العودة إلى خرافة الشرق الأوسط الجديد!
تاريخ النشر: 11th, October 2024 GMT
نشر شمعون بيريز سنة 1992 كتابا بعنوان “الشرق الأوسط الجديد”، وكان يومها وزيرا للخارجية الإسرائيلي، تحدث فيه عن مفاوضات السلام التي بدأت في مدريد نهاية عام 1991، والتي أفضت إلى اتفاقية أوسلو عام 1993؛ أي بعد صدور الكتاب. وعن الآفاق التي سيفتحها الشرق الأوسط الجديد الذي سينقل المنطقة من الحرب إلى السلام، وتكون فيه إسرائيل المحركة والموجهة والقائدة، وعن دورها في ضمان أمن المنطقة وازدهارها واستقرارها، واستقرار أنظمتها “غير الديمقراطية”!
ولم ينس بيريز الحديث عن “الأصولية الإسلامية” التي تسعى لإقامة جمهورية إسلامية سلطوية قمعية على النمط الإيراني، وأن هذه الأصولية “تشق طريقها سريعا وعميقا في كل بلد عربي في الشرق الأوسط مهددة بذلك السلام الإقليمي، ناهيك عن استقرار حكومات بعينها”.
وبالتالي ثمة ضرورة لإقامة نظام إقليمي للرقابة والرصد، ذلك لأن مفهوم “العمق الاستراتيجي” لم يعد له معنى في ظل وجود الصواريخ بعيدة المدى وأسلحة الدمار الشامل.
هذه المقدمات وغيرها كانت نتيجتها أن “المشكلة الفلسطينية” كما يسميها، التي كانت تشكل القضية الأساسية في الصراع العربي الإسرائيلي لم تعد موجود “الآن”، وأن القضية المركزية اليوم هي “التهديد النووي” الإيراني الممزوج بالأيديولوجيا المتطرفة!
في الفصل السادس من الكتاب المعنون “من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلام” والفصول التي بعده، يرى بيريز أن إسرائيل وجيرانها “العرب”، يمكنهم تقديم نموذج من التعاون يتجاوز نموذج الاتحاد الأوروبي، وهو ما سيمكَن دول الشرق الأوسط من صنع واقع أفضل لشعوبها وبناء مستقبل مشرق ومواجهة التحديات بكفاءة أكبر!
أما عن حل الدولتين، الذي سيوقع عليه رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين بعد سنة واحدة من نشر الكتاب، فهو في عرف بيريز ليس قضية جوهرية، بل يمكن ضم الأراضي التي تسكنها الكتلة الأكبر من الفلسطينيين إلى الأردن، وأنه بقيام “كونفدرالية أردنية فلسطينية” فإن الجيش الكونفدرالي يمكن أن يتركز شرقي النهر، ونزع سلاح الضفة الغربية مما يسمح لإسرائيل بإظهار ردة فعل منطقية للادعاءات الإقليمية”!
لكن اسحاق رابين نفسه اغتيل عام 1995 على يد “التطرف اليهودي” وليس الإسلامي، وهيمن المتطرفون اليهود على القرار السياسي في إسرائيل ولا يزالون. وإسرائيل نفسها لم تعد تعترف باتفاقية أوسلو، ونجحت في إفراغها من محتواها، ونتنياهو نفسه قال بصريح العبارة إن الاتفاقية كانت “خطأ فادحا” لن يتكرر!
في حزيران/ يونيو 2019 طرحت الإدارة الأمريكية، في ورشة عقدت في المنامة، خطة بعنوان «رؤية جديدة للشعب الفلسطيني والشرق الأوسط الكبير»، وحددت هدفها بـ «تمكين الشعب الفلسطيني من بناء مجتمع فلسطيني مزدهر وحيوي»، وتكونت هذه الخطة من ثلاث مبادرات لدعم الركائز الثلاث للمجتمع الفلسطيني، وهي: الاقتصاد، الشعب، والحكومة. وتصف الخطة نفسها بأنها تفتح فصلاً جديداً من التاريخ الفلسطيني لا علاقة له بتاريخ المحن والخسارات السابق.
هدف هذه الخطة الرئيسي هو تكريس الأمر الواقع القائم المتمثل بالاحتلال
ومن الواضح من خلال قراءة الخطة، وبعيداً عن التنميق اللفظي والتلاعب بالكلمات، فإن هدف هذه الخطة الرئيسي هو تكريس الأمر الواقع القائم، المتمثل بالاحتلال، مع محاولة تحسين أوضاع الفلسطيني اجتماعيا واقتصاديا!
كان هذا بعد قرار ترامب بإنفاذ وعده في الحملة الانتخابية بنقل سفارة الولايات المتحدة الأمريكية إلى القدس، والذي وقَع عليه في كانون الأول/ ديسمبر 2017، إنفاذا لقانون كان الكونغرس الأمريكي قد أصدره عام 1990 الذي تضمن أيضا فقرة تقرر أن المدينة يجب أن تظل موحدة!
اليوم يحاول الإسرائيليون إعادة تسويق مقولة “الشرق الأوسط الجديد”، ففي خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال نتنياهو إن بلاده تقترب من توقيع اتفاقية سلام مع السعودية، وأن الاتفاقات الإبراهيمية مثلت “نقطة تحول تاريخية”، وأن بلاده تتقاسم مع دول عربية بعينها العديد من المصالح، وهو ما سيخلق شرقا أوسط جديدا! مذكرا بالفكرة التي يعدها “خاطئة” والتي يتبناها العرب وهي أن لا إمكانية للتطبيع مع إسرائيل دون إبرام اتفاق سلام مع الفلسطينيين.
ويرى، على العكس من ذلك، أن التطبيع هو الذي يزيد من “احتمال” تحقيق هكذا سلام، فالعربة في رأيه “يمكن” أن تجر الحصان في النهاية، ولا بأس من تجربتها إلى أن تثبت نجاحها!
تلقف “العقلانيون والواقعيون العرب المفترضون” هذه الفكرة، ويحاولون اليوم إعادة تسويقها، في سياق افتراضاتهم المسبقة حول تداعيات الحرب على غزة ولبنان، وفي سياق المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، انطلاقا من مقدمة وهمية مفادها أن إسرائيل قد حسمت الحرب لصالحها، وأن من حقها أن تعيد تشكيل المنطقة بوصفها المنتصر.
وأن على الآخرين اللحاق وركوب قطار الشرق الأوسط الجديد قبل فوات الأوان، مع إيمان يقيني بأن هذا هو الحل العقلاني والواقعي الوحيد الذي “يمكن” أن ينتج في النهاية “دولة فلسطينية”، وفقا لعلاقات القوة، ووفقا لما يقرره الإسرائيليون وحدهم، بعيدا عن النقاش “العاطفي” حول خرافات الحق والقرارات الدولية ذات الصلة المتعلقة بحدود هذه “الدولة” أو ولايتها أو لاجئيها!
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ثمة خطاب منهجي يسوًقه هؤلاء “العقلانيون والواقعيون المفترضون” بأن “طوفان الأقصى” لم يكن مجرد خطيئة ارتكبتها حماس، أو بتشخيص أدق، ارتكبها السنوار ومحمد ضيف، بل كانت فعلا كارثيا دمر غزة، بل ودمر فكرة القضية الفلسطينية كلها. وهم يقولون صراحة إنه كان على الفلسطينيين أن يقبلوا بالوضع القائم، ويتعايشون مع الاحتلال، ربما إلى الأبد!
في استطلاع للرأي العام الفلسطيني أنجزه مركز العالم العربي للبحوث والتنمية “أوراد”، ونشر الشهر الماضي، انقسمت الآراء بين الشعب الفلسطيني حول عملية طوفان الأقصى، فكانت نسبة 46% من المستطلعين مؤيدة للعملية (26% مؤيدين بشدة، و20% مؤيدين إلى حد ما)، في مقابل 45 % معارضة للعملية (29% معارضين بشدة، و16% معارضة إلى حد ما)، وكما هو واضح تبدو نسبة المؤيدين أعلى، ولو بنسبة ضئيلة، من نسبة المعترضين، وليس من حق أحد، بمن فيهم العقلانيون والواقعيون المفترضون مصادرة الرأي الفلسطيني وفقا لتحيزاته وأوهامه!
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الشرق الأوسط الإيراني غزة الاحتلال إيران الشرق الأوسط غزة بيروت الاحتلال مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة تكنولوجيا سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشرق الأوسط الجدید
إقرأ أيضاً:
التغييرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط بين المد والجزر
#سواليف
#التغييرات_الجيوسياسية في #الشرق_الأوسط بين المد والجزر
د. #هشام_عوكل، أستاذ إدارة الأزمات والعلاقات الدولي
منذ بداية الأحداث الجيوسياسية في المنطقة والتحولات كبرى في سوريا في اسقاط نظام بشار الاسد كان “محور المقاومة” يشكل أحد الأعمدة الرئيسية في الاستراتيجيات الإقليمية لمواجهة النفوذ الغربي والصهيوني. هذا المحور، الذي جمع مجموعة من الدول والفصائل المناهضة للولايات المتحدة وإسرائيل، كان بمثابة حجر الزاوية في استراتيجية إيران لتوسيع نفوذها في المنطقة. إلا أن هذا المحور بدأ يشهد تغيرات كبيرة، حيث توالت العوامل التي ساهمت في استنزافه.
مقالات ذات صلة 13 ألف طالب استُشهدوا و 490 مدرسة وجامعة دمرت منذ بداية العدوان على غزة والضفة 2024/12/31في البداية، كانت لبنان وسوريا والعراق واليمن تشكل نقاط قوة لهذا المحور. لبنان، بوجود حزب الله، كان يمثل نقطة محورية في المواجهة مع إسرائيل، بينما كانت سوريا مركزًا لتمركز القوى الإيرانية والفصائل التابعة لها. أما العراق فقد شهد تدخلات إيرانية مكثفة من خلال دعم فصائل الحشد الشعبي. لكن اليوم، يبدو أن العديد من هذه الجبهات قد توقفت أو على الأقل تراجعت قوتها.
في لبنان، تراجع الدور الفعّال للمقاومة بشكل كبير نتيجة للأزمات الداخلية والخارجية، حيث تتزايد الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها حزب الله. هذه الأزمات جعلت من الصعب الحفاظ على استمرارية دعم المقاومة اللبنانية في وجه التحديات المتزايدة.
أما في العراق، فقد شهدت الساحة السياسية والعسكرية تطورات كبيرة بعد الانسحاب العسكري الأمريكي وتغيير الأولويات الإقليمية. إذ تبين أن الدعم الإيراني في العراق لم يعد كما كان في السابق، وهو ما جعل محور المقاومة العراقي يواجه صعوبات جمّة. على الرغم من استمرار بعض المجموعات المسلحة، فإن تأثير إيران على الساحة العراقية بدأ يتراجع بشكل ملحوظ.
في سوريا كان الدعم الكبير الذي تقدمه إيران للنظام السوري في مواجهة الثورة كبير جدا فإن الوضع الداخلي المعقد وصراعات القوى الدولية والإقليمية قد جعلت من الصعب الحفاظ على مستوى الدعم العسكري والتواجد الإيراني كما كان في السابق إلى تقييد قدرة إيران على تعزيز نفوذها في المنطقة، خاصة بعد انهيار النظام في دمشق.
في اليمن، ورغم استمرار دعم إيران للحوثيين، يظل الوضع هناك مختلفًا. يُعتبر اليمن جبهة مهمة للمقاومة، لكن الصراع الطويل مع التحالف العربي جعل هذه الجبهة بعيدة عن الأنظار الدولية. الفوضى المستمرة في البلاد تمنع تحقيق أي مكاسب استراتيجية حاسمة.
هذه التغيرات في سياق “محور المقاومة” تطرح تساؤلات حيوية حول كيفية تأثير ذلك على القضايا الأهم في المنطقة، القضية الفلسطينية. منذ توقف الدعم اللبناني والعراقي، باتت غزة تمثل الجبهة الأساسية التي تعتمد عليها فصائل المقاومة الفلسطينية. لكن، مع تراجع الدعم العسكري والمالي من هذه الجبهات، كيف ستتمكن غزة من الصمود أمام الضغوط المتزايدة؟
الورقة الفلسطينية الآن في موقف صعب للغاية، حيث تواجه تحديات اقتصادية وعسكرية متزايدة في ظل تراجع الدعم الخارجي. بعد الانهيار المحتمل لجبهات المقاومة في لبنان والعراق وسوريا، أصبح من الواضح أن غزة، رغم قوتها وصمودها، ستواجه ضغطًا هائلًا في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. التحديات الكبرى تشمل النقص في الموارد والدعم اللوجستي، فضلاً عن عدم وضوح الاتجاهات المستقبلية لهذه المقاومة في غياب الدعم الكافي من محور المقاومة الذي كان يعتمد عليه الفلسطينيون.
إيران، التي لا تزال تسعى للحفاظ على نفوذها في المنطقة، قد تجد نفسها مضطرة لتطوير استراتيجيات جديدة لمساندة غزة بشكل غير تقليدي. أما الدول الأخرى في محور المقاومة، فقد تجد صعوبة في تقديم الدعم الفعّال في ظل الوضع الإقليمي المتأزم.
ختامًا مبادرة السلام العربية لعام 2002 تمثل إطاراً مهماً لحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال منح الاعتراف العربي بإسرائيل مقابل انسحابها من الأراضي المحتلة وإقامة دولة فلسطينية مستقلة. ومع ذلك، فإن هذه المبادرة تواجه صعوبات كبيرة في ظل التطورات الراهنة، حيث تشهد العديد من الدول العربية خطوات نحو التطبيع مع إسرائيل، مما قد يؤثر سلبًا على الدعم العربي لقضية فلسطين. في ظل هذه الظروف، يبقى السؤال مطروحًا: هل يمكن أن تظل فكرة “الأرض مقابل السلام” قائمة، أم أنها ستختفي في ظل الظروف المتغيرة؟يُعتبر “محور المقاومة” اليوم في مرحلة تحول حرجة. رغم توقف الجبهات الأساسية مثل لبنان والعراق وسوريا إلا أن القضية الفلسطينية قد تظل محور التركيز.