ملاتيوس جغنون.. من الهندسة المدنية لعلم قراءة نقوش "الإبيغرافيا"
تاريخ النشر: 10th, October 2024 GMT
الباحث السوري "ملاتيوس جغنون" انتقل من تخصصه في الهندسة المدنية إلى شغفه بالتاريخ السوري القديم، متوجهاً نحو حقل "الإبيغرافيا" (علم قراءة النقوش الكتابية)، ودفعه اكتشافه لأوابد تدمر والنقوش الموجودة فيها إلى تعلم بعض اللغات القديمة، مما أهّله ليصبح محاضراً في هذا المجال ومختصاً في التعريف بتاريخها، إلى جانب تميّزه بترجمة عشرات النقوش الأثرية.
ينتمي الباحث ملاتيوس جغنون إلى شريحة المبدعين المتفردين في مجالهم الذين يعملون بجهد، وفي منأى عن الإعلام، هو ابن مدينة جبلة، ومن مواليد اللاذقية، سكن في حمص فترة طويلة إلى أن اضطرته الحرب للهجرة إلى كندا.
وهو عضوٌ مُؤسسٌ للجمعية الآثارية (العادِيّات) فرع مدينة حمص، وقد تولى رئاستها سنوات عدة.
تخصص في علم الإبيغرافيا أو قراءة وترجمة النقوش الأثرية القديمة باللغات الآرامية واليونانية. وقاده اهتمامه بعلم الإبيغرافيا، كما يقول، إلى تعلُّم العديد من اللغات القديمة ومنها الآرامية بلهجتها التدمرية واليونانية القديمة من بين لغات أخرى، وهو خبير أيضاً في نقوش القلم المسند لعربيات الجنوب في اليمن، من أعماله الإبيغرافيَّةِ الأولى كانت قراءة نقوش سريانية قديمة ويونانية من أرضية فسيفسائية لكنيسة في تل التتن في منطقة الغاب في سورية إلى الغرب من مدينة أفاميا، وأيضاً لنقوش من متحف معرة النعمان وأخرى من الأغورا في تدمر.
انخطاف خاصولدى سؤالنا الباحث جغنون عن كيفية توجهه إلى هذا العلم، أجاب قائلاً: "كان هناك نداءٌ غيبيٌّ يقفُ وراء مسيرتي القدرية في علم الإبيغرافيا اليونانية والتدمرية. سأكشف لكم حقيقة ما شعرت به عندما زرتُ تدمر وأفاميا لأول مرة في حياتي، وكنت شاباً في منتصف سبعينيات القرن الماضي. حين وقفت أمام أعمدة الأوابد هناك، لفتت انتباهي النقوش المكتوبة باليونانية والتدمرية. ورغم انبهاري بهندسة هذه المعالم، شعرت بانجذاب روحي نحو هذه النقوش، وكأن صوتاً خفياً يخاطبني قائلاً: «يا حيف عليك! هذه النقوش هي رسائل من أجدادك السوريين وأنت لا تعرف ما تقول؟!».
وتابع: "لقد دفعني هذا النداء الخفي للبحث المستمر عن مداخل اللغتين اليونانية القديمة (وهي تختلف عن الحديثة) والتدمرية التي تعتبر من اللغات المنقرضة. لم أجد أي معلم أو معهد أو مصادر يمكن الاعتماد عليها للوصول إلى هدفي، خاصةً أنني كنت أعيش في مدينة صغيرة هي جبلة الساحلية. ومع الكثير من الإصرار والسعي الدؤوب، بدأتُ أتعلم تدريجياً حتى أصبحت قادراً على قراءة النقوش بجهودي الذاتية".
وعند سؤاله عما إذا كان قد تعلم بجهد شخصي أم تحت إشراف أساتذة مختصين، أجاب مبتسماً: "بكل الصدق والصراحة، لم يكن لأحد فضلٌ عليّ فيما حققته. لم أتعلم من أساتذة أو معاهد، لأن هؤلاء ببساطة لم يكونوا متاحين في سوريا أو محيطها الجغرافي. وعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود في حقل علم الإبيغرافيا، الذي يشرفني أن أكون متفرداً به في منطقتنا (سوريا والعراق ولبنان والأردن)، خاصةً فيما يتعلق بالنقوش اليونانية القديمة، تابعت هذا الشغف بعد تقاعدي من مهنة الهندسة المدنية".
وأردف قائلاً: "في عام 2007، زارني السيد بيير لوي غاتييه Pierre-Louis GATIER، وهو بروفسور في جامعة ليون وأحد أهم علماء الإبيغرافيا على مستوى العالم، في منزلي بمدينة حمص، وفاجأني بتقديره لعملي وجهودي في هذا المجال".
اعتراف وترحيبوما إن مضى على غربة الباحث ملاتيوس فترة لم تتعدَّ السنوات الثلاث في كندا، حتى نال اعترافاً وترحيباً من مؤسسة علمية مرموقة، وهي المركز الكندي للوثائق الإبيغرافية (Canadian Centre for Epigraphic Documents - CCED) في جامعة تورونتو، إحدى أعرق وأكبر الجامعات الكندية. نشر أولى مساهماته على الصفحة الأولى من دوريتهم العلمية المتخصصة *Journal of the Canadian Centre for Epigraphic Documents (JCCED)*.
هذا الاعتراف دفعه للتفكر في آلام الغُبن التي طالما حاول كتمانها، قائلاً: "حقاً، لماذا بقيتُ نكرةً بعد سبعين عاماً ونيف من العمل والكفاح والعطاء العلمي المستمر في حقل نادر جداً، لم يُطرق قبلي في موطني سوريا؟".
ورغم ذلك، تابع حديثه قائلاً: "ما زلتُ أردد، وبمطلق القناعة، قول الشاعر قتادة بن أبي عزيز: بِلادي وإنْ جارَتْ عَلَيَّ عزيزةٌ / وأهلي وإنْ ضَنّوا عَلَيَّ كرامُ".
تحدّيات وصعابوعن الصعوبات التي واجهها في قراءة بعض النقوش، يقول الباحث ملاتيوس: "سأذكر لك مثالاً واحداً. أرسل لي عالم الآثار الراحل الأب باسكوال كاستيلانا صورة نقش يوناني منقوص يعلو مدفن منحوت في جوف جرف صخري في جبل الوسطاني، شمال شرق مدينة جسر الشغور، وطلب مني قراءته وترجمته. استغرقت عملية ترميمه وقراءته وترجمته حوالي شهرين. كان النقش التأسيسي للمدفن مكوّناً من عشرة أسطر، ولكن الجزء العلوي الأيمن منه مفقود بسبب انسلاخ وجه الصخر الذي يحتوي على الكتابة، مما فقد النص حوالي ربع محتواه. أدركت حينها أنني أمام تحدٍّ جديد، وهو محاولة ترميم الأجزاء المفقودة منه. بذلت جهداً غير اعتيادي في مواجهة هذه المشكلة، وأعتقد أنني تمكنت من إعادة الترميم بشكل ينسجم مع الأجزاء المتبقية ويكمل معانيها. وعلى الرغم من أنني لا أستطيع الجزم بأن الأجزاء الناقصة مطابقة لما قمت بترميمه، إلا أنني أعتقد أنه لا أحد يستطيع الجزم بصحة ترميمه بشكل كامل، ولكن النتيجة التي توصلت إليها تظل معقولة ضمن هذا السياق".
وعن ما يميز هذا النقش، يوضح الباحث ملاتيوس: "هذا نص نادر نسبياً، نادر الظهور على عتبات المدافن، خاصةً بما يحتويه من تحذيرات موجهة للغير من مغبة التطاول على المدفن أو المساس بموجوداته أو استخدامه لدفن آخرين من غير أفراد العائلة المؤسسة له. ولكن ما يجعله فريداً هو أنه يشير إلى فرض غرامة مالية باهظة على المنتهك، مع تحديد مبلغ الغرامة والجهة التي ستتحقق منها، وذلك بمقتضى محاكمة ستُجرى بحقه. نعرف من نصوص مشابهة على المدافن أنها تستخدم أسلوباً آخر في الردع، كإلقاء اللعنات أو الدعاء بالهلاك على المنتهكين، أو المناشدة، كما هو الحال في مدفن مسيحي في خربة الفرس قرب منطقة حاس، ليس بعيداً عن معرة النعمان، حيث جاء فيه ما قمت بتعريبه على النحو التالي: أستحلفكم (أو أناشدكم) بالله أن لا تُقدموا على (التطاول) بالأذى أو النيل من رفاتي".
احتفالات رأس السنةيقول الباحث ملاتيوس إن قراءة جهوده في مجال البحث تمنح متعة خاصة، إذ طالما كان السوريون مهتمين بمعرفة أصول طقوس بعض الأعياد الشعبية المنتشرة في مناطقهم. ويشير إلى أنه من القلائل القادرين على تقديم إجابات مفيدة وغنية فكرياً حول هذه المسائل. يتحدث عن عيد "الرابع" الذي يصادف في 17 نيسان، قائلاً: "لقد شغلتني مسألة التعرف إلى أصول هذا الطقس في تاريخنا السوري، وسألت الكثير ممن يُفترض بهم معرفة أصول هذه الاحتفالية السنوية، ولم أحصل على أية إجابة لتساؤلي! وصادف أنني في عام 1990، حين كنت أقيم في حي الوعر بحمص، قمت بترجمة كتاب من الإنكليزية من سلسلة كتب دار (Penguin) للنشر لمؤلفه الدكتور جورج رو (Dr. George Roux) بعنوان (Ancient Iraq) أو (العراق القديم)، وهو كتاب يتكون من 500 صفحة مكتوبة بخط صغير. وما زال هذا الكتاب محفوظاً في مكتبتي بحمص. وقد خصص الدكتور جورج رو فصلاً كاملاً في كتابه عن احتفالات رأس السنة السورية القديمة بعنوان *New Year Festival*، وفي هذا الفصل وجدت ضالتي المنشودة".
ويتابع ملاتيوس قائلاً: "يذكر الكتاب أن احتفالات رأس السنة الجديدة كانت تُقام بحضور غفير من أسلافنا في المنطقة المحيطة بالمعبد، وتستمر لمدة أحد عشر يوماً. وفي اليوم الرابع من نيسان (حسب التقويم السوري القديم)، الذي يسبق تقويمنا الغريغوري الحالي بأربعة عشر يوماً، يأتي الكاهن الأعظم إلى حرم المعبد ويتلو على الملأ أسطورة الخلق أو (الإينوما إيليش)، أي (عندما كان في أعالي...). وكانت تلك التلاوة تمثل ذروة الاحتفالات بعيد رأس السنة الجديدة، ومن هنا جاءت تسمية (عيد الرابع)".
قدوم الربيعيقول الباحث ملاتيوس عن "عيد الطيب التدمري" ومكان إقامة طقوسه: "يصادف الاحتفال بهذا العيد في السادس من نيسان عند أسلافِنا التدمريين القدماء، وهو العيد السنوي الذي كانت تُقام فيه طقوس احتفالية الطواف حول الهيكل في هذا اليوم من كل عام. يُعرف لديهم بـ(عيد الطيب) أو (عيد قدوم الربيع).
وفي هذا اليوم من نيسان عام 32 الموافق نيسان (أبريل) سنة 343 حسب التقويم السلوقي الذي كان سارياً في تدمر القديمة في تلك الحقبة الزمنية، يروي لنا نقش تأسيسي مكتوب بالتدمرية الآرامية، والذي تم نقله من حرم معبد بِلْ في تدمر إلى متحف تدمر الوطني منذ ستينيات القرن الماضي، عن عملية تكريس هذا المعبد الهام جداً، وهو الأضخم بين المعابد التدمرية.
ويضيف: "من المهم الإشارة إلى أن الإله (بِلْ) هو كبير الآلهة التدمرية في مجمع الأرباب. وكانت الطقوس تقضي بحمل تمثال الإله بِلْ في هودج فاخر مُطعّم بالذهب بعد إنزاله من محرابه داخل الهيكل، يتبعه الكهنة (الكمريا)، حيث يجري الطواف حول المعبد احتفالاً بالمناسبة".
أبحاث ومجلاتويُذكر أن الباحث ملاتيوس جغنون قدّم محاضرات عديدة، مُرفقة بعرض شرائح ضوئية، في مدن سورية مختلفة بالتعاون مع هيئات ثقافية متنوعة، وكانت هذه المحاضرات فرصةً للتعرّف على جهده العلمي. كما شارك في ندوات تكريم بعض المبدعين، ورافق أغلب رحلات جمعية العاديات التي شاركنا فيها قبل الحرب، حيث كان يُقدّم المعلومات عن كل آبدة آثارية نزورها بأسلوب سلس يناسب جميع أعمار المشاركين، وكأنه يتحدث عن جزء من بيته، ما يعكس عشقه العميق لتلك الأوابد ويزيد من شغفنا وإعجابنا بما نسمع ونشاهد. وأحياناً كان يُطبع المعلومات ويوزعها على من يرغب في الاحتفاظ بها.
ونشر الباحث ملاتيوس جغنون العديد من الأبحاث، منها ما ظهر في (مجلة المعرفة) السورية، ومجلة STUDIA ORONTICA (دراسات العاصي) الأركيولوجية التخصصية التي كانت تصدر عن المديرية العامة للآثار والمتاحف السورية (GDAM)، بالإضافة إلى مقالات في (مجلة الباحثون) السورية، و(مجلة العلوم)، وفي المغترب، نشر أبحاثاً في (مجلة الجمعية الكندية للدراسات السريانية).
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية ثقافة وفنون رأس السنة فی هذا کانت ت
إقرأ أيضاً:
أحمد حافظ: مهنة المونتاج تشبه الهندسة كثيرًا
أقيمت منذ قليل ندوة للمونتير الشهير أحمد حافظ، ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ45, والتي من المقرر أن تستمر حتى 22 نوفمبر الجاري، وتدير الجلسة الحوارية المخرجة مريم أبو عوف، ويكشف حافظ خلال الندوة عن كواليس عمله في أفلام شهيرة، ويمنح الحضور نظرة تفصيلية عن فن المونتاج.
أحمد حافظأحمد حافظ يكشف أقرب مهنة للمونتاجكشف المونتير أحمد حافظ خلال ندوته بمهرجان القاهرة السينمائي، أن مهنة المونتاج تشبه مهنة الهندسة، قائلا: "المونتير عامل زي المهندس، بيقعد مع العميل ويشوف يحب إيه وأي لون يعجبه، طب تحب شكل الكنب عامل ايه، المونتير زيه بالضبط بيقعد مع المخرج ويشوف هو حابب يعمل ايه".
ندوة أحمد حافظمن هو أحمد حافظ.. أشهر مونتير في مصرأحمد حافظ واحد من أشهر مونترين الوسط الفني المصري، بدأ المهنة في عمر الـ 14 عامًا واستطاع أن يحقق عدة نجاحات مؤخراً فى الكثير من الأعمال الدرامية والسينمائية، ومن أبرز هذه الأعمال، فيلم كيرة والجن، مسلسل تحت الوصاية، فيلم ان شاء الله ولد، وفيلم ليلة قمر 14، فيلم العارف، فيلم فوي فوي فوي، مسلسل هجمة مرتدة، فيلم الفيل الازرق 2، ولهذا النجاح فقد تم اختياره لعمل ضخم وهو مسلسل مارفل Moon Knight، وهو نجل المهندس محمود حافظ الذى كان يعمل مديراً لأستوديوهات الأهرام كما أنه من أهم المونتيرين فى الوسط الفني.