نشرت مجلة "فورين بوليسي" تقريرًا تناولت فيه التأثيرات الاقتصادية للحرب التي اشتعلت عقب هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وأسفرت عن مقتل أكثر من 40 ألف شخص.

وفي حين امتدت الحرب إلى ما هو أبعد من إسرائيل وغزة ليشمل لبنان والآن إيران، إلا أن الآثار الاقتصادية ظلت محدودة إلى حد كبير على المشاركين المباشرين في الحرب، فحتى أسعار النفط ظلت مستقرة إلى حد كبير، على عكس ما حدث خلال الحروب الأخيرة في الشرق الأوسط.



واستعرضت المجلة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي 21"، هذه الآثار من خلال حوار أجرته مع الكاتب آدم توز، والذي أرجع عدم اتساع دائرة التأثير الاقتصادي لهذه الحرب على المستوى الإقليمي إلى حصار غزة الذي دام لسنوات طويلة والضرر الذي خلفه هذا الحصار؛ حيث كانت غزة لا تمتلك أهمية اقتصادية طويلة.



وكذلك الضفة الغربية، على الرغم أنها أكثر تكاملاً مع اقتصاد جيرانها، وخاصة إسرائيل، لكنها أيضًا منطقة صغيرة، مشيرًا إلى أن الناتج المحلي الإجمالي قبل اندلاع الأزمة كان يبلغ أقل من 18 مليار دولار، ثم انخفض لاحقًا بنسبة 20 إلى 25 بالمائة، على الأرجح.

وأضاف توز أن هذه الضربة الهائلة يمكن مقارنتها بأسوأ فترات إغلاق كوفيد؛ حيث تعتبر صدمة وكسادًا مدمرًا حقًا، لكن كلا الاقتصادين صغير وغير قادر على زعزعة استقرار الاقتصادات الكبرى المحيطة بهما. ولا ترقى هذه الاقتصاديات الصغيرة لهذه الكيانات - حتى إذا أضفنا إليه إقتصاد سوريا المدمرة منذ خمسة عشر سنة، والأزمة في لبنان ــ إلى مستوى تلك الاقتصاديات التي تستطيع إحداث هزات ضخمة. 

وبحسب توز، يرجع هذا إلى التفاوت في العوائد، فدول الخليج، أو مجلس التعاون الخليجي يبلغ الناتج المحلي الإجمالي فيها 2.3 تريليون دولار. وإذا أضفنا قطر، فإن الناتج المحلي الإجمالي يقترب من 2.5 تريليون دولار. بينما تعتبر إيران معزولة إلى حد كبير عن جيرانها بسبب مجموعة متنوعة من آليات العقوبات المفروضة عليها. وتمر العراق في دوامة أزمات متكررة، وتعتمد بشكل غير صحي على صادراتها النفطية. 

وأوضح توز أن الحديث هنا عن منطقة مفككة وغير متماسكة تمامًا وليس عن اقتصاد إقليمي متكامل حقًا حيث تواصل دول الخليج توليد عائدات ضخمة من صادرات الوقود الأحفوري، والتي يتم توجيهها إلى حد كبير نحو الأسواق الآسيوية، ولكن المنطقة ككل غير متماسكة تماما؛ حيث إن أكثر منطقة متورطة في الأزمة معزولة، بينما الدول الكبيرة جدًا، والتي لا يمكن السماح لها بالإفلاس مثل مصر، مدعومة بشكل أساسي بالدعم الخارجي من صندوق النقد الدولي والمساعدات الكبيرة جدًا من الأموال الخليجية، سواء من الإمارات أو السعودية. 

وبسؤاله عن نوع الضغوط الاقتصادية التي تتعرض لها إسرائيل، أفاد توز بأن الاقتصاد السياسي الحالي لإسرائيل تم بناؤه لهذا الغرض؛ حيث لم تعد إسرائيل في الوضع الذي كانت عليه في السبعينيات والثمانينيات عندما كانت تعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية.

واعتبر أن اقتصاد إسرائيل غنيٌّ للغاية؛ حيث كان يفوق نصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي من نظيره في ألمانيا. إنها مختلفة تمامًا عن مشروع الاستعمار الاستيطاني الفقير نسبيًا في الخمسينيات والستينيات، لكنها تراهن على حرب متصاعدة.

وأوضح توز أن هذه الحرب لا تشبه ما حدث في سنة 1973 عندما واجه الإسرائيليون تهديدًا وجوديًا، بل إن إسرائيل تعمل بشكل متعمد على تصعيد الدمار في غزة والجهود المبذولة للتعامل مع حزب الله في لبنان، وهو الأمر الذي يعتبر مكلفا للغاية.

ووفقاً للبنك المركزي الإسرائيلي، فإن الفاتورة الحالية التي يعتقدون أنها ستصل إلى 66 مليار دولار، وهو ما يعادل نحو 11 بالمائة أو 12 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي الإسرائيلي قبل الحرب. ويتم إنفاق هذا المبلغ على مدى عدة سنوات، لذا فإن التكلفة لا يتحملها الاقتصاد دفعة واحدة. وحتى مع المساعدات الأمريكية، التي تصل إلى نحو 14 مليار دولار إلى 15 مليار دولار ـ أي ما بين 20 بالمائة و25 بالمائة من هذا الإجمالي ـ فإن هذا يشكل عبئاً ثقيلاً. 

وأضاف توز أن السياحة إلى إسرائيل قد انخفضت بنسبة 75 بالمائة وهو ما يُعتبر أمرًا ضارًا للأعمال. كما أنهم اضطروا إلى تعبئة مئات الآلاف من الجنود، وذلك من أجل تحقيق هدف الحكومة الإسرائيلية بتوسيع نطاق الحرب وشن حملة متزامنة في غزة ولبنان.

ومن الواضح أن هذا من شأنه أن يعطل إسرائيل التي يبلغ تعداد سكانها عشرة ملايين نسمة، هذا إلى جانب فرض حظر على العمال القادمين من الضفة الغربية لأسباب أمنية وسياسية؛ حيث فقد ما بين 80 ألفاً و150 ألف عامل تصاريحهم. 

وذكر توز أن هناك انعدام للأمان في الأسواق العالمية فيما يتصل بإسرائيل، وذلك بعد أن كانت لفترة طويلة تعد رهانًا آمنًا للغاية بالنسبة للمستثمرين الماليين، إلا أنها أصبحت تفقد هذه المكانة إلى حد ما. فلم تعد إسرائيل مركز التكنولوجيا الجذاب الذي كانت عليه سابقًا.



وليس من المستغرب إذن أن تتراجع تقديرات نمو الناتج المحلي الإجمالي من انتعاش سريع نسبيًا من كوفيد-19 بنسبة 3 أو 4 بالمائة إلى ما يقرب من الصِفر أو ربما نصف نقطة مئوية في المستقبل القريب.

لذا فإن إسرائيل تنمو ببطء، وتواجه زيادة كبيرة في الإنفاق الحكومي، مع إضافة عدة نقاط مئوية، ربما تصل إلى 10 نقاط مئوية، من الناتج المحلي الإجمالي. ولهذا السبب خفضت وكالتا التصنيف ستاندرد آند بورز وموديز تصنيف إسرائيل بعدة درجات هذه السنة، وفقا للمجلة.

وأشار توز إلى أن إسرائيل رغم كل ذلك تبقى بمستوى ديون إلى الناتج المحلي الإجمالي يبلغ 60 بالمائة، وهو نصف مستوى ديون الولايات المتحدة، ولا تزال تكاليف اقتراضها قريبة من تكاليف الاقتراض الأمريكية، مما يعني أنها ليست في خطر كبير من أن تصبح ديونها كبيرة.

وبسؤاله عن تأثير التصعيد الأخير على إيران من الناحية الاقتصادية؛ قال توز إن الناتج المحلي الإجمالي لإيران يبلغ 380 مليار دولار، مقابل أكثر من 500 مليار دولار لإسرائيل التي يبلغ سكانها  10 ملايين نسمة.

وهذا يعتبر تباينًا غير معقول. فلا يتوقع أن يكون  لدى إيران ناتج محلي إجمالي للفرد أعلى من إسرائيل، لكن من المتوقع ألا يكون الفارق بهذا الحجم. وهذا يعكس المشاكل التنموية للنظام الإيراني منذ الثورة وما قبلها، وأيضًا تأثير العقوبات التي تعرضت لها إيران عبر الزمن، وخاصة بعد انهيار الاتفاق النووي في إدارة ترامب.

ومع هذا النوع من الناتج المحلي الإجمالي، فإن إيران لديها الموارد الكافية لتقديم مليارات الدولارات لحزب الله ودعم حماس، مما يمكنها من القيام بتدخلات منخفضة التقنية والتكلفة بحسب توز.

وأضاف توز أن بمثل هذا القدر من المال تستطيع إيران تمويل تصنبع صزاريخ كروز منخفضة التقنية وبرنامج تطوير نووي مكلف ذلك أن مبلغ 380 مليار دولار يكفي لتمويل هذا البرنامج. ولكن يظل الإنفاق العسكري الإسرائيلي في الوقت الحالي أكبر بنحو أربعة أمثال الإنفاق العسكري الإيراني، وفقًا لبيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام. 

وشدد توز على أن عواقب التصعيد بالنسبة لإيران ستكون أكثر قسوة مما هي عليه بالنسبة لإسرائيل، لأن إيران تواجه هامشًا أصغر من الفائض الاقتصادي مقارنةً بالاقتصاد الإسرائيلي الثرى. ويمكن القول إن إيران قد تكيفت مع العقوبات، لكن أي موجة ضغط جديدة ستكون مدمرة بالنسبة لها.

وبين أن ذلك يظهر بوضوح في انخفاض قيمة عملتها؛ حيث تراجع الريال من 32,000 إلى 580,000 مقابل الدولار منذ انهيار الاتفاق النووي. وهذا يوضح مدى الانخفاض في القوة الشرائية في إيران، فالمجتمع الإيراني لا يستطيع تحمل ضغوط إضافية بسهولة، حيث تدور السياسة الإيرانية حول القضايا الاقتصادية، مما يجعل الحرب مكلفة للغاية.

وتعد إيران موردًا رئيسيًا في سوق النفط حاليًا؛ حيث تمثل حوالي 4 بالمائة من الإنتاج العالمي. وعلى الرغم من أن إدارة بايدن لم تكن متساهلة مع إيران، إلا أنها تجاهلت إلى حد كبير صادرات النفط الإيرانية، بهدف تخفيف الضغط على الأسواق العالمية، حيث تعتبر إيران موردًا غير معترف به لكن مهمًا للصين.



وقد تعطيها هذه النسبة - من وجهة نظرها- نفوذًا ضئيلًا، حيث يعتمد الأمر بشكل كبير على مدى استعداد السعودية لتعويض أي نقص في الإمدادات الإيرانية في حالة حدوث أزمة. ولا يمكن لطهران الاعتماد على موقف ودود من الجانب السعودي.

وبسؤاله عن إذا كانت غزة ستتعافى من هذه الأزمة، فقد أشار توز إلى الحسابات الصادمة التي قامت بها الأمم المتحدة حول الوقت الذي سيستغرقه إزالة الأنقاض، والتي تقدرها بـ40 مليون طن، لكن هذه الأنقاض تحتوي على آلاف القطع غير المنفجرة من الذخائر الإسرائيلية، الكثير منها تم توريده ودفع ثمنه من قبل الولايات المتحدة، بالإضافة إلى آلاف الجثث التي لم تُنتشل بعد وتحتاج إلى دفن لائق.

واختتم توز حديثه مؤكدًا أنه من الواضح أن إسرائيل كانت تسعى لجعل غزة غير صالحة للعيش، وهو الهدف الذي أصبح الآن هدفًا واضحًا للحرب، حيث يسعى لتغيير ظروف الحياة والتنظيم الاجتماعي والسياسي في المنطقة بشكل دائم. لذلك فإن التعافي في هذه الظروف لا يمكن أن يحدث إلا من خلال اتفاق ما أو صفقة إقليمية، وهو ما لم يتم التخطيط له حتى الآن. 

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية الاقتصادية لبنان إيران غزة إيران اقتصاد لبنان غزة الاحتلال صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الناتج المحلی الإجمالی ملیار دولار إلى حد کبیر

إقرأ أيضاً:

السودان بين حربين، حروب الأطراف تاريخيا وحرب المركز راهنيا

دكتور هشام عثمان
طبيب مخ واعصاب وكاتب سياسي

السودان بلد معقد بتاريخه السياسي والاجتماعي، حيث تداخلت الحروب الأهلية على مر العقود، مشكّلة بانوراما متشابكة من النزاعات التي أظهرت تناقضات بين أطراف البلاد ومركزها. لفهم هذه الحروب بشكل متكامل، يجب استعراضها في سياقها التاريخي والاجتماعي، حيث يمكن تقسيم النزاع السوداني إلى مرحلتين رئيسيتين: "حرب الأطراف تاريخيًا" و"حرب المركز راهنيًا". هذا التحليل يستعرض كيف تفاعلت هاتان المرحلتان وأثرتا على تشكيل السودان كدولة معاصرة.

أولًا: حرب الأطراف تاريخيًا

1. الأصول التاريخية للنزاع في الأطراف:

تعود جذور حرب الأطراف إلى مرحلة ما قبل استقلال السودان في عام 1956، حيث كانت هناك انقسامات حادة بين الشمال والجنوب نتيجة للسياسات الاستعمارية البريطانية، التي طبقت نظامًا مزدوجًا (Double Administration) في شمال وجنوب السودان، ما عمّق الفجوة الاقتصادية والثقافية والسياسية بينهما.

2. حرب الجنوب (1955-2005):

هذه الحرب كانت النموذج الأبرز لحروب الأطراف، حيث سعى الجنوب إلى تحقيق استقلاله عن الشمال بسبب سياسات التهميش والتمييز. اندلعت الحرب الأولى في عام 1955، قبل الاستقلال الرسمي للسودان، واستمرت حتى 1972، عندما تم توقيع اتفاقية أديس أبابا التي منحت الجنوب حكمًا ذاتيًا، لكنها لم تحل جذور الأزمة. في 1983، اندلعت الحرب الثانية بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان تحت قيادة جون قرنق، وامتدت حتى توقيع اتفاقية السلام الشامل (CPA) في 2005، التي مهدت الطريق لانفصال الجنوب في 2011.

3. حروب الهامش الأخرى:

لم تقتصر حروب الأطراف على الجنوب فحسب، بل شملت مناطق أخرى مثل دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق. بدأت هذه النزاعات في شكل مطالبات بتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والتنمية المتوازنة، لكنها تطورت إلى صراعات مسلحة ضد الحكومة المركزية. حرب دارفور، التي بدأت في 2003، تُعتبر واحدة من أكثر الحروب دمويةً وأثرت بشكل كبير على العلاقات بين الأطراف والمركز، حيث اتهمت الحكومة السودانية بتأجيج الصراع عبر دعم مليشيات اطلق عليها مسمي الجنجويد حينها..

ثانيًا: حرب المركز راهنيًا

1. التغيير الجذري في مركز الصراع:

تحوّلت طبيعة الصراع السوداني بعد انفصال جنوب السودان في 2011. أصبحت الحروب تُدار من المركز ذاته، حيث تصاعد الصراع بين مكونات السلطة، وظهرت النزاعات داخل الخرطوم وحولها، بما في ذلك النزاع العسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

2. انفجار النزاع داخل المركز:

في ظل حكم نظام الإنقاذ (1989-2019)، بقيادة عمر البشير، هيمنت نخب المركز على السلطة والثروة، متجاهلة مطالب الهامش. أدت هذه السياسات إلى بروز تيارات معارضة داخل المركز، كما ازدادت الانقسامات داخل النخبة الحاكمة نفسها، ما أدى إلى إسقاط نظام البشير في 2019. ومنذ ذلك الحين، تصاعدت التوترات بين الأطراف السياسية والعسكرية في المركز، حيث حاولت كل مجموعة تأمين مصالحها على حساب الاستقرار الوطني.

3. الصراع الراهن بين الجيش والدعم السريع:

الحرب الحالية بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) هي أبرز مثال على حرب المركز. هذا الصراع ينبع من التنافس على السلطة والنفوذ داخل الخرطوم، ويمثل تحولًا كبيرًا في طبيعة النزاعات السودانية، حيث لم تعد الحرب تدور حول المركز والهامش فقط، بل داخل المركز ذاته. أصبحت الخرطوم ساحة للمعارك، ما أفرغ السلطة المركزية من مضمونها وخلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار.

4. الأبعاد الجديدة لحرب المركز:

تشمل حرب المركز الراهنة أبعادًا جديدة تتعلق بالصراع على الموارد الاقتصادية (خاصة الذهب)، والسيطرة على المؤسسات العسكرية والأمنية، ومحاولة كل طرف كسب الشرعية الدولية والمحلية. تداخلت المصالح الإقليمية والدولية في هذا الصراع، مما جعل منه حربًا مركبة يصعب حسمها بسهولة.

ثالثًا: تفاعل الحروب وتشكيل الدولة السودانية

1. التداخل بين حروب الأطراف والمركز:

تشكل حروب الأطراف والمركز سلسلة متصلة من الأزمات التي أضعفت بنية الدولة السودانية. أثرت حروب الأطراف تاريخيًا على كيفية تشكل المركز، حيث اتخذت النخب الحاكمة سياسات إقصائية وتهميشية تجاه الأطراف، ما ولّد شعورًا بالظلم. هذا الشعور انتقل إلى المركز ذاته مع الزمن، إذ بات المركز نفسه يعاني من صراع نخبوي على السلطة.

2. الهوية السودانية والهويات الفرعية:

لعبت الحروب المتعددة دورًا في تشكيل مفهوم الهوية السودانية، حيث ظل الانقسام بين الهوية العربية والإفريقية، وبين الهويات القبلية والجهوية، حاضرًا في كافة الصراعات. هذا التباين الهوياتي زاد من تعقيد الأزمة، خاصة في ظل غياب مشروع وطني جامع يهدف إلى توحيد السودانيين تحت راية واحدة.

3. الإرث السياسي للأنظمة المتعاقبة:

تراكمت السياسات الخاطئة للأنظمة المتعاقبة، من الاستعمار البريطاني إلى حكومة الإنقاذ، في خلق دولة مركزية ضعيفة وغير قادرة على إدارة التنوع السوداني. كانت النتيجة النهائية هي تحوّل السودان إلى دولة هشة، تتنازعها الحروب من الأطراف إلى المركز، دون وجود مؤسسات قوية تستطيع احتواء الصراعات.

رابعًا: آفاق المستقبل

1. هل يمكن تجاوز حروب المركز والهامش؟

إن إنهاء هذه الحروب يتطلب إعادة هيكلة الدولة السودانية بشكل يعالج جذور الأزمة. لا يمكن حل أزمة المركز دون حل أزمة الأطراف، والعكس صحيح. يجب الاعتراف بحقوق الهامش في المشاركة العادلة في السلطة والثروة، وفي ذات الوقت، يجب إصلاح المركز بحيث يكون قادرًا على تمثيل كافة مكونات الشعب السوداني.

2. التحديات الراهنة:

الصراع الحالي بين الجيش والدعم السريع هو انعكاس لتحدي بناء دولة متماسكة. إذا لم يتم التوصل إلى تسوية شاملة تأخذ بعين الاعتبار إصلاح المؤسسات العسكرية والمدنية، فإن السودان قد يتجه إلى حالة من التفكك الكامل، حيث تنقسم البلاد إلى مناطق نفوذ متعددة، مما يعيد إنتاج حرب الأطراف بشكل جديد.

3. فرص الحل:

إن تحقيق الاستقرار يتطلب بناء مشروع وطني يتجاوز المصالح الضيقة للنخب. يجب أن يشمل هذا المشروع عملية مصالحة وطنية شاملة، إعادة توزيع السلطة والثروة بشكل عادل، وبناء مؤسسات ديمقراطية تضمن مشاركة كافة الأطراف في اتخاذ القرار.

السودان يعيش اليوم في قلب معركة مزدوجة بين المركز والهامش، وبين نخب المركز نفسها. هذا الصراع المعقد لا يمكن فصله عن تاريخه الطويل من الحروب والنزاعات التي أرهقت البلاد وشعبها. الحل الأمثل يكمن في إعادة بناء الدولة السودانية على أسس رومجديدة تحترم التنوع، وتعالج التفاوتات البنيوية بين المركز والأطراف، وإعادة صياغة مفهوم الوطنية السودانية بشكل يضمن الوحدة والاستقرار للجميع.

hishamosman315@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • عام مضى… وحرب الإبادة والتهجير لا تنتهي
  • ريم الهاشمي: الإمارات موقفها ثابت في رفض العنف والتصعيد
  • مصر في المقدمة.. 5 دول إفريقية تستحوذ على نصف الناتج المحلي للقارة السمراء
  • داريو روسو: التقنيات السحابية تسهم في نمو الناتج المحلي
  • مستشار بالأكاديمية العسكرية لـ «الأسبوع»: إسرائيل لن تهاجم منشآت إيران النووية لهذا السبب
  • السودان بين حربين، حروب الأطراف تاريخيا وحرب المركز راهنيا
  • عمرو أديب عن رد إسرائيل ضد إيران: ربنا يستر على المنطقة
  • دانون: إسرائيل ستختار المكان والزمان والأسلوب للرد على الهجوم الإيراني الأخير
  • مصر تتصدر قائمة أكبر 10 دول أفريقية في مساهمة الناتج المحلي الإجمالي للقارة