عندما تصوغ القيم مسار السياسة: تزدهر الأوطان تحت رعاية العدالة والوفاء
تاريخ النشر: 11th, October 2024 GMT
د. الهادي عبدالله أبوضفآئر
في صباح مشرق، تتراقص نسائم الفرح كحنين يداعب القلوب، تبحر الكلمات بين حزن، وألم وبهجة. اليوم، في لحظة من الانتصارات، نحتفل ببسالة جيشنا وبطولات المشتركة والمستنفرين، وبجهود القوات المساندة والمقاومة الشعبية التي أظهرت شجاعةً وإرادةً لا تلين وعزيمة لا تُقهر. وفي هذا المشهد العظيم، تنهمر الدموع من عيون تفيض فرحاً كان محجوباً خلف أسوار الصبر.
رحلة كانت أشبه بدخول عالم خيالي؛ مدن تغمرها الخضرة وتنساب فيها المياه بهدوء، حيث الجبال تعانق السماء في مشهد مهيب. كل زاوية تحمل تفاصيل آسرة. لفتت انتباهي نساء يرتدين أزياء خفيفة، تنسدل بلطف فوق الركبة، يعكسن بتلك خفة الأيام الصيفية الدافئة، وجمال التفاصيل البسيطة التي تهمس بالرقة والأنوثة. في كل نظرة، نوع من الحرية التي لا يمكن تجاهلها، وكأنما يحملن في خطواتهن قصصا لا تروى إلا عبر لغة العيون والأنفاس المتسارعة. ولكن ما أثار إعجابي أكثر سلوك الناس؛ لا تحرش، لا ألفاظ نابية، ولا تصرفات غير لائقة. الشوارع هادئة وكأن المدينة تهمس: “نعيش هنا بسلام”. شعرت بأن الحضارة والاحترام يسودان، وكأن الناس اتفقوا مع الطبيعة على العيش بتناغم. ما أثلج صدري منظر الأنهار المتدفقة بين الغابات، والأشجار الضخمة التي تضفي على المكان طاقة حية. وسط هذا الجمال، غمرني شوق عارم إلى بلدي، وكأن الحنين تسلل في غفلة, تذكرت شارع النيل. تخيلت ستات الشاي على الأرصفة، وعلى الجانب الآخر، زول مصنقر على بنبر، يرتدي عراقي وسروال. قلت في داخلي بزهو (كولايتك وَلا تَقَلِيَّة أخيْتَك) وبدأت أدندن بأغنية (يلا نمشي شارع النيل)، ولكن سرعان ما عدت إلى رشدي، وكأنني أنتقل بين العوالم في لحظات، فإذا بي أجد نفسي أمام التماثيل التقليدية التي تزين المكان، تعكس حضارة الشعب الصيني العريقة، لم أر أحداً يتجول بملابس رثة، ولا مجنوناً يهيم في الطرقات، ولا شحاداً يبحث عن قوت يومه. ولا تاتشرات تجوب الشوارع، ولا أزير رصاص. أدركت أن الأوطان تبنى بالأفعال الصادقة، وبالأخلاق حتى تتحول إلى واقع ملموس. هنا وجدت المعنى الحقيقي للعيش الكريم، حيث تتآلف القيم مع السلوك، وتتجلى الحضارة في حياة الناس اليومية.
جلست في زوايا هادئة اراقب القطارات التي تنساب بسلاسة عبر الأنفاق وسط الجبال، وتلك الجامعات العريقة التي تتنافس على الصدارة عالمياً، مدناً خالية من أوبئة الملاريا والبلهارسيا، وطرقات تمتد بلا تعرجات أو مطبات، كأنها مرسومة بعناية لتقود إلى وجهة محددة. كل شيء كان يسير بنظام دقيق ومنضبط، وكأن هناك عهداً غير مكتوب بين الإنسان والطبيعة، للحفاظ على توازن الكون. فكل فعل من أحدهما يولد صدى في الآخر، وكل اختلال في هذا التناغم يشعل اضطراباً لا يُرى إلا في خفق الرياح أو هدوء السماء. وفي خضم هذا التأمل، وجدت نفسي أفكر في أناس نصنفهم، في عقولنا وثقافتنا، بأنهم “كفار”. كيف أنهم برغم غياب الإيمان الذي نتشبث به، بنوا أوطاناً تقوم على النظام، والعلم، والالتزام. تساءلت: كيف استطاعوا أن يحققوا هذا القدر من التقدم والرقي؟ كيف يمكن لأمة نعتبرها بعيدة عن الله، أن تسير في طريق منضبط وتحقق هذا القدر من التطور والازدهار؟ ربما نحن بحاجة إلى إعادة النظر في تصنيفاتنا الضيقة، وفي فهمنا لمعنى التدين الحقيقي. فالعمل والإخلاص في بناء الأوطان، والالتزام بالقيم الإنسانية السامية، قد يكونان في بعض الأحيان أكثر قداسة من مجرد الطقوس يُمارس في لحظات محددة.
انتابني شعور عميق، تذكرت وطني والسكك الحديدية التي كانت رمزاً للتقدم، والتي أصبحت اليوم أطلالاً منهارة. والطرقات التي كانت تربط المدن، باتت مقطعة ومليئة بالحفر والمطبات، بينما التعدين العشوائي يُدمّر الأرض بلا ضوابط، والمستشفيات تعاني من نقص الرعاية والكفاءة. الجامعات التي كانت منارات للعلم أغلقت أبوابها وغابت عن المشهد التعليمي. في الأفق، تتجول المركبات المسلحة والتاتشرات المدججة بالمدافع، وأصوات الرصاص تعلو فوق صوت الحياة. عادت بي الذاكرة إلى صورة القداسة والتدين، التي تحمل في نفوسنا معاني السمو والإيمان العميق. ومع ذلك، نشهد انفصالاً واضحاً بين السلوك والواقع. كيف نرى التدين في أبهى صوره بينما تظل شوارعنا تعاني من الفوضى ومؤسساتنا تتهاوى؟ نعيش تباعداً متزايداً بين القيم والأخلاق التي يُفترض أن تكون جوهر الدين. حيث يمارس الأفراد الطقوس بانتظام، لكن السؤال المحير هو: أين تأثيرها في حياتنا اليومية؟ هل تجسد تلك القيم الروحية في تعاملاتنا مع الآخر؟ هل أصبحت الصلاة، التي يجب أن تكون مصدراً للسلام الداخلي والتعايش الاجتماعي، مجرد شعور عابر ينتهي بانتهاء الركعة الأخيرة؟ هذا التناقض بين العبادة والسلوك يطرح سؤالاً عميقاً حول معنى التدين الحقيقي. إن لم تُترجم العبادة إلى أفعال تسهم في بناء الإنسان والمجتمع، فما جدواها؟ التدين ليس طقوساً، بل سلوك ينبثق من قناعة راسخة يجب أن يظهر في تفاصيل الحياة. العبادة، إن كانت صادقة، يجب أن تكون باعثاً للسمو الأخلاقي، لا ممارسة شكلية. الدين القيم هو الذي يُترجم إلى أفعال تعكس مكارم الأخلاق، حيث يصبح الإنسان نموذجاً حياً لقيمه ومبادئه. يشكل جوهره ويتجلى في علاقته بالآخرين.
في عالم طغت فيه المظاهر والطقوس الشكلية على القيم، قُتلت الحقيقة، واغتيلت الأمانة، وسُلب الشرف، وسُرقت الحرية. أصبحت الأخلاق جريمة مكتملة الأركان، وتباعد جوهر الدين عن أفعالنا وسلوكياتنا اليومية. فالدين ليس طقوساً خاوية أو تقاليد موروثة، بل هو منبع للقيم السامية كالصدق، التسامح، والعدل، التي تشكل الأساس لبناء مجتمع أكثر عدالة وإنسانية. عندما نضع (كلنكاب) اي حداً يفصل الدين عن الأخلاق، نفقد جوهر الدين الحقيقي، وتتحول الشعائر إلى مجرد مظاهر فارغة. ونتيجة لهذا الفصام، نجد أنفسنا غارقين في حروب ونزاعات مستدامة، هي في جوهرها انعكاس لصراعات عميقة ومعقدة. مواجهة هذه الأزمات تتطلب رؤية استراتيجية بعيدة المدى وحواراً قائماً على الشفافية والشراكة. الحكمة تكمن في تحويل هذه التحديات إلى فرص، عبر حلول مبتكرة ترتكز على القيم والأخلاق والعمل المشترك. بهذه الروح، يمكننا إعادة بناء الثقة، وتحقيق تنمية شاملة وعدالة مستدامة، تضمن مستقبلاً أكثر استقراراً يلبي تطلعات الجميع.
abudafair@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: یجب أن
إقرأ أيضاً:
في متاهة السياسة: مسؤولية الكتابة في عالم منقسم
محمد أنور البلوشي
"لا أرى لك أي كتابة سياسية"، قال لي أحد أصدقائي. "إنِّه مجال جيِّد للكتابة عن السياسة العالمية وما يحدث في العالم على الصعيد السياسي"، أضاف. ظلت كلماته عالقة في ذهني، وأثارت نقاشًا داخليًا هادئًا. هل يجب أن أخوض غمار هذا المجال المليء بالتحديات؟ هل يمكنني فك تعقيدات الأيديولوجيات وصراعات القوى والتحولات المجتمعية باستخدام الكلمات فقط؟
الكتابة عن السياسة وإبداء الآراء فيها هي مُهمة معقدة. من أين يجب أن أبدأ؟ هل أبدأ بالحرب العالمية الأولى عام 1914، التي يُشار إليها غالبًا بأنَّها "الحرب لإنهاء كل الحروب"، مستعرضًا الخسائر المأساوية لملايين الأرواح؟ أم ربما يجب أن أتحدث عن الحرب العالمية الثانية التي انتهت عام 1945، وأعادت تشكيل النظام العالمي في أعقابها؟ كلا النزاعين تركا آثارًا لا تُمحى في التاريخ، وساهما في تشكيل الأنظمة السياسية التي نتعامل معها اليوم. ومع ذلك، فإنَّ الكتابة عن هذه الأحداث الضخمة تتطلب ليس فقط دقة تاريخية، بل فهمًا عميقًا لآثارها طويلة المدى.
السياسة تؤثر في كل جانب من جوانب الحياة البشرية، من الحكم إلى القيم المجتمعية وتوزيع الموارد بشكل عادل (أو غير عادل). عندما تُترك السياسة في أيدي سياسيين غير ناضجين أو قصيري النظر، تكون العواقب وخيمة. التاريخ مليء بأمثلة على سوء الإدارة السياسية الذي أدى إلى الحروب والأزمات الاقتصادية والمُعاناة الواسعة.
توماس هوبز، في كتابه الكلاسيكي "الليفياثان" (1651)، جادل بأن السلطة المركزية القوية هي الوحيدة القادرة على منع الفوضى والاضطراب، وهي حالة سماها "حرب الجميع ضد الجميع". في المقابل، دافع جون لوك عن الحرية الفردية والحكم من خلال الاتفاق المتبادل، مشددًا على أهمية تحقيق التوازن بين السلطة والحرية. عندما يختل هذا التوازن، تكون النتائج كارثية.
السياسة لا يمكنها ولا ينبغي لها أن تعمل فقط على أساس عاطفي. القادة الذين يستغلون مشاعر العامة لحشد الدعم غالبًا ما يتجاهلون الإصلاحات الهيكلية اللازمة للتقدم الحقيقي. نيكولو مكيافيلي، في كتابه "الأمير" (1513)، أشار بشكل مُثير للجدل إلى أنَّ النجاح في الحكم يتطلب في كثير من الأحيان البراغماتية بدلًا من الأخلاق.
وبينما تعتبر وجهة نظره مثيرة للانقسام، فإنها تسلط الضوء على مخاطر القيادة التي تركز على العواطف فقط. الكتابة عن السياسة تتطلب تمييزًا مشابهًا؛ يجب على الكاتب أن يتعامل مع الموضوع بوضوح بعيدًا عن التحيز الشخصي، وأن يركز على تعزيز الحوار البناء.
واحدة من أكبر التحديات في الكتابة السياسية هي ضمان دقة المعلومات. على سبيل المثال، انظر إلى النزاع الحالي بين روسيا وأوكرانيا الذي بدأ في فبراير 2022. تغطية وسائل الإعلام، المتأثرة بالتحيزات الوطنية والأيديولوجية، غالبًا ما تقدم روايات متضاربة. ككاتب، يجب أن يتصارع المرء مع هذه التناقضات، وأن يشكك في موثوقية المصادر، وأن يسعى لتقديم رؤية متوازنة.
وبالمثل، فإن حرب الخليج 1990-1991، التي بدأت بغزو العراق للكويت، تظل موضوعًا مثيرًا للجدل. وبينما تم تأطيرها كدفاع عن السيادة والنظام الدولي، أشار نقاد مثل نعوم تشومسكي إلى الدوافع الجيوسياسية والاقتصادية الكامنة، وخاصة حماية مصالح النفط. الكتابة عن مثل هذه الأحداث تتطلب ليس فقط معرفة تاريخية، بل أيضًا فهمًا لديناميكيات القوة المعقدة.
تقديم رأي سياسي يحمل مسؤولية كبيرة. الأمر لا يقتصر على مشاركة الأفكار، بل يشمل التفكير في تأثيرها المحتمل. الكلمات لديها القدرة على إلهام التغيير أو إشعال الصراع. يجب على الكاتب أن يتوقع تداعيات عمله، وأن يضمن أن يُسهم في حل القضايا بدلًا من تفاقمها.
نظرية العمل التواصلي ليورغن هابرماس تؤكد على أهمية الحوار الذي يهدف إلى الفهم المتبادل. هذا المبدأ ذو أهمية خاصة للكتاب السياسيين، الذين يجب أن يضمنوا أن عملهم يبني جسورًا بدلًا من توسيع الفجوات.
الكتابة عن السياسة تتطلب المُساءلة. يجب على الكاتب أن يرتفع فوق الإثارة، ويرفض إغراء تبسيط القضايا المعقدة. بدلًا من ذلك، يجب التركيز على تقديم تحليلات متوازنة تشجع القراء على التفكير النقدي. الهدف لا ينبغي أن يكون الإقناع، بل الإضاءة، وتزويد القراء بالأدوات اللازمة لتشكيل آرائهم المستنيرة.
السياسة العالمية هي موضوع واسع وصعب؛ سواء كنَّا نتحدث عن أحداث تاريخية مثل الحروب العالمية أو قضايا معاصرة مثل الصراع الروسي الأوكراني، فإنَّ الكاتب يتحمل عبء المسؤولية الثقيلة. الهدف يجب ألا يكون مجرد سرد الأحداث، بل الغوص في الأسباب والنتائج الكامنة، واستخلاص الدروس التي يمكن أن توجه العمل في المستقبل.
الفلاسفة السياسيون مثل هوبز ولوك ومكيافيلي وهابرماس يقدمون أطرًا قيمة لفهم الحكم والقيادة. أفكارهم تذكرنا بتعقيد السياسة والحاجة إلى مناهج متوازنة ومدروسة. الكتابة عن السياسة، إذن، ليست مجرد تفاعل مع الأحداث الجارية؛ إنها تتعلق بفهم الحالة الإنسانية والأنظمة التي ننشئها لحكم أنفسنا. إنها تتعلق بالسعي وراء الحقيقة، وتعزيز الحوار، والبحث عن حلول تؤدي إلى عالم أكثر عدلًا وإنصافًا.
في النهاية، الكتابة عن السياسة هي فعل مسؤولية وشجاعة. إنها التزام بالتنقل في المياه المظلمة للحكم والأيديولوجيا والسلوك البشري. إنها تتعلق بطرح الأسئلة، والبحث عن الإجابات، واستخدام قوة الكلمات للمُساهمة في مجتمع أفضل وأكثر وعيًا.