في الذكرى الستين لتأسيس العلاقات الدبلوماسية السودانية الجزائرية .. بقلم السفيرة/ نادية محمد خير عثمان
تاريخ النشر: 13th, August 2023 GMT
نادية محمد خير عثمان
سفيرة جمهورية السودان لدى الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية
يصادف هذا العام (2023) الذكرى الستين لتأسيس العــلاقات الدبلــوماســيـة الســودانية الجزائرية، تعزّزها عقـود ممتـدة لعلاقات تاريخية وثقافية وحضــارية عمـيـقـة وراســخـة.
تم تدشــيـن العــلاقــات الدبلوماسية بين البلدين في العام 1963م، إذ قدَّم الســـفير السوداني في القاهـرة، السـيّد أحمد مختار أحمد مصطفي أوراق اعتماده ســفيراً غير مقيم لدي الجزائر.
تربط بين البلدين، السودان والجزائر، علائق تجذّرتْ في انتمائهما معاً للدوائر العــربية والإفريقيــة والإســلامية. ولقـد توثقـت تلـك الروابـط عبر تواصل بيـوتات العلــم والشـيـوخ والسلطنات الإسلامية، والروابط الروحية التي جسّدتها الطرق الصوفية، خلال عقود طـويلة من التفاعل والتمازج بين شعبي البلدين.
وإلى ذلك ، تظلّ مديـنـة جــزائــرية عــريقـة مثـل “تلمسان”، محفـــورة في وجدان المثقّفيـــن السودانيين، نتيجة إرتباطهـــا الوثيق مع بيــــوت العلم والسلطنات الإسلامية في السودان، وفي مقدمتها سلطنة الفونج المعروفة بالسلطنة الزرقاء وعاصمتها سنار، في أواسط السودان. وقد تعدّدت الأواصر والوشائج عبر حالات عـديدة من التصـاهـر للوافدين والعابرين من حجيج ومن طلاب العلم الجزائريين، ممن استقــــروا وطاب لهم المقام بالسودان.
ويعدّ السودان أول دولة أفريقية في جنوب الصحراء الكبرى تنال استقلالها، وقد لعب إلى ذلك دوراً هاماً ومؤثرًا في دعم الشعوب الأفريقية الشقيقة التي عانت من ظلم الاستعمار، في سبيل أن تنال حريتها وحقها في تقرير المصير، حيـث قدم السند الكبير لحركات التحــرّر في شتي بقاع القارة، ومن بينها جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، وذلك من أجل القضــاء على الاستعمار البغيض، وإنهاء سياسات الفصل والتمييز العنصري في أنحاء القارة الإفريقية.
يتزامن الاحتفال بالذكري الستين لانشاء العلاقات الدبلوماسية السودانية الجزائرية مع إحتفالات الجزائر بستينية استقلالها. وقد شكلت إنطلاقة الثورة الجزائرية المجيدة في العام 1954 ، وجدان الشعوب العربية والأفريقية المتعطشة للحرية والانتعاق، كما انها عززت علاقات التعاون والترابط بين السودان والجزائر، وأندفع السودانيون لمؤازرة أشقائهم الثوار الجزائريين.
وزار وفد جبهة التحرير الجزائرية السودان في العام 1956 لعرض القضية الجزائرية علي الشعب السوداني، كذلك تم فتح مكتب لجبهة التحرير الوطني في الخرطوم. وزارت الحكومة المؤقتة التي تم تكوينها في العام 1958، السودان بوفد قاده رئيس الحكومة المؤقتة السيد/ فرحات عباس.
وكان السودان قد قدم الدعـم السياسي واللّوجستـي لثــــواّر جبهـة التحرير الوطني الجزائرية خلال فتـرة كفاحهم المسلـح ضدّ المستعمر. وهنا يجدر بنا تذكر تضحيات البطل السوداني “إبراهيم النيل” من اجل دعم الثوار، حيث قام بنقل السلاح والعتاد الحربي للثوار الجزائريين من ميناء الإسكندرية عبر البحر، بالإضافة الي علاقاته القوية مع قادة الثورة الجزائرية، وظل البطل ابراهيم النيل يقوم بنقل السلاح للثوار إلي أن وقع أسيراً في أيدي القوات الفرنسية خلال أحدى الرحلات.
إن دعـم ثورة الجــزائـر وشــــعـبها كانت من أبرز ركــائـز سياسـة السودان الخارجية، ففي 16 يوليو 1958 كان السودان من الدول الأولي التي وقعت علي الرسالة التي تضمنت طلب إدراج القضية الجزائرية في جدول أعمال الدورة الثالثة عشر للجمعية العامة للأمم المتحدة. كما عكستها بيانات السودان الرسمية في الأمم المتحدة، لا سيما بيانات مندوب السودان الدائم في الأمم المتحدة، السفير عمر عديل ، والذي انتخب رئيسا للجنة السياسية الأولى في عام 1960م، مثلما كان رئيســاً لمجمــوعـة المندوبين الدائمين الأفارقة في المنظمة الأممية، إذ جاء في كلمته في ذلك العام ما يلي :
” لقد سمي عام ١٩٦٠ “بعام افريقيا”، إذ شهد هذا العام نيل ستة عشر بلدا افريقيا كامل الإستقلال والسيادة ، ولقد انضموا لعضوية المنظمة الدولية وهنا يطل سؤال، لماذا تركت الجزائر دون أن تلحق بهذه البلدان ؟ وكيف هي مشاعر أصدقائنا في تركهـم إخوانهم الجزائريين يغرقون في دمائهم؟
إني لعلى ثقة أنهم في قلق بالغ، وأفئدة كسـيرة، مثلهم مثل إخــوانهم في الجزائر. إن الجــزائر أمّـة عريقة، ذات تاريخ عريق وارث ثقافي باذخ، هي شــريك في ثراء إنســاني مشترك، لو جاز لي القول، يتمدّد لمساحات شاسعة في أوروبا”.
هذا وقد ظلت الجــزائر وثورتها وانتصـارات شــعبها الأبـيِّ في المُخـيّـلــة الشـــعبية السودانية ، ومصدر إلهام عميق للشعـراء والفنانين السودانيين، حيـث لحن وتغنى بأنشودة “فضة” الشهيدة الجزائرية، الفنان السوداني الكبير الراحل/ عبد الكريم الكابلي :
“أغلى مِـن لـؤلـؤة بضّــــة
صِيْـدتْ من شــطِّ البحـريـن
لحنٌ يروي مصرعَ فضّـــة
ذات العينــيـن الطيبـتـيــن
كلهاة الطفـل بقلب ســريـر
لم تبلغ سِــنْ العشــريــن
واختارتْ جيش التحـريـر”…
ومجد الشاعر المرهف/ تاج السر الحسن الثورة والشعب الجزائري في رائعته ( آسيا وأفريقيا) . كذلك أنشد الشاعر السوداني المعروف/ محمد محمد علي، قصيدته في دعم الثوار:
وأرض الجزائر أرض النضال أحن إلى تربها المختصب
وأرسل روحي الى الذائدين وأسعى إليهم بعزم يثب
وفي دار يعرب حيث الضراب تموج جحافله في لجب
يثير بنوها حماة الديار أوارا يطاول هام السحب
حياتي فداءً لكل شهيد نما في ثراها وفيه أحتجب
ولئـن شكّل استقلال الجــزائر كما هو معروف، حدثاً تاريخياً بأبعـاده ومغازيه، وامتداد تداعياته أفريقياً وعربيا ودولياً، فقد كان سانحة أخرى لتعــزيز وتعميـق علاقات بلدينا وشعبينا ، حيث تواصل التنسيق بين البلدين ودعمهــما لحركــات التحــرّر الأفريقية وللقضية الفلسطينية، ولتعزيز دور حركــة عـدم الانحيــاز والعمل المشترك لتمتين موجبات السلام والأمـن إقليميا ودوليا، ومجابهة التحــديات والظواهر السلبية العابرة للحدود والتي تهدّد السلام والأمن والاستقرار في كامل الإقلـيـم.
ظللنا في السودان نتابع باهتمامٍ كبير سياسات الجزائر على كافة الأصعـدة، فقـد ظلـت نصيرة ورائدة لتطلعات أفريقيا في الأمن والسلام والاستقرار، كما كانت رائدة كذلـك في تعزيز التعاون العربي الافريقي.
أما العلاقات السودانية الجزائرية، فقد شهدت خلال الســتين عاماً المنصرمة حـراكــاً وتعاوناً أخويّاً صادقاً، عبر آليات التعاون المعروفة والتي جسدتها اللجـنة الوزارية المشتركة بين البلدين، ولجنة التشاور السياسي واللجان الفرعية الأخرى، مثل اللجنة الفنية للتعاون في مجال الزراعة والثروة الحيوانية. وتم خلال تلك الفتــرة المثمرة من العلاقات الوثيــقة بيـن البلدين، تبادل العديد من الزيارات علي مستوي رؤساء البلدين وعلى المستوى الوزارى .
لقد تبادل البلدان الشــقيقان السند والدعــم المشــترك لجهـــودهما في المحافل الدولية والإقليمية، دفاعاً عن قضاياهما ومصائرهما المشتركة. وهنا نشير إلي التقدم الكبير الذي شهدته علاقات البلدين بإنطلاق القمة العربية مطلع نوفمبر 2022 ، والتي مثلت فرصة للقـاء رئيـسي البلدين وتأكيدهما علي ضرورة الرقي بالعلاقـات الثـنائية إلي مستويات أرفع تلبّي طمــوحات البلدين والشـعبين الشـقيقين. ونتيجة لذلك، تم تبادل العديد من الزيارات علي أعلى المستويات، كما تم عقد إجتماعات ثنائية مهمّة، وتوّج هذا الحراك في مجال التعاون التجاري بتصـدير أول شحنة من اللحــوم السودانيـة ووصولها إلي أرض الجزائر في مارس من هذا العام.
كما شهدت العــلاقات الثقافــية حراكاً ملحوظاً، إذ شاركت الفرق الشـــــــعـبية مهرجانات البلدين، ومن اللافت أيضا، التواصل في المجال الرياضي ، حـيــــث وفّـر فــرصـاً للشباب وللفرق الرياضية من توثيق الصــلات فيما بينهما، ولا يزال الاشــقاء في الجــزائر يتذكرون بكثير من الغبطة والعرفان نيلهم بطاقة التأهل لكأس العالم في العام 2009 من العاصمة القومية أمدرمان.
كما أنّ الجزائر مثلت محطة مهمة لاستضافة معسكرات التدريب لعددٍ من فرق كرة القدم السودانية المشاركة في المنافسات الإقليمية. هذا بالإضافة إلي المنح الدراسية التي تمنحها الجزائر لطــلاب الدراسات العليا الســودانيين، وتوفير فرص التدريب في العديد من المجالات الأخرى.
ومن نافـــلة القول، أن نشير إلى التعاون السياسي بين البلــديــن، وتطابق رؤاهــما حــول العــديد من قضايا الإقليم الحيوية، وأن السودان يتبع في سياسته الخارجية توجّها خاصاً لتعــزيـز تواصله مع الأشــقاء في كافة منابر وآليات العمل الاقليمي والدولي.
ونحمد للجزائر تفهمها لقضايا السودان ، ولطالما عبر المسئولون فيها عن حرصهم أن يظل الســودان آمنـا مستقراً ، لما في ذلك من تأثير إيجابي لكافة البلدان التي تجاور كلاً من السودان والجزائر.
ولا يفوتني هنا أن أزفّ التهنئة بإسم بلادي، للجزائر لفــوزها المسـتحق بالعضوية غير الدائمة بمجلس الأمن للفتـرة 2024-2025 ، والذي يعكس الثقة الكبيرة التي حظيت بها على مستوى المجتمع الدولي. ولقد تجلّى حرص الجزائر وهي تمثل بلدان وشعوب اقليــمها، مناداتها بإصلاح الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، خدمة للأهداف المبتغاة، وتعزيزاً للصوت الأفريقي ولدعم مصالح القارة الأفريقية.
ومما لا شك فيه، أن الجزائر وهي تتبوأ هذا المنصب، ستكون عونا للدول الأفريقية، في جهودها لتحقيق الأمن والاستقرار والتنمية المستدامة لشعوبها.
وإذ يطوى البلــدان ســـتين عاما منذ إنشاء علاقاتهما الدبلوماسية، فإنهـما يتطلعان للمزيد من تعزيز عــلاقات البلدين ،عبر آليات التعـاون المشتركة، وعلى المستويـيـن الرَّسمي والشعبي، حتى تكون العلاقات السودانية الجزائرية، أنموذجا يحتذى فى العالميــن العــربى الأفريقى.
وختاماً، وفي معرض الاحتفاء بذكــرى تدشــين تلــك العلاقــات الأزلية بين الشعبين والدولتين: السودان والجزائر، أود أن أعبَّـر شخصياً، وأنا أتشرف بتمثيل بلادي لدي الجزائر، عن أمنياتٍ قلـبـية صادقة للبلدين الشقيقين، وأن يديـم الله عليهما نعمة الإستقرار والتقـدم والازدهار. كما لا يفوتني أن أحيّي في هذه الذكـري، السّــفراء والدبلوماسيين الذين تعاقـبـوا علي ســـفارتي البلدين في العاصمتيـن، الخرطوم والجــزائر.
أغسطس 2023
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: بین البلدین فی العام
إقرأ أيضاً:
الهوية السودانية بين الغابة والصحراء (1/2)
ali.hag.mohamed@gmail.com
السودان بموقعه المميز فى قلب القارة الإفريقية يشكل معبرا مهما لكل ما هو قادم من الشمال الإفريقى و الشرق الآسيوي، إلى جنوب و غرب و شرق القارة السمراء. و يحتل مساحة تقدر ب 1886000 كيلو مترا مربعا تجعله فى المرتبة الخامسة و الثلاثين عالميآ و الرابعة عربيآ.
على أرضه نشأت أعرق الحضارات العالمية على الإطلاق، و هى الحضارة النوبية و عاصمتها كرمة و التى تؤرخ على أنها أول عاصمة ولأول دولة فى العالم و نظامها الملكى هو الأقدم في التاريخ البشرى.
شيدت هذه الحضارة المعابد و الأهرامات و عرفت الصناعة والتجارة و إستخدمت الحديد و معادن أخرى كأدوات متعددة الأغراض و الإستخدام و كتبت بلغتها قبل اللغة الفرعونية المصرية بعدة قرون .
و إمتد حكم الفراعنة السودانيين إلى مصر و حكموها مئات السنين و تواصل حكمهم و بلغ حتى فلسطين فى العام 3050 قبل الميلاد.
فى عام 1924 عثر فى مدينة سنجة الواقعة على النيل الأزرق على أقدم الهياكل البشرية فى العالم و هو يعرف ب ( إنسان سنجة ) الموجود في المتحف البريطاني، و دلت الدراسات إلى أنه يعود إلى العصر الحجري، أى إلى قبل أكثر من 160000 سنة مما يؤكد بالدليل القاطع أن الإنسان الأول عاش على هذه الأرض و كما تشير خارطة النمو البشرى الموجودة في المتحف الطبيعى فى مدينة ملبورن الأسترالية.
فى عام 1504 تأسست دولة السلطنة الزرقاء و التى عرفت كذلك بالدولة السنارية منسوبة إلى عاصمتها مدينة سنار، نتيجة تحالف بين قبائل الفونج الزنجية على النيل الأزرق بقيادة عمارة دنقس و قبائل العرب في وسط و شمال السودان بقيادة عبد الله جماع، كأول دولة إسلامية و عربية تجسد الواقع الجغرافى و العرقي ، جذورها أفريقية و جوهرها و ملامحها عربية.
و شكلت النواة الأولى للسودان بحدوده الحالية.
وظلت هذه السلطنة متماسكة و قوية حتى عام 1821، و بذلك تعتبر فترة حكمها هى الأطول لدولة عربية إسلامية بعد سقوط الأندلس.
فى عام 1881 قاد الإمام محمد أحمد المهدى - القادم من الشمال النوبى - ثورة شعبية مسلحة ضد الحلم التركى المصرى و المدعوم من بريطانيا و أستطاع أن يجمع حوله رجالا من معظم أقاليم و قبائل السودان فى تحالف و تآذر بديع إختفت خلاله كل الفوارق الإثنية و الجهوية و توحدت الإرادة و الرؤية والرسالة.
و كانت الثورة تهدف فى المقام الأول رفع مظالم ما يعرف الآن ( بسلطة التركية السابقة ) و إسقاطها و من ثم إقامة دولة إسلامية على هدى الخلافة الراشدة تتعدى حدود السودان شمالا إلى مصر و شرقا إلى الحبشة و غربا إلى ليبيا و دول الغرب الإفريقي، تحمل و تبشر بعالمية الدعوة الإسلامية.
بعد معارك عنيفة و خاطفة في مواقع الوجود الإستعماري وصلت الى الخرطوم و التى سقطت بمقتل القائد الإنجليزي الشهير غردون فى عام 1885. و أعلن عن الدولة المهدية و التى أتخذت مدينة أم درمان عاصمة لها. و بعد أشهر وافت المنية الإمام المهدي و خلفه عبد الله التعايشي و كان رجلا ضيق الأفق و تكالبت عليه عدة عوامل لم يحسن التعامل معها و أدت فى النهاية إلى تفكك الدولة الوليدة و إنتهت بالغزو الانجليزي و هزيمتها في معركة كررى في عام 1889.
ومنذ ذلك التاريخ بدأت حقبة جديدة من عصر الإستعمار البريطاني في السودان و الذى مارس سياسته المعروفة ( فرق تسد ) و فى ضرب عناصر القوة المادية و المعنوية للشعب و إعلاء عناصر الهدم و الخنوع. فقام بحملة ممنهجة فى شيطنة العرب و المسلمين لدى القبائل الزنجية و محاربة التعليم الديني فى الخلاوي و تقديم قدر مبسط من التعليم الابتدائي و الأوسط لأبناء المركز فى تجاهل متعمد في تعليم أبناء الأطراف و سعى إلى خلق مراكز قوى فى الأقاليم من زعماء القبائل مقدما العصا و الجزرة.
فصل الجنوب إداريا و جعل منه منطقة مقفولة لا يمكن العبور إليها إلى بإذن خاص. و أستغل واقع العرق الزنجى في الجنوب فى بث روح الكراهية و الحقد تجاه الشمال العربى بروايات و قصص مختلقة و مكن الإرساليات المسيحية و أطلق يدها في التنصير و التبشير و ضيق الخناق على العرب والمسلمين.
هذا الواقع الجديد قاد إلى بروز طبقة نيرة من و السياسيين و الأدباء والكتاب و الشعراء و المبدعين ذوى ثقافة عربية و إنتماء بالكامل للأمة العربية فى الجوهر و المظهر، كردة فعل طبيعية لمحاولة الإستعمار في طمس الهوية الإسلامية و العربية و عزل السودان عن محيطه العربي والإسلامي.
و تشكلت مدارس فكرية مرتبطة إرتباطا وثيقا بمدارس فكرية فى مصر و فى المشرق والمغرب العربيين.
و كانت هذه المدارس نواة لحركة ثقافية وفكرية عارمة ذات أهداف و تطلعات وطنية، إنتظمت معظم مدن السودان الكبرى ، و من رحمها ولد معظم السياسيين و الشعراء والأدباء الذين قادوا حركة الخريجين في نهاية ثلاثينات القرن الماضي و التى إنتهت إلى تكوين الأحزاب السياسية و التى قادت إلى إستقلال السودان فى مطلع عام 1956.
فى السودان المعاصر تعيش فسيفساء من السحنات من القبائل العربية و الزنجية و الغالبية هى هجين بين هذه و تلك. و عددها يصل إلى ما يقارب 570 قبيلة، مقسمة إلى 57 فئة إثنية و يتحدثون حوالى 114 لهجة محلية و يشتركون جميعا فى التحدث باللغة العربية الدارجة السودانية.
هذا التنوع العرقي و الثقافى كان له الأثر الإيجابي في مرحلة ما بعد الإستقلال وقدم دفعة مهمة أثرت في مواطن الإبداع شعرآ و نثرآ و تشكيلآ في تلاقح ، جامع و مزهر للنسيج الاجتماعي في البلاد.
و لم تكن الهوية الوطنية السودانية همآ أو شاغلآ لقادة السودان بعد الإستقلال. و كان الإنتماء العربي و الإسلامي أمرآ لا جدال حوله و يعتبر من البديهيات المسلمات بهما . و قد تكون هناك بعض الأصوات الخافتة و التى تهمس على على إستحياء في الخفاء.
و أول ظهور للعلن يخاطب مسألة الهوية السودانية كان في عام 1962 فى مدرسة الغابة و الصحراء . و هى حركة شعرية ثقافية تمازج بين العنصر العربى و يرمز له بالصحراء و العنصر الإفريقى و يرمز له بالغابة . و من أبرز مؤسسيها النور عثمان أبكر، محمد عبد الحى ، محمد المكى إبراهيم، يوسف عيدابى، إسحاق إبراهيم، عبد الله شابو، على المك، مصطفى سند و صلاح أحمد إبراهيم.
و هذه المدرسة كانت صيحة في واد ، ذهبت أدراج الرياح و لم تترك اثرآ ظاهرآ و خلفت إرتدادات أشبه بما يحدث بعد زلزال عنيف.
و لقد تعرضت لإنتقادات جمة لغلو الطابع اليسارى عليها و ولعدم توافقها على تعريف محدد للهوية.
بعضهم كان يميل إلى إعلاء الأثر و التأثير الإفريقى كالنور عثمان أبكر و بعضهم يغلب الأثر العربى كصلاح أحمد إبراهيم و آخرون يميلون إلى الهجين كمحمد المكى إبراهيم كما جاء في قصيدته الشهيرة ( بعض الرحيق أنا و البرتقالة أنت ) لله يا خلاسية. و التى يقول فى بعض أبياتها ( يا بعض زنجية يا بعض عربية و بعض أقوالى أمام الله ) .
و كتب هؤلاء الشعراء و الأدباء شعرآ ونثرآ راقيا بلغة عربية مبينة و رصينة و زينوها بمفردات و مقولات و تعابير من الموروث الشعبي و اللغوي المحلي في تناسق جميل و غير مخل للفصحى أو للعامية الدارجة. و هذا التداخل المحبب بين اللهجة و اللغة ليس فيه خروج عن المألوف فى الأدب العربي و لا يدل على هوية غير عربية. فالقاص المصرى يحى حقى جسد هذا النهج القويم و عبر عنه في روايته ( قنديل أم هاشم) . و كذلك نحى نحوه الأديب العالمى نجيب محفوظ فى تناوله لشخوص و مسارح رواياته.
و أديبنا السودانى الطيب صالح جعل من رواياته صورة ناطقة عن الريف السودانى بتوصيف دقيق بريشة فنان آخذ فيه العامية في عزف متناسق مع الفصحى. و شاعر إفريقيا محمد الفيتوري و الذى طالما تغنى بها ولها فى معظم قصائده، ظل قوميآ عربيآ و لم يتنكر لعروبته في يوم من الأيام.
أثار مقالي المنشور فى المدار قبل فترة بعنوان ( الوحدة العربية بين الواقع و الأمل ) ردودآ متباينة بين السودانيين. و كانت فى غالبها سلبية تجاه الوحدة العربية و تميل إلى التقوقع في الإطار القطرى، بعضها يدعو إلى قطيعة كاملة مع العرب و يدعو الله أن يكفينا شرهم وتآمرهم .
كتب أحدهم ( نحن مع العرب و تجمعنا المشاعر و الأهداف و لكنى لا أؤمن بالوحدة العربية )
و كتب آخر ( نحن أفارقة أصلآ و لا يهمنا توحد العرب أو تفرقهم ) .
وكتب لى صديق ثالث أعرفه جيدآ و هو مناضل و ناشط سياسي معروف قائلآ ( لقد تصالحت مع نفسى و تخلصت من وهم عروبتى و أنا الآن أكثر تناسقآ من الناحية النفسية من حيث اللون و الشكل و الجينات . فقد وجدت قناعتي بأني سوداني و أفريقي، ناطق بالعربية و ثقافتي أفريقية ممزوجة بشئ من الثقافة العربية و الإسلامية بحكم الجوار ) .
و كتب رابع ( العرب لا يعترفون بنا بحسباننا أفارقة و الأفارقة لا يعترفون بنا بحسباننا عرب و أصبحنا هكذا كالنعامة، لا طائر و لا جمل ) .
بقية الردود على هذا المنوال و الذى يشكل ردة على الإنتماء العربي و الإلتزام القومي لدى السودانيين و الذى كان يهتف على الدوام ( جيش عربي واحد شعب عربي واحد ) .
و يعبر عن إنقلاب فى المفاهيم و المبادئ و القيم التى تخلقت و تشكلت مع نشأة الدولة السودانية الحديثة التي أسسها و رعاها وحافظ عليها جيل الإستقلال .
إن هذا التطور السلبي في مفهوم الوحدة العربية و الإنتماء القومي ، جعل قضية الهوية السودانية حاضرة بقوة و تطرق الأبواب بعنف فى عالم متحرك نحو المجهول و فى إقليم تمزقه الحروب و المنازعات و التناحر و أصبح مسرحا تصفى فيه الخلافات الدولية .
و نحن نعيش الآن ثورة نأمل ان تصل إلى مبتغاها في نظام ديمقراطي تسوده الحرية و السلام و العدالة.
و هذا التطور لم يحدث بغتة و إنما نتيجة تراكمات و مسببات و مبررات، نمت و ترعرعت في العقود الثلاثة الأخيرة. و التى كانت لها أرضية نتنة خفية منذ الفترة الإستعمارية، إستغلها النظام الظلامي للإخوان المسلمين، فأزكى نار الفتنة و الفرقة بين القبائل العربية و الزنجية و أعلى روح القبلية و الجهوية . و أشعلها حربآ دينية قادت إلى إنفصال الجنوب و حربآ عرقية تآكل الأطراف في جنوب كردفان و النيل الأزرق و دارفور.
هل هذا التحول فى مفهوم الوطنية والقومية و الإنتماء الجغرافي شأن سوداني خالص أم له إمتداد و تواصل مع محيطه العربي و الإفريقي ؟
و هل أسبابه و دواعيه و منطلقاته و أهدافه موضوعية و عميقة و مجذرة، أم هى سطحية و طافية على سطح من الأوهام و الخيال و مسنود على الواقع العربي المزري ، و يمكن التغلب عليها و إزالتها و العبور بمستقبل السودان إلى موقعه الطبيعي و المؤثر إيجابيآ في العالم العربي كما حدث عام 1967 في فى مؤتمر اللاءات الثلاث فى الخرطوم.
هذا ما سأجيب عليه فى الجزء الثاني من هذا المقال.
د. علي إبراهيم