نساء فضليات من الجزائر يوشكن على الرحيل
تاريخ النشر: 10th, October 2024 GMT
ربما شاءت الأقدار لنا أن نشهد صنفا من النساء في الجزائر العميقة قبل وداعهن الأخير، صنف يندر أن تجد له مثيلا في هذا الزمان، يختزن في شخصيته الفذة بقايا الحضارة الإسلامية قبل أن تدوسها الجاهلية الغربية. نعم، إنهن نسوة ولدن قبل الثورة التحريرية في منتصف القرن الماضي، ومنعهن آباؤهن من الالتحاق بالمدارس الفرنسية، التي كانت تستهدف بمناهجها غسل أدمغة الأجيال الناشئة، ترسيخا لنفوذ فرنسا الاستعمارية وراء البحار.
جيل ترعرع معظمه في حضن الطبيعة، فأخذ منها صفاءها وجمالها وخيريتها، البساطة في العيش عنوانه، والعفة والصدق والإخلاص خصاله، لم يتسلل إليه ما يكدر صفوه رغم وقوع البلاد كلها في قبضة المعمرين، فكان من لطف الله بالناس أن شغل المحتلين بنهب الخيرات وأخذ الإتاوات من الأهالي، فلم ينشغلوا كثيرا بالإنسان، الذي وجد في الإسلام خير ملاذ يقيه من هذا الشر المستطير.
كان الجزائريون في تلك المناطق لا يختلطون بالمستعمرين ولا يتخذون طباعهم مثالا يحتذى، ينتظمون في عروش شديدة الارتباط في ما بينها، تتخذ من الأئمة والحكماء من كبار السن قيادة اجتماعية تكفيها عار التحاكم إلى الإدارة الفرنسية. ولتركيز فرنسا سياساتها الاستعمارية على طول الساحل، فقد حظي المجتمع في العمق الجزائري بالثقافة الإسلامية الموروثة من العهد العثماني كما هي لم تتبدل؛ فلقد كانت كل قرية إبان ذلك العهد تحظى بمدرستين إحداهما للبنات وأخرى للبنين، مناهجها مستمدة من المعارف الإسلامية الخالصة، سارع الاحتلال إلى غلق أبوابها عقب غزوه مباشرة، وذلك ما يفسر لنا تجذر الوعي الديني للأجيال التي تعاقبت بعد سنة 1830م، وتوارثها للقيم التي تشربتها أبا عن جد مشافهة حتى وصلت آمنة صحيحة لهذا الجيل من النسوة، اللائي يعشن حاليا آخر أيامهن المباركة.
جيل ترعرع معظمه في حضن الطبيعة، فأخذ منها صفاءها وجمالها وخيريتها، البساطة في العيش عنوانه، والعفة والصدق والإخلاص خصاله، لم يتسلل إليه ما يكدر صفوه رغم وقوع البلاد كلها في قبضة المعمرين، فكان من لطف الله بالناس أن شغل المحتلين بنهب الخيرات وأخذ الإتاوات من الأهالي، فلم ينشغلوا كثيرا بالإنسان، الذي وجد في الإسلام خير ملاذ يقيه من هذا الشر المستطير.ربما تكون الأسر الجزائرية في القرن التاسع عشر قد وجدت في نساء بني عداس الممتهنات للوشم حيلة كيما تتميز بناتهن عن بنات المستعمرين، فيتعرف من خلال سيماهن أبناء جلدتهن إذا ما أراد المحتلون اختطافهن، في ضرب مبتكر من ضروب المقاومة حتمته الظروف. ولدارسي علم الأنسنة مادة غنية من الرموز التي نقشت على وجوه صبوحة وأيد مصقولة. ولقد وجدت لدى خالتي الثمانينية شيئا غريبا على معصميها، صليب في يمناها ونجمة سداسية في يسراها.
يحرص هذا الجيل من الأمهات على إخفاء زينتهن أيما إخفاء، ولا يكاد يظهر منها إلا ما كان عفويا غير مقصود، وتعتبرن إظهار شيء منها خارج غرف الزوجية كبيرة من الكبائر لا تقتربن منها بتاتا، وإخفاء الزينة الجسدية ليس مقصورا على الأجانب فحسب، فالأجانب لا يرين من المرأة غير عين واحدة أو عينين في أفضل الظروف، بل إنهن وإن تخففن من الحجاب داخل أسوار بيوتهن المنيعة، فإن حياءهن لا يزال يمنعهن من كشف شعورهن أمام أولادهن وأحفادهن ساعة الوضوء، ويكفيك كرجل أن تسمع صوت المؤذن لتعرف موعد تهيئهن للصلاة فتترك المكان تلقائيا، إنها أعراف ترسخت في السلوك ولا سبيل لأن تتخلى عنها هذه البيوتات العامرة بتاتا.
ولفرط حياء هؤلاء الجدات، يحرصن على عدم الأكل أمام أبنائهن الذكور إذا ما بلغوا الحلم، حيث تعمدن إلى النأي بموائدهن عن موائد الرجال حين المطعم، فللنساء غرفة المطبخ وللرجال غرفة الضيافة، وتبدي أغلبهن احتراما زائدا للرجل الذي لا يتردد على فضائهن وللبنات مثل ذلك في ما يخص أماكن الرجال. ومن أخلاقهن التي عايشت أيضا، أنهن كن يتقصدن نشر أثوابهن المغسولة حيث لا يراها الرجال، ثم إنك لا تراهن يدخلن بيوت الخلاء أو الاستحمام إلا عرضا، يتحين أوقات خلو البيت من الرجال ليفعلن ذلك. ولقد شكت إلي إحداهن منذ أيام، تنزيل بعض الشباب الحديث صور موتاهم من النساء المجلّات، تباهيا بهن ربما، قائلة: "كيف يظهر أولاد المتوفاة صورتها على "البكبوك" ـ تقصد نشر النعوة على الفايسبوك ـ وقد كانت مستورة طوال حياتها حتى بلغت عتيا لم يرها أحد غير أهاليهن، أنا أوصي أولادي بألا يفعلوا ذلك بي بعد وفاتي". يشير هذا إلى المنطق نفسه في الثقافة الإسلامية، الذي نلمسه في قصة السيدة فاطمة الزهراء مع أسماء بنت عميس (رضي الله عنهما)، حينما أفضت بنت الرسول (صلى لله عليه وسلم) إلى صاحبتها حياءها عندما تحمل على المحمل يوم وفاتها فيرى الناس جسدها الأنثوي مسجى، فاقترحت الصحابية الجليلة عليها أن تضع على جانبي المحمل لوحين ثم يغطى جسدها الطاهر بغطاء، فاستحبت الزهراء ذلك، ومضت الحادثة سنة حميدة إلى يوم الناس هذا.
لا تتمشي أغلب نساء هذا الجيل على أقدامهن إذا ما أردن التنقل داخل المدينة، كل ما على الواحدة منهن فعله أن تطلب من كنتها أن ترن بهاتفها البسيط على أحد أبنائها ليتصل هو بها على الفور، طالبة منه أخذها بسيارته ظهرا أو مغربا إلى مكان تريده، وعليه جلب شيء من الهدايا تحمله معها، ولا يرد أحد من الأبناء للأم طلبا ولو اضطر إلى الاستدانة. والظهيرة والغروب وقتان مثاليان لأن تتحرك هؤلاء النسوة فلا يراهن أحد من الناس، ولربما اتصلت هاتفيا بمن تقصد زيارتها لتترك لها قفل الباب مفتوحا حتى تتمكن من الولوج إلى البيت فلا تضطر إلى دق الباب والوقوف أمام البيت ريثما يفتح لها، وجلا من أن يتعرض شرفها المصون للهدر، وهي المكسوة بجلباب العفاف والطهر ظاهرا وباطنا.
كنت يوما في زيارة للمرحومة الأميرة بديعة، حفيدة الأمير عبد القادر الجزائري ببيتها في دمشق الفيحاء قبل سنوات، وكان بيتها مفتوحا للجالية الجزائرية ولكل محب للعائلة الكريمة التي تنتمي إليها السيدة الفاضلة. وفي أثناء تلك الجلسة حضرت امرأة برفقة ابنتها، عرفت منها بعد أن قدمت نفسها للحاضرين بأنها كانت تعمل صحفية في التلفزيون السوري تقدم نشرة الأخبار باللغة الفرنسية، فسألتها لم تركت العمل في القناة؟ فقالت بصدق المرأة الشريفة: "إنها أحست بأنها كسيدة بيت وأم لا يليق بها أن تظهر أمام العالم متبرجة بزينة". فقلت لها: "خيرا فعلت، وإن شعور المرأة بحاجتها إلى الستر يغالب رغبتها في التكشف". وأخبرتها بأن هنالك مناطق في الجزائر العميقة لا تزال المرأة فيها تتحلى بحياء يدفع السائقين إلى إطفاء أضواء سيارتهم كلما رأوا امرأة تمشي أمامهم في الطريق. فقالت لي تلك الصحفية متعجبة وكأنها ارتابت في ما أقول: "قل لي أين يحدث هذا؟ إنه خيال لا يصدق".
لا تمتلك أغلب هؤلاء النسوة سيولة نقدية بأيديهن، جل ما يملكنه حاجات خاصة تحويها خزانة أو حقيبة تقليدية، تحتفظن فيها بما يذكرهن بحياتهن الخاصة وعطورا طبيعية التكوين كالعنبر والعطرشة والجاوي والحناء والبخور، بيد أن إحساسهن بقوامة أزواجهن الوارفة يشعرنهن بالأمان الاقتصادي المستمر، فلا تبالي إحداهن باكتناز المال، فتراها تنثره نثرا على البنين والحفدة إذا ما وقع بيدها منه شيء، أو أنه سيكون عرضة لأن تتخاطفه فلذات الأكباد من بين يديها فلا يمر إلا وهو منطلق، اللهم إلا ما تريد الاحتفاظ به لزيارة تقوم بها أو لزائرة ستأتي إليها. وما كانت قد جمعته من نقود في حياتها فقد اشترت به حليا ذهبية أيام كانت أنوثتها مقبلة، تتزين بها في مناسبات احتفالية خالصة ببنات جنسها لا تتعداها، أما وقد أدبرت الحياة من خلفها، فقد دفعت معظمه إلى بناتها لتؤدين بها التبعل الموروثة ثقافته سرا، أو أنها باعت بعضا منه لتدفع به عنها شدائد مرت بها أو بأسرتها في خضم الحياة.
من كرم الله عز وجل بهن أنهن كن يلدن في بيوتاتهن، تقوم القابلة بكل ما يلزم لها حتى تتعافى، ولم تحك لنا إحداهن أنها أجرت عملية قيصرية، كالتي تلجأ إليها المصحات الحديثة كلما استعصت الولادة قليلا، يقوم بها طبيب غربي استجلب من جزيرة كوبا مع طاقم مختلط من النساء والرجال، في خطة خبيثة باتت مكشوفة لها علاقة بتحديد النسل في دول العالم الإسلامي.لا يغادر هذا الطراز الرفيع من بنات حواء بيت الزوجية إلا بإذن الزوج، ولا تراها تغادر البتة إذا ما أقعد زوجها أو كان في مرض الموت ولو طال به المرض سنوات، ويصبح بيتها موئلا لعائلتها الممتدة وللزوار أيضا، لا تكاد الأقدام تعرى عنه يوما واحدا، والعجيب أن تنزل البركة على هذا البيت في هذا الحال وفي كل حال، فيسع البيت الزوار ليلا ونهارا، ولا تنقطع الأرزاق عنه ولا تقل، الكل يساهم بما طابت به نفسه قل أو كثر. وإذا ما ترملت العجوز، فلا تكاد تمكث في بيتها أياما معدودات، عقب زيارة بعلها في قبره كأول ما تباشره المرأة بعد نفاد عدتها، لتبدأ فروع دوحتها الممتدة تتخاطفها، دعوة من هنا وأخرى من هناك وثالثة من هنالك... في تدافع على استضافها لا يكاد ينتهي ليشرع فيه من جديد، فلا تجد هذه المحظية حجة للتخلص من هذا البر إلا أن تقول لمن يدعوها إنها اشتاقت للعودة إلى بيتها أو أنها تستحي من رد الأباعد الذين يودون زيارتها في بيتها.
لا يكاد هذا الجيل الفريد من نوعه يدخل مرحلة سن اليأس في منصف الأربعينيات حتى تكون إحداهن قد أنجبت عشرة أطفال في المعدل الوسط، تزوج معظمهم فأصبحت بذلك جدة، بل أما لجد أو لجدة، وما كان ذلك ليحصل لولا الزواج المبكر، الذي كان يتم غداة البلوغ الشرعي، والخطبة تكون قد تمت قبله بسهولة ويسر، أو أن الفتاة كانت وصية امرأة محبة للعائلة تود الظفر بالمصاهرة والبنت لا تزال ملفوفة بقماطها. وما الضير في أن تتزوج البنت باكرا، وقد نشّئت كربة بيت فاكتنز جسدها البض بما صح من غذاء طبيعي لم تلوثه مواد كيماوية ولا أغذية مصنعة بينة الضرر.
ومن كرم الله عز وجل بهن أنهن كن يلدن في بيوتاتهن، تقوم القابلة بكل ما يلزم لها حتى تتعافى، ولم تحك لنا إحداهن أنها أجرت عملية قيصرية، كالتي تلجأ إليها المصحات الحديثة كلما استعصت الولادة قليلا، يقوم بها طبيب غربي استجلب من جزيرة كوبا مع طاقم مختلط من النساء والرجال، في خطة خبيثة باتت مكشوفة لها علاقة بتحديد النسل في دول العالم الإسلامي.
وإنك لتجد في أحاديثهن متعة لا تجد مثيلا لها في ما تسمع أو ترى اليوم، ورغم محدودية الموضوعات التي يتداولنها عن الحاضر والماضي، إلا أنها أحاديث لا تخلق من كثرة الرد، وكلما حلت إحداهن ببيتك فكأنما ملاك من السماء نزل، تعمد بحذق إن شئت إلى استثارة فطرتهن في حب الكلام لتروين لك ما قد روينه لك تكرارا، وفي كل مرة تجد من اللذة في ما تسمع ما كنت واجدا أول مرة. فسبحان من خلق وفرق! جيل آفل سيمضي إلى ربه قريبا وقد شهد له الجميع بالصلاح، وجيل ناشئ أوغل بعيدا في الحداثة، يغامر باستكشاف قيم جديدة، ويبحر عميقا في بحر لجي، "يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه النساء الجزائر الجزائر نساء تاريخ رأي مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة تكنولوجيا رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من النساء هذا الجیل إذا ما لها فی
إقرأ أيضاً:
قصي عبيدو لـ«البوابة نيوز»: الوحدة بين سوريا ومصر كانت من أنجح العلاقات والتحالفات
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال المحلل السياسي السوري قصي عبيدو، إن الوحدة بين سوريا ومصر كانت من أنجح العلاقات والتحالفات، ولو استمرت لكان الشرق أفضل وأقوى ولتغيرت معادلات كثيرة في هذا العالم، والفضل يعود للرؤية الثاقبة التي كان يتمتع بها الزعيم جمال عبد الناصر رحمه الله، ولكن لم تكتمل وبدأت تتدحرج بشكل سلبي، حتى تم فصل تلك الوحدة.
وأشار في تصيحات خاصة لـ«البوابة نيوز»، إلى أن العالم العربي بدأ يعاني منذ تم فصلها، وأن مصر دولة عظيمة وتاريخها حافل ولديها حضارة عريقة لم تكتشف حتى الآن، وشعبها شعب حاد الذكاء ومحب يعشق الحياة، ونتمنى أن تتطور العلاقات لنستذكر أيام الوحدة، ولعل الأمر يتكرر في قادم الأيام.