دبي- وام
تحت رعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، وبحضور سمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم، رئيسة هيئة الثقافة والفنون في دبي، كرّمت «جائزة محمد بن راشد للغة العربية» التي تنظمها مؤسسة مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم، الفائزين بدورتها الثامنة، وذلك احتفاءً بالجهود المتميزة للأفراد وفرق العمل والمؤسسات والتي أسهمت في تعزيز مكانة اللغة العربية وحمايتها محلياً وإقليمياً وعالمياً.


وتم الإعلان عن الفائزين خلال حفل افتتاح المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية الذي بدأ اليوم ويستمر حتى 12 أكتوبر الجاري.
وأكدت سمو الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد آل مكتوم أهمية المبادرات الداعمة للّغة العربية ودورها في ترسيخ حضورها ومكانتها محلياً وعالمياً، لافتةً إلى أن «جائزة محمد بن راشد للغة العربية» تُجسّد رؤية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، للحفاظ على اللغة العربية والنهوض بها وترسيخ مكانتها في المجتمع.
وقالت سموها إن اللغة العربية تمثل جزءاً أصيلاً من الهوية المعرفية والثقافية للمجتمع، وهي إحدى أبرز ركائز الثقافة العالمية، وتعكس هذه الجائزة بمحاورها المتنوعة كالتعليم والتكنولوجيا والإعلام والتواصل والسياسة اللغوية والتعريب وغيرها، ما تمتاز به اللغة العربية من قوة وحيوية ومرونة مكّنتها من أن تكون لغة الابتكار والمستقبل.
وأضافت سموّها: «فخورون باهتمام ومشاركة المجتمع المحلي والعالمي بمثل هذه المبادرات التي تنطلق من دبي، وتزيد الوعي بثراء اللغة العربية وكنوزها التي ترتبط بتراثنا وتاريخنا وإيصالها إلى العالم».
حضر الاحتفال عدد من القيادات الثقافية وكبار الكتاب والمفكرين، إلى جانب لفيف من المهتمين باللغة العربية والإعلاميين.
وفي كلمته، قال محمد أحمد المر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة مكتبة محمد بن راشد آل مكتوم، رئيس مجلس أمناء جائزة محمد بن راشد للغة العربية إن جائزة محمد بن راشد للغة العربية تمثل رؤية استراتيجية للحفاظ على إرث اللغة العربية الغني وتُعبّر عن التزام دولة الإمارات الراسخ بدعم هذه الرسالة وتُبرز هذه الجائزة حرصنا على لغتنا وتطلعاتنا نحو مستقبلها، ونحن نسعى جاهدين إلى تحفيز الإبداع والابتكار أينما كان في استخدام هذه اللغة العريقة، وتمكين الشباب والمهتمين بها ليكونوا سفراءها إلى العالم.
وأضاف، أنه منذ انطلاق الجائزة، كان هدفنا تعزيز الوعي بأهمية اللغة العربية، وتطوير استخداماتها في مختلف المجالات. نحن نؤمن بأن اللغة العربية ليست مجرد وسيلة تواصل، بل تعد أيضاً جسراً ثقافياً يربط بين الشعوب ونسعى إلى توسيع نطاق التعريب والاستفادة من تجارب الثقافات العالمية لنثبت أن اللغة العربية هي لغة المستقبل وفي كل عام، نشهد إبداعات جديدة تعكس تطور اللغة العربية وتقدمها.. وعبر عن شكره لجميع المساهمين في إنجاح الجائزة وهنأ الفائزين بإنجازاتهم، التي تسهم في بناء مستقبل مشرق للغة العربية.
من جهته، أكد بلال البدور الأمين العام لجائزة محمد بن راشد للغة العربية، أنّ التنوع والإبداع في المشاريع المقدمة يعكس قيمة اللغة العربية وثراءها الحقيقي، وهو ما يظهر بوضوح في كل مشروع موضحاً أن المشاركة الواسعة من مختلف أنحاء العالم انعكاس للوعي المتزايد بأهمية اللغة العربية في تعزيز التواصل والحوار والتفاهم بين الثقافات.
وأضاف أن لدينا نماذج متميزة تعكس دور اللغة العربية محوراً للإبداع، وفتح آفاق جديدة للتقدم وأوضح أن هذا الحدث يُعتبر فرصة لتسليط الضوء على الجهود المبذولة في خدمة اللغة العربية وتعزيز مكانتها على الساحة العالمية وتأكيداً على ضرورة العمل المستمر لحمايتها وتطويرها، لضمان استمراريتها ركيزة أساسية للهوية والثقافة العربية.
وكرّمت الجائزة في دورتها الثامنة في محور التعليم، ضمن فئة أفضل مبادرة لتعليم اللّغة العربيّة وتعلّمها في التّعليم المبكّر، «مبادرة المنهج العالمي لتعليم اللغة العربية للأطفال في مرحلة التعليم المبكر»، من جمهورية مصر العربية.
وفي الفئة الثانية من محور التعليم، فئة أفضل مبادرة لتعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها فازت مبادرة «شهادة سمة»، التابعة لمعهد العالم العربي في فرنسا.
وفي الفئة الثالثة من المحور نفسه، فئة أفضل مبادرة للتعليم باللغة العربية في التعليم المدرسي (من الصف الأول إلى الصف الثاني عشر) فازت مبادرة مشروع أكاديميات الدار لتعزيز اللغة العربية بفروعها اللغوية جميعها من خلال نهج القرائية المتوازنة، التابعة لمؤسسة الدار للتعليم من دولة الإمارات العربية المتحدة.. وفي محور التّقانة (التكنولوجيا) الفئة الأولى، فئة أفضل تطبيق ذكي للغة العربية ونشرها، فازت مبادرة «فسيلة» من هولندا.
وفي محور الإعلام والتواصل، الفئة الأولى، وهي فئة أفضل عمل باللغة العربية في وسائل الإعلام، فقد فاز بها برنامج «غيض من فيض»، من دولة الإمارات العربية المتحدة.
أما الفئة الثانية من هذا المحور، فهي فئة أفضل عمل باللغة العربية في وسائل الإعلام الإلكتروني وقنوات التواصل الاجتماعي، فقد فازت بها مبادرة قناة أسرتنا التعليمية، من المملكة المتحدة.
وفي محور السياسة اللغوية والتخطيط والتعريب، الفئة الأولى، وهي فئة أفضل مبادرة في السياسة اللغوية والتخطيط، فقذ فاز بها المجلس الدولي للغة العربية، ضمن مبادرة قانون اللغة العربية الاسترشادي.
وضمن المحور نفسه الفئة الثانية، فقد فازت مبادرة ترجمة كتاب «المعالجة البيولوجية لمياه الصرف الصحي» إلى اللغة العربية، ضمن فئة أفضل مشروع تعريب أو ترجمة، من جمهورية مصر العربية.
وفي محور الثقافة والفكر ومجتمع المعرفة، الفئة الأولى، وهي فئة أفضل عمل ثقافي أو فني لخدمة اللغة العربية، فازت مبادرة أوبرا عنتر وعبلة، من لبنان.
أما الفئة الثانية في هذا المحور، وهي فئة أفضل مبادرة لتعزيز ثقافة القراءة ومجتمع المعرفة، فقد فاز بها مركز الشيخ محمد بن خالد آل نهيان الثقافي، من دولة الإمارات العربية المتحدة، ضمن مبادرة «الباحثون عن المعرفة لا توقفهم الأزمات».. وأخيراً الفائز بجائزة الشخصية العالمية المتميزة وهو بيتر جيريل هالمان من الولايات المتحدة الأمريكية.
وشهدت الجائزة اهتماماً ومشاركةً كبيرين هذا العام، إذ حققت زيادة منقطعة النظير في التسجيلات المكتملة للمشاركة بالجائزة، بلغت 76٪، مقارنةً بالنسخة السابقة، لتبلغ بذلك رقماً قياسياً تمثَّل بالوصول إلى أكبر عدد من المُسجّلين منذ إطلاقها في العام عام 2014.
وتم تسلم طلبات المشاركة من مجموعة واسعة من المهتمين، بما في ذلك الأفراد والمجموعات والمؤسسات من 65 دولة حول العالم، حيث بلغت نسبة المتقدمين من إفريقيا 75%، و23% من آسيا، و1% من أوروبا، والباقي من الأمريكتين وأوقيانوسيا.
وتلقت الجائزة طلبات من مشاركين من 9 بلدان جديدة، هي المكسيك، والنرويج، وبولندا، وتايلاند، وهولندا، وجمهورية التشيك، وجيبوتي، وكوريا الجنوبية، وموريشيوس.
وأسهمت هذه المشاركات في إبراز أهمية الجائزة ونجاحها في الوصول إلى جمهور أوسع ودورها الفعّال في تعزيز مكانة اللغة العربية على المستوى العالمي.
وتشير الإحصاءات الرئيسية الأخرى من التسجيلات إلى أن الأفراد شكلوا 93% من جميع المشاركات وتصدر محور التعليم معظم المشاركات، مشكلاً 53% من جميع الطلبات المُقَدَّمة، ما يدل على الاهتمام الشديد للمتقدمين ومشاركتهم النشطة في المساعي التعليمية المتعلقة باللغة العربية.
وتُخصص جائزة محمد بن راشد للغة العربية ما يقارب 2.8 مليون درهم إماراتي (770 ألف دولار أمريكي) لتوزيعها جوائز على مختلف المحاور وهي التعليم، والتقانة (التكنولوجيا)، والإعلام والتواصل، إضافة إلى السياسة اللغوية والتخطيط والتعريب، والثقافة والفكر ومجتمع المعرفة، ما يؤكد التزامها الدائم بتعزيز مكانة اللغة العربية عالمياً.
ومنذ انطلاقتها، تَوّجت أكثر من 60 فائزاً خلال سبع دورات سابقة ما يعكس الأثر البارز للجائزة ونجاحها في نشر اللغة العربية وتعزيز مكانتها على المستوى العالمي.

المصدر: صحيفة الخليج

كلمات دلالية: فيديوهات الشيخة لطيفة بنت محمد بن راشد اللغة العربية جائزة محمد بن راشد للغة العربیة محمد بن راشد آل مکتوم اللغة العربیة فی فئة أفضل مبادرة باللغة العربیة الفئة الثانیة دولة الإمارات الفئة الأولى رئیس مجلس وفی محور فی محور

إقرأ أيضاً:

الشِّعر ديوان العربية الفصحى

أتيح للغة العربية أن ترتبط بشيئين ارتباطًا نزعم أنه لم يُتَح لغيرها من اللغات، وهو ارتباط ساعد كثيرًا، ليس فقط على غناها وثرائها بأدواتها ومفرداتها، ولكن أيضًا على تميزها وذيوعها وانتشارها. أمّا هذان الشيئان اللذان ارتبطت بهما فهُما الشِّعر والقرآن الكريم، ويمكن إدراك هذا الارتباط بتفاصيله بتأمّل فترة التدوين العربي، ونشأة المعجمات.

أمّا ارتباطها بالقرآن فيحتاج إلى قراءة طويلة مستقلة تفي به، لكننا في مساحة كهذه الممنوحة لنا هنا يمكن لإطلالة موجزة أن تشير إلى شيء من نشأة العربية ثم ارتباطها بالشعر، مشيرين أولًا إلى أن اهتمامنا بالعربية لا ينبع فقط من أنها لغتنا، ولكن لأنها واحدة من أهم لغات العالم؛ إذ يتحدث بها 500 مليون نسمة تقريبًا في العالم، وهو رقم ليس صغيرًا، إذ يشكل 5% من سكان الأرض.

والعرب -في الأساس- هم الذين كانوا يتحدثون اللغة العربية، ومِن السهل -الآن- أن يطلَق لفظ «العرب» هذا فينصرف الذهن جغرافيًا إلى بعض دول الوطن العربي في آسيا وإفريقيا، لكن قديمًا وتاريخيًا لم تكن كلمة «عرب» دالة إلا على معنى البدو والبداوة، ولم تكن تطلَق إلا على سكان شِبه الجزيرة العربية وبعض مناطق الشام والعراق، حتى ظهر الإسلام ودخل المسلِمون بلادًا وأقاليم تحولت بمرور الوقت وانتشار لغة الغالبين إلى مناطق وأقاليم عربية ليتسع مفهوم العرب جغرافيًا إلى ما استقر في الذهن والعيان حتى يومنا هذا.

وإذا كانت شبه الجزيرة العربية موطن العرب، فإن القدماء كانوا يذهبون إلى أن هناك جنوبًا وشمالًا لعرب تلك الجزيرة، وكانوا يطلِقون على عرب الجنوب اسم «القحطانيين»، ويرونهم أصل العرب ولغتهم العربية، بينما كانوا يطلِقون على عرب الشمال اسم «العدنانيين»، ويرونهم «مستعربين» أخذوا لغتهم عن القحطانيين وهي اللغة التي يقولون إن القرآن نزل بها، وهو الأمر الذي أثار جدلًا كبيرًا بين الباحثين المستشرقين وهُم يقارنون بين لغة القحطانيين والعدنانيين؛ ليكتشفوا بفضل كثير من النقوش والنصوص التي تم العثور عليها اختلافات كثيرة بين لغة عرب الجنوب ولغة عرب الشمال، الأمر الذي كان واحدًا من أهم أسباب ذيوع وانتشار ما سمّي بقضية الانتحال في الشعر الجاهلي، حيث إن الشعر الذي وصلنا كله وصلنا بلغة عربية واحدة ضمت شعراء من الشمال وشعراء من الجنوب، وقيل إنّ ما تردد من اتخاذ اللغة العربية لغة أدبية واحدة للفريقين يمكن فهمه بعد نزول القرآن لا قبله. ولا يعنينا الآن الخوض في تفاصيل قضية الانتحال بقدر ما تعنينا إطلالتنا على ارتباط العربية بالشعر.

والحق أنه إلى الآن يصعب على باحث أن يقطع برأي محدد في أصل اللغة العربية؛ فكل النقوش والنصوص الأركيولوجية التي تم العثور عليها كانت خاصة بالفترة التاريخية ما بين أواخر القرن الثالث إلى القرن السادس الميلادي، وهي نصوص ونقوش تؤكد أن الخط العربي نشأ شمال الحجاز متطورًا عن الخط النبطي، ويمكن الزعم أن الخط العربي أخذ صورته النهائية في أوائل القرن السادس الميلادي، وهو ما أكدته تلك النقوش التي عثر عليها عدد من علماء الساميات شمال الحجاز على طول طريق القوافل إلى دمشق، وأهم هذه النقوش حجر عثر عليه سنة 270م في قرية أم الجمال غرب حوران، ثم حجر آخر سمّي نقش النمارة تم اكتشافه سنة 1901م كان مؤرخًا بسنة 328م وهو خاص بامرئ القيس ثاني ملوك الحيرة، وهو نص يقول: «هذا قبر ملك العرب»، وهو الأمر الذي يشي بأن تلك الفترة شهدت إحساس العرب بكيانهم ورغبتهم في وحدة سياسية تجمعهم، خاصة مع وجود قوتي الروم والفرس اللذين فرضا نفوذهما على كثير من المناطق العربية في سلع وتدمر، وفي الحيرة في الشمال، كما هاجم الحبش اليمن واستولوا عليها في الجنوب في منتصف القرن الرابع تقريبًا، فيمكن الزعم أن كل هذه الأحداث دفعت العرب للبحث عن هويتهم، ومن الطبيعي أن تأتي اللغة على رأس ذلك البحث.

بدأ الاهتمام بمكة وتحوّل القوافل التجارية إليها، وكان من الطبيعي أن تنمو الشخصية اللغوية للعرب الشماليين تحديدًا خطًا ونطقًا، وهو ما تؤكده عدة نقوش أخرى ظهرت، كنقش زيد المؤرَّخ بسنة 512 ميلاديًا، ونقش زبد خربة اللذين يؤكدان بخطوطهما وتفاصيلهما اقتراب الملامح من اللغة العربية الفصحى، فضلًا عن نقش حران اللجا المؤرخ بسنة 568 م وقد وجد جنوب دمشق، وكل كلماته عربية.

وقد دلّ تاريخ العرب، وتاريخ الأدب فيه، أن العرب أمّة صناعتها الكلام ومفخرتها البيان، ولم تجد وسيلة لتسجيل انتصاراتها أو لتخليد مآثرها أو للتغني بأمجادها وذكر أفراحها وأتراحها إلا الشعر تنشده وترويه؛ إذ كان حظها من تجليات الحضارات الأخرى كالرسم والنقش والكتابة ضئيلا، فإذا أضفنا إلى ذلك طبيعة المحيط الجغرافي الذي عاش فيه العرب قديمًا حيث الصحراء المترامية، والفضاء المفتوح، وقلة العشب والكلأ، وندرة الماء والزاد، كان طبيعيًا أن نفهم كيف نشأ الشعر عند العرب الذين كان الرصد والتأمل أهم ملمحين من ملامح الحياة المفروضة عليهم، بعد أن كان العربي القديم مضطرًا اضطرارًا إلى أن يصغي إلى مفردات محيطه من تناوح الرياح، وتعاقب الليل والنهار، وتساقط المطر، كل ذلك في وتيرة واحدة وإيقاع ثابت لا يتغير، ولنا أن نفترض أن العربي القديم بدأ يصغي لموسيقى الكون أو الحياة مِن حوله ليهمهم بعدها بكلمات نثرية لم تلبث أن تحولت على ناقته أو فرسه لإيقاعات منتظمة، ربما ارتبطت أيضًا عنده برغبته في الغناء، وقد ورد أن العرب الجاهليين كانوا يغنّون أشعارهم، ولم يكن من الغريب أن يطلقوا على شاعرهم الأعشى مثلا لقب «صناجة العرب»، ولا أن ينشد حسان بن ثابت قائلا:

تَغنّ بالشعر إمّا كنتَ قائلَه...

إنّ الغناء لهذا الشعر مضمارُ

ولعل ارتباط مفردة «الإنشاد» بالشعر تفسّر تلك الصلة بين الشعر العربي والغناء.

ولقد يقول مؤرخو الآداب: إنّ هذا الشعر الذي وصلنا عن العرب يعود إلى قرن ونصف قبل الإسلام، وهو ما لا يتفق بالطبع مع وصول هذا الفن بصورته المكتملة إلينا؛ فلا بدّ أن تكون له أسبقية تاريخية أطول من ذلك، لكن النصوص والنقوش لا تزال شحيحة وقليلة، ولقد وردت بضع الأبيات على لسان عدد من شعراء الجاهلية تشي أنهم أنشدوا أو عرفوا أسماء شعراء ساروا على منوالهم، دون أن تتوفر لدينا معلومات كافية عن هؤلاء الشعراء، فهذا امرؤ القيس يقول:

عوجَا على الطلل المحيلِ لعلّنا ...

نبكي الديارَ كما بكى ابن خذامِ

دون أن نعرف مَن هو ابن خذام هذا؟

ويقول زهير بن أبي سلمى:

ما أرانا نقول إلا مُعارًا ...

أو معادًا من قولنا مَكرورا

كما يقول عنترة بن شداد:

هل غادر الشعراءُ من متردّم؟

لكننا نفترض أن العربي القديم، شاعر ما قبل الإسلام، لم يكن مشغولًا بعلاقة الشعر باللغة مثلما انشغل بها شاعر ما بعد الإسلام، بسبب نزول القرآن بصورته اللغوية الجديدة المختلفة تمامًا نظمًا وتعبيرًا ودلالة، ثم بسبب ظهور القراءة والكتابة، إلى أن استقرت في الذاكرة العربية، وفي الذائقة أيضًا، الصورة النهائية لشعر الفصحى عند العرب بتجليه فيما اتفق عليه باسم «المعلقات»، فضلًا عن بعض مصادر هذا الشعر كالمفضّليات والأصمعيّات، ولا يمكن فهم هذا الحضور الطاغي لشعر الفصحى العربي في التراث واستيعابه، إلا بفهم المزاج العربي الذي يمكن وصفه بأنه كان مزاجًا لغويًا بطبيعته، كما يقول المستشار عبدالجواد ياسين في كتابه «السلطة في الإسلام»:

«إن المزاج العقلي العربي كان مزاجًا لغويًا بطبيعته، فهو يبدو لنا حين نقرأ في تراثه الأدبي الأول لا سيما الشعر، كما لو كان يحب اللغة لذاتها، كانت اللغة بالنسبة له أكثر من وسيلة ضرورية للتعبير، لقد كانت هي في ذاتها فنه الأثير، وكان هو على وعي شعوري بهذه الحقيقة، يدرك على نحو من الأنحاء أن اللغة هي مجاله الحيوي، أو هي تخصصه الدقيق إن صح هذا التعبير».

هكذا نشأت اللغة عند العرب، وهكذا انبثق منها شعرها الفصيح الذي حافظ عليه أفذاذ وعباقرة العرب باتجاههم في فترة التدوين لحفظ مفردات هذه اللغة، متخذين الشعر بالطبع مرجعًا ومصدرًا لهم، وكان طبيعيًا أن تتطور الفصحى وتتأثر بالفضاء الإسلامي لتعود محافظة مرة أخرى على أصالتها وجزالتها في العصر الأموي، ولتبلغ أوج نشاطها وتألقها في الفترة الأندلسية ثم بعد ذلك في العصر العباسي.

وبالتأكيد يمكننا الآن تصور آلاف الدواوين الشعرية وآلاف الرواة الذين كانوا يروون هذا الشعر، وينقلونه من جيل إلى جيل، الأمر الذي سهّل كثيرًا بسبب طبيعة الشعر وسهولة حفظه وجريانِه على الألسنة من الحفاظ على الكلمات واستدعاء معانيها ومرادفاتها، بل إنّ كثيرًا من القصائد كانت تستدعي إلى الذهن قصائد أخرى تشبهها أو حتى تناقضها معنى أو وزنًا أو قافية، وهو ما يشبه دائرة مفتوحة لا تُغلق أبدًا تحتل فيها اللغة المركز.

ولا يتبقى الآن إلا أن يدرك العربي المعاصر التحدي الكبير الملقى على عاتقه في الحفاظ على لغته العربية من دون تعصب، وهو ما لن يكون إلا بإدراكه حجم التحديات التي تواجه هذه اللغة، ولعل أهمها تراجع الشعر في الوجدان المعاصر، واختلاط حابله بنابله، وضعف أدوات الذين يتصدون له كتابة وإبداعًا وتنظيرًا.

أشرف البولاقي كاتب مصري

مقالات مشابهة

  • “أبوظبي للغة العربية” يبدأ تلقي طلبات المشاركة في برنامجه للمنح البحثية
  • علي بن تميم: «عام المجتمع» رؤية حكيمة تجاه بناء مجتمع مزدهر
  • محمد بن راشد: الإمارات ملتزمة ببناء نموذج رائد للرعاية الصحية المتقدمة لضمان أفضل نوعيات الحياة لمجتمعها
  • محمد بن راشد: ندعم كل مبادرة تطور صحة الإنسان وتحسن الخدمات المقدمة له
  • محمد بن راشد: نشكر كل من بنى ثقته عبر خمسين عاماً في دبي والإمارات.. وندعم كل مبادرة تطور صحة الإنسان
  • "أبوظبي للغة العربية" يستقبل طلبات "المنح البحثية"
  • «أبوظبي للغة العربية» يطلق الدورة الخامسة من برنامج المنح البحثية 2025
  • الشِّعر ديوان العربية الفصحى
  • اهتمام كبير بإصدارات مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في معرض الكتاب
  • اهتمام كبير بإصدارات مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية في معرض القاهرة الدولي للكتاب