د. هشام عثمان

يعد الاستغلال السياسي للنزعة القبلية من أخطر الأدوات التي يمكن استخدامها لإضعاف الدول والمجتمعات، خاصة في الدول التي تتميز بتنوعها الإثني والقبلي مثل السودان. حيث تمتلك القبيلة في السودان حضورًا قويًا على مستوى الانتماء والهُوية الاجتماعية، مما جعلها عرضة للاستغلال من قبل القوى السياسية والطموحات الشخصية التي تسعى إلى تعزيز نفوذها من خلال تقسيم المجتمع على أسس قبلية وإثنية.

هذه الظاهرة تتجسد بوضوح في المشهد السياسي السوداني، حيث ساهمت النزعة القبلية في تعميق الصراعات، وتفكيك الروابط الاجتماعية، وتآكل الهوية الوطنية الجامعة.

أولاً: السياق التاريخي والاجتماعي للنزعة القبلية في السودان

يعود النفوذ القوي للقبيلة في المجتمع السوداني إلى تراكمات تاريخية وثقافية، حيث شكلت القبيلة على مدار القرون الوحدة الاجتماعية والسياسية الأساسية في المناطق الريفية. ومع قدوم الدولة الوطنية في منتصف القرن العشرين، ظلت القبيلة تلعب دورًا محوريًا في التفاعلات الاجتماعية والسياسية، إذ لجأت الحكومات السودانية المتعاقبة إلى توظيف البنية القبلية لتعزيز سلطتها على الأرض وضمان ولاء المجتمعات المحلية.

ومع تصاعد النزاعات الداخلية في السودان، مثل الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وحروب دارفور وجبال النوبة، برزت القبيلة كعامل تقسيمي تم توظيفه لتمزيق وحدة المجتمع السوداني، حيث استخدمت أطراف النزاع خطابًا يستند إلى النزعة القبلية لشرعنة العنف والتجنيد في صفوف الميليشيات المحلية.

ثانياً: مظاهر الاستغلال السياسي للنزعة القبلية في السودان

يمكن رصد مظاهر الاستغلال السياسي للنزعة القبلية في السودان من خلال عدة مستويات:

1. التعبئة السياسية القبلية: في الكثير من الأحزاب السياسية السودانية، يتم الاعتماد على القاعدة القبلية كركيزة للتعبئة السياسية. حيث تستند بعض الأحزاب إلى القيادات القبلية لتأمين قاعدة شعبية، كما يتم منح زعماء القبائل امتيازات سياسية واجتماعية لضمان ولائهم.

2. الخطاب السياسي القائم على الهُوية القبلية: تعمد القوى السياسية إلى توظيف الخطاب القائم على الهُوية القبلية، عبر تصوير الصراع السياسي كصراع بين القبائل والمجموعات الإثنية، مما يؤدي إلى تقسيم المجتمع إلى مجموعات متناحرة. على سبيل المثال، تم تصوير الصراع في دارفور كصراع بين العرب وغير العرب، رغم أن جذوره كانت سياسية بالأساس، متعلقة بالتهميش الاقتصادي والتنموي.

3. التوظيف العسكري للقبائل: خلال النزاعات المسلحة في السودان، لجأت الحكومات والميليشيات المحلية إلى تجنيد أفراد القبائل وتشكيل ميليشيات مسلحة على أسس قبلية، مثل ميليشيات "الجنجويد" التي جندتها الحكومة في حرب دارفور. هذا التوظيف العسكري للنزعة القبلية ساهم في تعميق العداوات بين القبائل، وأدى إلى خلق نزاعات ثأرية يصعب حلها حتى بعد انتهاء النزاع المسلح.

4. إعادة إنتاج الهُويات الإثنية في النزاعات السياسية: يتم توظيف الهُويات الإثنية في النزاعات السياسية، حيث تُصوَّر مطالب بعض المناطق بالتنمية والخدمات على أنها مطالب قبلية أو إثنية، مما يعرقل أي إمكانية لبناء توافق سياسي حقيقي، ويعزز من صورة الآخر كعدو دائم.

ثالثاً: الآثار المدمرة للاستغلال السياسي للنزعة القبلية

يترتب على الاستغلال السياسي للنزعة القبلية العديد من الآثار السلبية، أبرزها:

1. تفكيك النسيج الاجتماعي: يؤدي الاستغلال السياسي للنزعة القبلية إلى تعميق الانقسامات داخل المجتمع، وتفكيك الروابط الاجتماعية، مما يسهم في إضعاف التماسك الاجتماعي، وظهور النزاعات بين القبائل والمجموعات الإثنية.

2. إضعاف الدولة الوطنية: يُضعف الاستغلال السياسي للنزعة القبلية من قدرة الدولة على بسط سيطرتها وسلطتها على كامل أراضيها، حيث يتم تشجيع الولاءات القبلية على حساب الولاء للدولة، مما يؤدي إلى نشوء كيانات موازية تمتلك سلطتها الخاصة وتتحدى سلطة الدولة.

3. استدامة الصراعات والنزاعات المسلحة: يسهم الاستغلال السياسي للنزعة القبلية في استدامة النزاعات المسلحة، حيث يصعب تحقيق سلام دائم إذا كانت الهُويات القبلية هي الموجه الأساسي للنزاع. فحتى في حال توقيع اتفاقيات سلام، تبقى التوترات القبلية قائمة وتتفجر بسهولة.

4. إعاقة التنمية والتطور الاجتماعي: يعطل هذا الاستغلال السياسي التنمية الاجتماعية والاقتصادية، حيث يتم تحويل الموارد العامة لصالح مجموعات قبلية معينة على حساب الأخرى، مما يؤدي إلى تفاقم الفجوة الاقتصادية، ويزيد من الشعور بالتهميش والغبن الاجتماعي.

رابعاً: ضرورة الوعي بخطورة الاستغلال السياسي للنزعة القبلية

إن الوعي بخطورة الاستغلال السياسي للنزعة القبلية يمثل الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع متماسك ودولة وطنية قوية. ويتطلب ذلك تبني سياسات متعددة الجوانب تهدف إلى:

1. تعزيز الهوية الوطنية الجامعة: ينبغي العمل على ترسيخ الهوية الوطنية الجامعة التي تتجاوز الانتماءات القبلية والإثنية، وذلك من خلال صياغة خطاب سياسي وثقافي يُعلي من شأن المواطنة كهوية رئيسية، والترويج لفكرة الوحدة في التنوع.

2. تحييد دور القبيلة في السياسة: يجب العمل على تحييد دور القبيلة في العملية السياسية، وذلك عبر وضع قوانين تحظر التوظيف السياسي للقبائل، وتشجع على الانتماء السياسي القائم على البرامج والسياسات بدلاً من الهُويات القبلية.

3. إصلاح النظام الفيدرالي: من المهم إعادة النظر في النظام الفيدرالي في السودان بحيث يتم تصميمه بشكل يحقق التنمية المتوازنة لكافة الأقاليم، دون أن يكون هذا النظام وسيلة لترسيخ النفوذ القبلي على حساب الولاء للدولة.

4. تعزيز التنمية المتوازنة: لا يمكن القضاء على النزعة القبلية إلا من خلال معالجة جذور التهميش الاقتصادي والتنموي، لذلك ينبغي تبني خطط تنموية شاملة تستهدف جميع المناطق المهمشة، وتعمل على تقليص الفجوات التنموية بين الأقاليم.

5. التوعية المجتمعية: ينبغي إطلاق حملات توعية مجتمعية لشرح مخاطر الاستغلال السياسي للنزعة القبلية، وتشجيع الشباب على الانخراط في نشاطات مدنية تسهم في تعزيز التماسك الاجتماعي

يعد الاستغلال السياسي للنزعة القبلية من أكبر التحديات التي تواجه بناء دولة وطنية قوية ومستقرة في السودان. ولا يمكن التصدي لهذه الظاهرة إلا من خلال استراتيجية شاملة تتبنى نهجًا متعدد الجوانب يشمل الإصلاح السياسي، والتنمية المتوازنة، وتعزيز الهوية الوطنية، وإرساء مبدأ المواطنة. هذا يتطلب إرادة سياسية قوية، ومشاركة مجتمعية واسعة، إضافة إلى دعم من المجتمع الدولي لضمان تطبيق هذه السياسات بفعالية، وتفادي الوقوع في فخ الاستغلال السياسي للنزعة القبلية الذي يؤدي حتمًا إلى تمزيق الدول وإضعاف المجتمعات.

hishamosman315@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الهویة الوطنیة من خلال

إقرأ أيضاً:

كيف يساهم حزب الجبهة الوطنية في عمل توازن للحياة السياسية؟ تفاصيل

الحياة الحزبية في مصر تحتاج إلى مزيد من الزخم، والتعددية الحزبية ترفع من كفاءة الحياة الحزبية والسياسية، ووجود حزب الجبهة الوطنية هدفه تحريك للحياة الحزبية والسياسية وبعد تأسيس حزب الجبهة كان هناك نوع من الزخم وهذا لا يقلل من جهد زملائنا في الأحزاب الأخرى.

ونرصد في هذا التقرير أبرز تصريحات السيد القصير، أمين عام حزب الجهبة الوطنية، عن مشاركة الحزب في الحياة الحزبية والسياسية والانتخابات البرلمانية.

حزب لا موالاة ولا معارضة

في البداية، قال السيد القصير، أمين حزب الجبهة الوطنية، إننا حزب لا موالاة ولا معارضة، ندعم الدولة المصرية والمواطن والقيادة السياسية.

حزب الجبهة الوطنية: نخوض انتخابات النواب عبر المنافسة على نحو 38 مقعدا"الجبهة الوطنية" يؤكد نزاهة وشفافية انتخابات مجلس النواب 2025

وأضاف السيد القصير، في برنامج "الحياة اليوم" على قناة "الحياة"، حزب الجبهة الوطنية يراقب الحكومة ويتابع الأثر للقراءات، فعندما يكون هناك قرار لا يتفق مع مصلحة الوطن والمواطن نعترض عليه ونقدم الحلول القابلة للتطبيق.

وأشار إلى أن الحلول القابلة للتطبيق يكون من قيادات ذوي خبرة داخل الحزب، حتى تستخدم الأدوات البرلمانية وفقا للإمكانيات المتاحة.

وأكد أن كوادر حزب الجبهة الوطنية سيقدروا على صناعة الفارق وتقديم الدعم والمساعدة للنواب حتى يتحدثوا في مجلس النواب بصورة واقعية.

وأوضح أننا هدفنا المشاركة لا المغالبة، بالعبرة ليست بالأعداد ولكن بالكفاءة، واخترنا مرشحينا وفقا لمعايير النزاهة والشعبية.

الفرق بين عمل الوزير والسياسي

كما أجاب السيد القصير، أمين حزب الجبهة الوطنية، على سؤال الإعلامي محمد مصطفى شردي، الذي وجهه إليه قائلا: ايه الفرق بين منصب الوزير ومنصب السياسي؟

وقال السيد القصير، في برنامج "الحياة اليوم" على قناة "الحياة"، إن كل مرحلة لها متطلباتها ولابد معايشة الوضع القائم، فأي إنسان يخلص في عمله ويتعامل بشرف ويدرس وضعه صح لابد النتائج تكون كويسة.

وتابع: لما كنا في القطاع المصرفي تميزنا وشاركنا في إعادة هيكلة البنوك ووضع استراتيجيات جديدة، بعدما انتقلنا إلى وزارة الزراعة فهذه المهمة كانت محتاجة النظر إلى هذه الوزارة بشكل اقتصادي، ودخلنا في ملفات كثيرة مرتبطة بالأمن الغذائي وغيرها.

وأشار إلى أنه يجب دراسة الوضع الحالي وأبعاد المشاكل وكيفية تقديم الحلول لأن المعارضة سهلة والصعب هو تقديم حلول وأفكار وتكون هذه الحلول والأفكار قابلة للتطبيق وتتفق مع المعطيات المتاحة.

وأضاف أننا لما انتقلنا إلى العمل السياسي والذي له أسلوب آخر مختلف تماما، فالعمل التنفيذي تتعامل من موقف مسئول رسمي تتحمل المسئولية، والعمل السياسي تنتقل إلى الدور الرقابي والتشريعي، والنزول إلى الشارع والتفاعل مع كل فئات المجتمع لتأسيس حزب من نبض الشارع.

وأكد أن الحياة الحزبية في مصر تحتاج إلى مزيد من الزخم،والتعددية الحزبية ترفع من كفاءة الحياة الحزبية والسياسية، ووجودنا هدفه تحريك للحياة الحزبية والسياسية وبعد تأسيس حزب الجبهة كان هناك نوع من الزخم وهذا لا يقلل من جهد زملائنا في الأحزاب الأخرى.

وأوضح أن المنافسة بين الأحزاب تكون على مشروع وطن ودعم مصر، فالدولة المصرية فوق كل اعتبار، فنحن نتنافس على خدمة الوطن وليس على المقاعد والمناصب.

المشاركة في انتخابات مجلس النواب

وقال السيد القصير، أمين عام حزب الجبهة الوطنية، إن لدينا 43 مرشح في القائمة الوطنية و45 مرشح على المقاعد الفردية ولدينا قيادات محترمة اعتذرت عن خوض الانتخابات، منوها أن جميع المحافظات ممثلة لدينا سواء في المقاعد الفردية أو القائمة.

وأضاف القصير، في لقائه ببرنامج "الحياة اليوم" على قناة "الحياة"، أن العمل الحزبي ليس بالضرورة أن تكون نائب ولكن أن تكون في العضوية والأمانات وتقدم أعمال وخطط ومقترحات، وأقول للناخبين "اختاروا المرشح الذي له تاريخ وخبرة ونجاحاته في تحقيق الإنجازات وكذلك المرشح الذي له حزب قوي يدعمه في طلبات الإحاطة والموضوعات التي يناقشها في مجلس النواب.

نأمل في تقديم نموذج يتكاتف مع الأحزاب الأخرى لأن التحديات كثيرة، والدولة مفتوحة للجميع، ونقدم شكر كبير لوزارة الداخلية لتأمين لجان الانتخابات وتأمين مؤتمرات المرشحين والأحزاب.

شئ طبيعي حدوث مناوشات ولا ترقى إلى مستوى الظاهرة أو التأثير على العملية الانتخابية، لأن كل مرشح له مؤيديه ومحبيه وأنصاره، ولذلك فتحت الهيئة الوطنية باب تقديم الطعون في حالة وجود خروقات أثناء الانتخابات

أقول للمواطنين بأهمية النزول والمشاركة في الانتخابات للمساهمة في بناء البلد وصناعة المستقبل وعلينا جميعا المساهمة ونتحلى بالإيجابية ونتخلى عن السلبية.

طباعة شارك حزب الجبهة الوطنية الأحزاب انتخابات مجلس النواب الانتخابات مجلس النواب العملية الانتخابية

مقالات مشابهة

  • السودان.. ثروات لا تزال تقف على رصيف الاستغلال
  • العالم العربي وتحدي الهوية الوطنية
  • “”الشؤون الإسلامية” تنظم النسخة الثالثة من المسابقة الوطنية الكبرى لحفظ القرآن الكريم في سريلانكا
  • نواب يشيدون بجهود الدولة في بناء الإنسان: تعكس اهتمام القيادة السياسية بتحقيق التنمية الشاملة.. وترسيخ الهوية الوطنية والصحة والتعليم أولوية
  • بركان يخضع لعملية جراحية ناجحة ويطمئن أنصار “السياسي”
  • “اغاثي الملك سلمان” يوزّع (1,514) سلة غذائية في السودان
  • “حماس” تطالب المجتمع الدولي بوقف معاناة السكان في غزة
  • الجراح: التثقيف السياسي يجب أن يبدأ من المدارس لتحقيق عمل وطني متكامل
  • رئيس الدولة يكرم 10 شخصيات بـ”جائزة أبوظبي” في الذكرى الـ20 لانطلاقها تزامنا مع عام المجتمع
  • كيف يساهم حزب الجبهة الوطنية في عمل توازن للحياة السياسية؟ تفاصيل