستثناء لاحقاً في القرن التاسع عشر) في عملية الاستحواذ الأولي على المسترقين، لكنهم كانوا يكتفون بالحصول عليهم من خلال الوسائل السلمية في مقابل السلع الأجنبية التي كانوا يعملون على تزويد الأسوق الرئيسية بها. وعمل التجار العرب على مد الأسواق الرئيسية بالمسترقين السود، وذلك باستخدام طرق القوافل القديمة التي ربطت أفريقيا الاستوائية بشمال أفريقيا وساحل البحر الأحمر وموانئ شرق أفريقيا على المحيط الهندي. وكانت الأسواق المصرية تتلقى أولئك المسترقين عبر ثلاثة طرق للقوافل تأتي من دارفور وسنار وفزان، ومن المناطق الداخلية الأبعد. وكان لطريقي دارفور وسنار أهمية اقتصادية أكبر من طريق فزان. وكان هناك فرع لطريق سنار يتجه شرقاً ليزود الجزيرة العربية ببعض احتياجاتها من المسترقين عن طريق موانئ عديدة مثل بادي (6) وعيداب وسواكن ودهلك ومصوع. وكانت هناك سلسلة طرق تجارية لنقل المسترقين من الحبشة وشرق أفريقيا تمتد عميقاً في المناطق الداخلية.
ولم تكن أنشطة التجار العرب تقتصر على تجارة الرقيق (التي كانت تدر أرباحاً وفيرة)، ولكنهم كانوا يتاجرون بغيرها أيضاً. فقد كان يصدرون – إضافة للمسترقين – المنتجات الإفريقية التقليدية مثل العاج والماشية والإبل، وفي أحيان قليلة كانوا يصدرون أيضاً الجلود والذهب وريش النعام، وخشب الأبنوس والزَّبَاد (civet)، مع عدد كبير من مختلف المنتجات المحلية. (في بعض الأحايين كان المسترقون والعاج يمثلان أهم ما يصدره أولئك التجار، خاصةً في سنوات القرن التاسع عشر. وكان تجارة الرقيق لا تنفصل عن التجارة في العاج، كما كان عليه الحال في بعض المناطق مثل شرق أفريقيا وأعالي النيل وبحر الغزال (2). ومن أجل تمويل تلك العمليات التجارية، ولمقابلة الاحتياجات المحلية، كان أولئك التجار يستوردون الخيول والملح والأقمشة والنحاس والأسلحة المعدنية، والخرز والمرايا والحلي وغيرها من المواد المصنعة. وفي فترات سابقة كانت تلك البضائع تُسْتَخْدَمُ في الغالب في عمليات التبادل التجاري في المنتجات الإفريقية، ولا تباع بالنقد.
وبسبب التدفق الهائل لأنواع مختلفة من المسترقين إلى أسواق الرقيق، ودخلوهم لاحقا في المجتمع الإسلامي، اكتسب تجار الرقيق الكثير من الخبرة التي مكنتهم من تحديد الصفات والعيوب في المجموعات العرقية المختلفة للمسترقين. وبعد ذلك، أصبح من الممكن تحديد الوظائف التي تعتبر الأفضل لكل فئة. وتم أخذ عوامل مثل مكان المنشأ والعمر والجنس والمظهر الجسدي والقدرة والتدريب السابق في الاعتبار. (للحصول على وصف تفصيلي لصفات ووظيفة مختلف أنواع المسترقين، السود والبيض، يمكن للقراء الرجوع إلى ما كتبه ابن بُطْلان عن الرقيق (2).
وكانت أعداد البيض المسترقين أقل من أعداد المسترقين السود في الأسواق، وظلت أعداد الفئة الأولى في تناقص. وكان المسترقون البيض قلما يُسْتَخْدَمُونَ في الأعمال الشاقة، ويلحقون بالخدمة العسكرية وبوظائف إدارية عليا، وفي خدمة المنازل. لذا كانت أثمان المسترقين البيض تفوق أثمان المسترقين السود.
****** ***** *****
إحالات مرجعية
1/ استشهد الكاتب هنا بمقال لعون الشريف قاسم عنوانه "السودان في حياة العرب" نُشِرَ عام 1968م في العدد الأول من مجلة الدراسات السودانية، في صفحات 76 – 78.
2/ https://shorturl.at/7C6zo . اُنْظُرْ أيضاً كتاب بعنوان: "بغية المريد في شراء الجواري وتقليب العبيد: الاوضاع الاجتماعية للرقيق في مصر 642-1924م" صدر عام 1997م لخالد مختار.
3/ أشار الكاتب في الحاشية إلى أن تضمين الجاحظ للصينيين هو أمر غريب يعكس نقص أو خطأ المعلومات التي كانت شائعة آنذاك؛ وربما يشابه ذلك ما يعتقده الأوربيون المعاصرون عن الأشخاص الملونين.
4/ كان ناصري خسرو (1001 – بين 1072و1088م) عالماً وشاعراً ورحالة ومبشراً فارسياً للحركة الشيعية الإسماعيلية، ويُنسب إليه على نطاق واسع تأسيس الطائفة الإسماعيلية في بدخشان. https://shorturl.at/3lF2r
5/ المرجع الفارسي المقصود هو كتاب "حدود العالم من المشرق إلى المغرب" لمؤلف مجهول. وذكر كاتب المقال في الحاشية أنه في محاولة لدرء مثل تلك الهجمات العشوائية وتشديد الحماية من اختطاف الأطفال المسلمين في شرق السودان الذي كان قد أصبح إسلامياً حديثاً؛ واعتمد السكان المستعربون علامات معينة على الوجه (الشلوخ) وسيلةً لتمييز أنفسهم عن الآخرين وربما لحمايتهم من الاسترقاق، كما ورد في كتابه "الشلوخ"، الصادر في الخرطوم عام 1976م.
6/ للمزيد عن ميناء بادي يمكن النظر في هذا الرابط: https://tinyurl.com/bddn8edz
alibadreldin@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الجزیرة العربیة فی تجارة الرقیق الذین کانوا ی على الرغم من شرق أفریقیا إلى حد کبیر لم یکونوا التی کانت فی الغالب کانوا من التی کان العرب فی على سکان من خلال فقد کان ورد فی فی هذا أول من فی عام غیر أن
إقرأ أيضاً:
الإبداع يتجلى في تفاصيل الحياة| بين الطقوس والفنون.. جوانب أخرى من الإرث الثقافي السوري
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق الأزياء التقليدية.. تراث عريق يعكس التنوع الثقافىالدبكة.. رقصة تعكس روح الشعب السوري الفخور بهويتهالحمامات الشعبية.. عبق التاريخ وأصالة العناية بالجسدالأمثال السورية.. جواهر من الحكمة الشعبيةالفخار والسجاد.. إبداع يدوى عبر الأجيال
في الذاكرة الجماعية، غالباً ما يُختزل الإرث الثقافي السوري في فنون الغناء والموسيقى والتمثيل، التي أبهرت العالم العربي لعقود.. لكن سوريا، هذا البلد الذي يحمل بين طياته آلاف السنين من التاريخ والحضارة، يخبئ إرثاً ثقافياً غنياً يتجاوز الأضواء والشهرة.
من الأزياء التقليدية التي تحكي حكايات الأجيال بألوانها وتطريزها، إلى الدبكة التي تهز الأرض بحيويتها وترمز إلى روح الجماعة.. ومن الفنون الحرفية التي تتوارثها الأيدي الماهرة بعناية، إلى الأمثال الشعبية التي تلخص حكمة الزمان، وطقوس الأعراس التي تحتفي بالفرح بأسلوب لا مثيل له، وصولاً إلى الحمامات الشعبية التي تُعبر عن فلسفة العناية بالنفس والجسد.
في هذا التقرير، نبحر في تفاصيل الإرث السوري الأصيل، حيث يمتزج الجمال بالإبداع ليمنح الحياة اليومية بُعداً فنياً وعمقاً ثقافياً يستحق التأمل والتقدير.
الزي السوري التقليديتُعد الأزياء التقليدية في سوريا جزءاً لا يتجزأ من التراث الثقافي الذي يعكس التنوع الغني للبيئات السورية المختلفة، من الحضر إلى الريف والبادية.. كل منطقة سورية تحمل طابعاً خاصاً يظهر في تصاميم الملابس وألوانها وزخارفها، مما يعكس عادات المجتمع المحلي والمعتقدات الشعبية.
الأزياء النسائية:في دمشق، تتميز الأزياء النسائية مثل البخنق والخمار والملاءة السوداء التي تغطي الجسم بالكامل، مع التركيز على استخدام الحلي مثل العرجة والكردان، وهي سلاسل ذهبية أو فضية تتزين بها النساء.
وفي المناطق الريفية، تعتمد النساء على الملابس المطرزة بخيوط الكنفا، والتي تعكس روعة تصاميم مستوحاة من حضارات قديمة مثل تدمر وأوغاريت.
الأزياء الرجالية:أما الأزياء الرجالية التقليدية فتشمل القنباز، وهو لباس فضفاض طويل مع حزام جلدي، والعباءة المصنوعة من الصوف أو الحرير، والتي تُستخدم بشكل واسع في مناطق حماة وحمص، ويتنوع تصميم القنباز بين المناطق السورية؛ ففي حلب يُعرف باسم «الركوب»، بينما يختلف قليلاً في حمص ودمشق.
وتعكس الأزياء السورية أصالة تعود إلى آلاف السنين، حيث استلهمت تصاميمها من الحضارات القديمة مع الحفاظ على عناصرها الأصلية.
اليوم، على الرغم من اندثار بعض الأزياء التقليدية، فإنها لا تزال تُرتدى في المناسبات الثقافية والاحتفالات كرمز للهوية والتراث.
ورغم تراجع استخدام الملابس التقليدية في الحياة اليومية، فإن هناك جهوداً حثيثة للحفاظ على هذا التراث عبر المهرجانات والمعارض الثقافية، كما أصبحت التصاميم المطرزة مصدر إلهام للمصممين السوريين المعاصرين، الذين يمزجون بين الأصالة والحداثة لخلق أزياء عصرية.
طقوس الأعراس السوريةتعكس طقوس الأعراس في سوريا غنى التراث الشعبي وتنوعه، حيث تختلف الطقوس من منطقة إلى أخرى، مع الحفاظ على عناصر تراثية تجمع بين الأصالة وروح المجتمع.
ومن أبرز الطقوس والتقاليد:
الحناء:في الجنوب السوري، مثل محافظة السويداء، تُقام ليلة الحناء التي تجمع النساء للغناء وإعداد العروس بالزينة التقليدية مثل "الطربوش" والزي الجبلي، ما يضفي طابعاً تراثياً مميزاً.
أما في الرقة، الحناء تُقام كاحتفالية يشترك فيها الأقارب والجيران، مع تقديم الأهازيج التراثية مثل: «يا عروس لا تبجين.. هذه كتبة الله علينا».
النقوط والتعليلة:النقوط هو عرف متوارث يتمثل في تقديم الهدايا العينية أو المالية للعروسين، كنوع من التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع. أما «التعليلة»، فهي أمسيات احتفالية يتشارك فيها الأهل والأصدقاء بالغناء والرقص.
وليمة الزفاف:في العديد من المناطق، يُعد «المليحي» «وجبة من البرغل واللحم» أو الثريد كجزء من وليمة الزفاف التي تبرز كرم العائلة وتماسكها الاجتماعي.
حمام العريس:من الطقوس التي تُقام في الريف الدمشقي، حيث يُنقل العريس إلى حمام شعبي أو منزل أحد الأصدقاء، مصحوباً بالمزاح والاحتفالات الخاصة التي تضيف أجواءً مميزة.
الأهازيج والرقصات:تُعتبر الدبكة الشعبية والأغاني التراثية جزءاً أساسياً من الأعراس، إذ تُقام حلقات الدبكة بمشاركة الجميع، وتكون مصحوبة بموسيقى المجوز أو فرق الإنشاد حسب المنطقة.
ورغم الأزمات الاقتصادية في السنوات الأخيرة، يتمسك السوريون بعاداتهم، مع إدخال بعض التعديلات لتخفيف التكاليف.. على سبيل المثال، يتم استعارة بعض تجهيزات العروس مثل الطربوش أو التشارك في تحضير الولائم.
هذه الطقوس تحمل في طياتها قيم التكافل والفرح الجماعي، مما يجعلها أكثر من مجرد مراسم زفاف، بل مناسبة لتعزيز الروابط الاجتماعية والحفاظ على التراث.
الدبكة السورية.. جوهرة الفلكلور الشعبيتُعد الدبكة السورية واحدة من أبرز رموز التراث الشعبي في بلاد الشام، وتمثل انعكاساً للحياة الاجتماعية والترابط المجتمعي في سوريا.
تجمع هذه الرقصة بين البساطة والحيوية، وتعتمد على تناغم خطوات الأقدام مع الموسيقى الشعبية التي تُعزف باستخدام آلات تقليدية مثل الشبابة والمزمار والطبلة.
ويؤدي المشاركون الرقصة جماعياً، غالباً في شكل دائرة أو صف، ويرافقها غناء فولكلوري مثل العتابا والدلعونا والمعنى، مما يضيف لها بُعداً شعرياً وحماسياً.
وتتعدد أنواع الدبكة في سوريا وفقاً للمناطق، حيث يُضفي كل منها طابعاً خاصاً يعكس بيئة وأصالة المنطقة، على سبيل المثال:
دبكة الهولية: تتميز بخطوات منتظمة وتؤدى في جبل العرب.دبكة البرزية: شائعة في حماة، وتؤدى وفق جمل خماسية.دبكة اللوحة: تُميز اللاذقية بجمل سباعية.دبكة «هالأسمر اللون»: من الدبكات السريعة المنتشرة في حلب.وتتجاوز الدبكة كونها مجرد رقصة شعبية، فهي وسيلة للتعبير عن الفرح والفخر بالهوية الثقافية.. وتُمارس الدبكة في الأعراس والمهرجانات والمواسم الزراعية، وتُعد مساحة للتواصل الاجتماعي والفني.
كما تُعتبر تمريناً بدنياً وتحدياً للمهارات الحركية، حيث يؤدي «قائد الدبكة» دوراً محورياً في توجيه الخطوات وإظهار الحركات الإبداعية.
ويلعب الغناء المصاحب للدبكة دوراً جوهرياً في تعزيز الحماس، حيث يُلقي الشعراء أبياتاً تحمل مضامين تراثية أو عاطفية أو حماسية.
كما تُضفي الآلات الموسيقية التقليدية طابعاً فريداً على الأجواء، حيث تتنوع الألحان والإيقاعات وفقاً لنوع الدبكة.
رغم ما تواجهه الدبكة من تحديات تهدد استمراريتها، تظل جزءاً أصيلاً من الهوية الثقافية السورية، وتُقام العديد من الجهود للحفاظ عليها وتعليمها للأجيال الجديدة عبر الفعاليات والمهرجانات الشعبية.
الحمامات الشعبية في سوريا.. تراث أصيلتُعتبر الحمامات الشعبية في سوريا أحد أبرز ملامح التراث الثقافي والمعماري، إذ تعود جذورها إلى عصور قديمة تمتد حتى الحضارة الرومانية.
على مر الزمن، أصبحت هذه الحمامات جزءاً من الحياة اليومية للسوريين، حيث لم تكن مجرد أماكن للاستحمام، بل مراكز اجتماعية وثقافية تعكس تفاعل المجتمع السوري عبر العصور.
ويعود تأسيس الحمامات في سوريا إلى الحقبة الرومانية، حيث كانت وسيلة أساسية للحفاظ على النظافة العامة، وتطورت هذه الحمامات في العصر الأموي والعباسي، وبلغت ذروتها في العصر المملوكي والعثماني.
وتعتبر حمامات دمشق مثل «النوفرة» و«الورد» من أقدم الحمامات في العالم، بينما في حلب اشتهرت حمامات مثل «حمام الباشا» و«حمام التيروزي» بأصالتها المعمارية.
وتتميز الحمامات السورية بتصميمها الفريد المكون من ثلاثة أقسام رئيسية:
البراني: القسم الخارجي المخصص للاستقبال والاسترخاء، ويُزين عادة بأرائك وسجاد شرقي.الوسطاني: منطقة انتقالية ذات حرارة معتدلة تُستخدم لتجهيز المستحم قبل الدخول إلى القسم الأخير.الجواني: القسم الداخلي المخصص للاستحمام الفعلي، ويحتوي على غرف بخار وأحواض ماء ساخنة وباردة.. تتزين القبب بنقوش هندسية، بينما تُضاء من خلال نوافذ زجاجية صغيرة تُسمى «العين».وفي الماضي، كانت الحمامات ملتقى اجتماعياً مهماً، حيث يجتمع الرجال والنساء «في أوقات منفصلة» لتبادل الأخبار والاحتفال بالمناسبات.
وارتبطت الحمامات بطقوس الزفاف، حيث كان يُقام «حمّام العريس» كجزء من استعدادات الزواج.. أما خلال المناسبات الدينية، كانت الحمامات تُعتبر وسيلة للتطهر، مما أكسبها مكانة روحانية لدى السوريين.
ومع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، تراجع دور الحمامات التقليدية في الحياة اليومية، إلا أن بعض هذه الحمامات لا تزال قيد الاستخدام، خاصة في المناطق التاريخية، حيث أصبحت وجهة سياحية وتراثية.
تعرضت العديد من الحمامات في سوريا للضرر خلال الحرب، خاصة في حلب، حيث دُمر أكثر من نصف الحمامات التقليدية.. ومع ذلك، جرت جهود لإعادة ترميم بعضها مثل «حمام السراج» و«حمام البكري».
وتمثل الحمامات الشعبية جزءاً من ذاكرة السوريين الجماعية وتراثهم الثقافي، وهي شاهدة على عصور ازدهار حضارتهم.. حتى في ظل التحديات الحالية، يظل الحمام السوري رمزاً حياً يجمع بين الجمال المعماري والروح الاجتماعية.
الفنون الحرفية.. صناعة الفخار والسجادالفنون الحرفية في سوريا تمثل جزءاً أساسياً من التراث الثقافي للمجتمع السوري، حيث تجمع بين المهارة اليدوية والإبداع الفني العميق.
ومن أبرز الحرف السورية التي استمرت عبر العصور الفخار وصناعة السجاد، اللتان تعتبران من العناصر الثقافية المميزة التي ترتبط بها هوية الشعب السوري.
الفخار السوري:تعد صناعة الفخار في سوريا من أقدم الحرف اليدوية التي تمتد جذورها إلى العصور القديمة، حيث أظهرت الاكتشافات الأثرية أن الفخار كان جزءاً من الحياة اليومية منذ الألفية الخامسة قبل الميلاد.
وقد تم تطوير تقنيات الفخار في مختلف العصور، فالفخار الدمشقي، الذي يُعرف بخزف القيشاني، أصبح معروفاً عالمياً بجمال زخرفته ورونقه.
وفي العصر المملوكي والفاطمي، أصبح هذا النوع من الفخار شهيرًا بسبب نقوشه الرائعة وملمسه المميز.
رغم هذا التاريخ الطويل، فإن صناعة الفخار في سوريا اليوم تواجه تحديات كبيرة، حيث تعاني من الإهمال والاندثار، ولكن لا يزال بعض الحرفيين يمارسون هذه الحرفة التقليدية باستخدام تقنيات حديثة، مثل استبدال الأفران التقليدية بأفران كهربائية، لإنتاج منتجات فخارية معاصرة تلبي احتياجات السوق.
السجاد السوري:يُعتبر السجاد السوري من أرقى الفنون الحرفية التي تمثل مزيجاً من التصميم التقليدي والابتكار الفني، حيث يتميز هذا السجاد بنقوشه الغنية التي تجمع بين الرموز الثقافية والتاريخية.
ويشتهر السجاد الدمشقي بشكل خاص بتصاميمه الدقيقة وألوانه الزاهية.. هذا النوع من السجاد كان يُعتبر رمزاً للترف والعراقة في البيوت السورية التقليدية، ولا يزال يُنتج حتى اليوم من قبل الحرفيين الذين يحافظون على هذه الحرفة العريقة.
تشير التقارير إلى أن هذه الفنون تواجه تحديات كبيرة بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية، حيث يعاني العديد من الحرفيين من قلة الدعم والموارد اللازمة لاستمرار هذه الحرف التقليدية.
ومع ذلك، يستمر الحرفيون في سوريا في السعي للحفاظ على هذه الفنون، مما يعكس التزامهم العميق بتراثهم الثقافي.
الخط العربي والزخارف الإسلامية السوريةالخط العربي والزخارف الإسلامية يشكلان جزءاً أساسياً من التراث الثقافي والفني السوري، وقد حظيا بتاريخ طويل من التطور والابتكار.
في سوريا، يعتبر الخط العربي من أرقى الفنون، حيث يعود تاريخه إلى العصر الأموي الذي شهد تقدماً ملحوظاً في هذا المجال.
في ذلك الوقت، بدأ الخطاطون السوريون بإبداع أنواع جديدة من الخطوط التي تتميز بالدقة والمرونة، مثل الخط النسخي، الذي استخدم في كتابة المخطوطات الدينية والعلمية، والخط الثلث، الذي يميز الجمال والتناسق في العناوين والزخارف.
أما الزخارف الإسلامية، فقد تطورت بشكل كبير في سوريا، حيث أصبحت جزءاً لا يتجزأ من التصاميم المعمارية والفنية.
وقد اشتُهر الفن السوري في استخدام الزخرفة الأرابيسك «المعروفة أيضاً بالأرابيسك»، التي تمتاز بتكرار الأشكال الهندسية والنباتية بطريقة مبدعة.. كان هذا النمط الفني يعبر عن مفاهيم دينية مثل الإيمان والنور، وأصبح من أبرز مظاهر الفن الإسلامي الذي يُظهر توازناً دقيقاً بين الشكل والمضمون.
اليوم، تستمر سوريا في الحفاظ على هذا التراث من خلال مؤسسات ثقافية مثل "متحف الخط العربي" في دمشق، الذي يعرض مجموعة من الأعمال الخطية المتميزة، بالإضافة إلى تسليط الضوء على أشهر الخطاطين السوريين الذين ساهموا في نهضة فن الخط العربي.
وهذه الفنون لا تمثل فقط جانباً جمالياً، بل هي جزء من الهوية الثقافية السورية التي تربط الماضي بالحاضر وتؤكد على قدرة السوريين على الابتكار في المجالات الفنية والحرفية.
المطبخ السوري.. تاريخ عريق وأطباق متنوعةتتمتع المأكولات السورية بتاريخ طويل وعريق يعكس تنوع البلاد الثقافي والاجتماعي، حيث يتسم المطبخ السوري بتنوع أطباقه التي تتفاوت من منطقة لأخرى، حيث يمتزج فيها تأثيرات متعددة من المطبخ العربي والفارسي والتركي.
ويعتمد المطبخ السوري بشكل رئيسي على مكونات بسيطة لكنها غنية بالنكهات مثل الزيتون، الحبوب، اللحوم، والخضراوات، فضلاً عن استخدام البهارات بشكل مميز.
ومن أبرز الأطباق السورية التقليدية التي تشتهر بها البلاد هي الكبة، التي تأتي بأشكال متنوعة مثل كبة بالصينية وكبة المقلية.. والكبة تتكون عادة من البرغل المطحون واللحم المفروم مع البصل والتوابل، وتعتبر من الأطعمة المفضلة في المناسبات والاحتفالات.
أيضاً، يعتبر اليرق «ورق العنب المحشي» من الأطباق المميزة، وهو يحتوي على لحم الضأن والأرز والتوابل ويُطبخ في عصير الليمون والثوم مما يعطيه طعماً فريداً.
ومن الأطباق الأخرى الشهيرة الفول المدمس والفتوش، وهما من الأطعمة اليومية التي يعكسان التقاليد الغذائية للمجتمع السوري، بالإضافة إلى المجدرة التي تجمع بين الأرز والعدس.
ويعتبر المطبخ السوري أيضاً غنياً بمشروباته التقليدية مثل الشاي العربي والعرق، التي تضيف بعداً ثقافياً للمجتمع السوري من خلال احتساء المشروبات في الجلسات الاجتماعية.
يمثل الطعام السوري جزءاً كبيراً من الهوية الثقافية، ويعكس عمق التراث الشعبي السوري الذي يعزز التواصل الاجتماعي والضيافة في المجتمع.
الأمثال الشعبية السورية.. حكمة تعكس واقع المجتمعتحمل الأمثال الشعبية السورية في طياتها حكمة وفطنة تعكس تجارب الأجيال السابقة.. وتستخدم هذه الأمثال في الحياة اليومية للتعبير عن المواقف الاجتماعية والسياسية، وغالباً ما تتسم بالرشاقة اللفظية والقدرة على توصيل الأفكار المعقدة بطريقة بسيطة وفعالة.
وتتنوع الأمثال الشعبية السورية من حيث المعاني والتوجهات، فبعضها يشير إلى الحكمة في التعامل مع الأمور اليومية، وبعضها يعكس واقع التفاوت الاجتماعي.. كما أن هناك أمثالاً تحمل في طياتها لمحات فكاهية وساخرة مثل «إذا إجا آب الصيف عاب»، الذي يستخدم للسخرية من التغيرات التي قد تكون سلبية في بعض الأحيان.
وتعد الأمثال في بعض الأحيان انعكاساً للمواقف السياسية والاجتماعية؛ حيث يتعامل الناس مع القضايا اليومية بعين نقدية لاذعة أو حتى ساخرة.
ومن أبرز خصائص الأمثال الشعبية السورية أن بعضها يعتمد على السجع والتناغم الموسيقي، مما يسهل حفظها وتداولها، مما يعزز من قدرتها على البقاء حية في الأذهان.
كما تسلط الأمثال الضوء على القيم الثقافية والاجتماعية مثل الصدق، والمكر، والجود، والتعاون، بل وتستعرض النواحي الإنسانية بمختلف صورها، سواء كانت إيجابية أم سلبية، ما يجعلها جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية السورية.
في الختام، تبقى الأمثال الشعبية السورية جزءاً من الهوية الثقافية التي تحمل في طياتها فكر الأجداد وتراثهم، وتُستخدم حتى اليوم لتعزيز التواصل الاجتماعي وإثراء الحياة اليومية.