كيف تُسخِّر إسرائيل الذكاء الاصطناعي لتعزيز هجماتها؟
تاريخ النشر: 9th, October 2024 GMT
في سبتمبر (أيلول) الماضي، انفجرت آلاف أجهزة الاستدعاء في شتى أرجاء لبنان فيما بدا أنه هجوم متطور خطَّطَت له إسرائيل قبل أشهر، الأمر الذي سلَّط الضوء على القدرات السيبرانية لإسرائيل واستخدامها للذكاء الاصطناعي في الحرب، حسب تقرير لصحيفة "داون" الباكستانية.
اختلف الخبراء حول فعالية الذكاء الاصطناعي في الحد من الأضرار
ووفق التقرير، لم تُبدِ إسرائيل منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) أي مؤشرات على إبطاء حملتها العسكرية على جبهات متعددة.وهي متورطة حالياً في صراعات مع حزب الله في لبنان، وحماس في قطاع غزة، والحوثيين في اليمن. ورغم ادعاءات الجيش الإسرائيلي باستخدام "ضربات دقيقة" وشراء مجموعة من التقنيات الجديدة لاستهداف عناصر حماس تحديداً والحد من الخسائر في صفوف المدنيين، تجاوز عدد القتلى في غزة 41 ألف مدني، مما يثير تساؤلاً مهماً حول كيفية تحديد الجيش الإسرائيلي لأهدافه واستخدامه للتكنولوجيا المتطورة.
وأضاف التقرير: من المثير للقلق أنّ قائد وحدة مركز الحواسيب ونظم المعلومات في الجيش الإسرائيلي راتشيلي ديمبينسكي وصفَ الهجوم الإسرائيلي على غزة في مؤتمر بعنوان "تكنولوجيا المعلومات للجيش الإسرائيلي" بأنه "أول حرب رقمية" إذ زعم الجنود أنهم يقاتلون "من داخل حواسيبهم المحمولة".
The Israeli military is using four digital tools in Gaza that could be increasing the risk of civilian harm.
Some of these tools rely on artificial intelligence and machine learning to inform military decisions.
Learn more: https://t.co/EbZuce0QPW pic.twitter.com/omtzslhgqR
وفي مقطع فيديو لديمبينسكي على يوتيوب، تظهر شعارات تقنيات شركات التكنولوجيا الكبرى مثل مايكروسوفت أزور وغوغل كلاود وأمازون ويب سيرفيسز (AWS)، مما يدل على تعاقد إسرائيل مع شركات تقنية كبرى للحصول على خدماتها السحابية. ورغم تأكيد تقارير متعددة أنّ إسرائيل تستخدم السحابة الإلكترونية لتخزين كميات مهولة من البيانات، من المهم أن نشير إلى أن الغرض من هذه البيانات فرض رقابة أكبر على الفلسطينيين.
وحدة 8200 المُراوِغَة وتملك إسرائيل وحدة متخصصة في الحرب الإلكترونية والاستخبارات الإلكترونية تُعرف باسم الوحدة 8200. ويُطلعنا تقرير لمجلة "فوربس" الأمريكية على أن 90% من التقارير الاستخباراتية في إسرائيل تنبع من هذه الوحدة وحدها، وأن بصمتها التجسسية واضحة في الدول المجاورة. ويُزعم أن هذه الوحدة جزء من مديرية الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وقد سُلِّطَت عليها الأضواء بعد هجوم أجهزة الاستدعاء في لبنان. وعادةً ما تُعدُّ أنشطتها "سرية للغاية وتتراوح بين استخبارات الإشارات والتنقيب عن البيانات والهجمات والضربات التكنولوجية"، وفقاً لـ"رويترز".ويُزعم أن القوى العاملة في الشركة يقع الاختيار عليها من الشباب في أوائل العشرينات من العمر، إذ يُستقدَم بعضهم من "برامج المدارس الثانوية التنافسية للغاية"، ويواصل كثير منهم العمل في قطاع التكنولوجيا والأمن السيبراني في إسرائيل لاحقاً. والواقع أنّ أحد مسؤولي هذه الوحدة هو الذي ادعى أنّ إسرائيل استخدمت نظام الذكاء الاصطناعي "لافندر" بكفاءةٍ لتحديد الأهداف الفلسطينية. كيف يعمل لافندر؟
تُظهر شهادات المسؤولين الإسرائيليين لمجلة "+972 " الإسرائيلية أن إسرائيل استخدمت نظام "لافندر" في المراحل الأولى من الصراع، وأن بوسعه "معالجة كميات هائلة من البيانات لاستخلاص آلاف الأهداف المحتملة". ويشارك النظام لأول مرة في استخلاص أهداف للجيش.
وجاء في التقرير نقلاً عن صحافي استقصائي إسرائيلي أنّ "لافندر" يُعيِّن أرقاماً للفلسطينيين، تتراوح ما بين 1 و100، بناءً على السمات التي يحددها الجيش الإسرائيلي حول مدى احتمال انتماء الشخص إلى حماس. ومع ذلك، فقد أدرجَ النظام أيضاً أسماءً لها "علاقات فضفاضة" أو "لا علاقة لها" بحماس.
The Israeli military is using four digital tools in Gaza that could be increasing the risk of civilian harm.
Some of these tools rely on artificial intelligence and machine learning to inform military decisions.
Learn more: https://t.co/EbZuce0QPW pic.twitter.com/o9Vk8DkCqZ
ويُزعم أنّ النظام حدَّد 37 ألف هدف في المرحلة الأولى من الصراع وحدها. وباعتباره قاعدة بيانات، قيل إنه استُخدِمَ لمضاهاة مصادر الاستخبارات لإنتاج قوائم مُحدَّثَة للعمليات العسكرية. وتشير التقارير أيضاً إلى أن الجيش الإسرائيلي قد "ضبطَ" معايير خوارزمية النظام "بدقة" لاستخلاص أهداف محتملة لحماس، إذ قال مصدر مسؤول إن النظام بلغت دقته "نحو 90%".
وقال أفيف كوخافي، رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، إن قسم الأهداف في الجيش "مدعوم بقدرات الذكاء الاصطناعي"، في إشارةٍ إلى نظام "لافندر"، الذي أنتج "كماً هائلاً من البيانات" وترجمها إلى أهداف للضربات. وأضافَ كوخافي أنه في عام 2021، أفرزَ النظام 100 هدف يومياً، في حين أن الجيش لم يكن بوسعه الوصول سوى إلى 50 هدفاً في السنة بدونه.
ومع ذلك، فقد اختلف الخبراء حول فعالية الذكاء الاصطناعي في الحد من الأضرار التي تلحق بالمدنيين واستهداف أعضاء حماس على وجه التحديد. بعد أيام من بدء الصراع، نشرت منظمة العفو الدولية تقريراً بعنوان "أدلة دامغة على جرائم الحرب التي أودت فيها الهجمات الإسرائيلية بحياة عائلات بأكملها في غزة"، مشيرة إلى أن "القوات الإسرائيلية أبدت استخفافاً مروعاً بأرواح المدنيين".
وأكد الجيش الإسرائيلي استخدام غوسبِل وقال في بيان له إن النظام "يسمح باستخدام أدوات آلية لإنتاج الأهداف بوتيرةٍ سريعة، ويعمل عن طريق تحسين المواد الاستخباراتية الدقيقة وعالية الجودة وفقاً للمتطلبات".
وفي بيان صحافي بعنوان "لمحة عن مصنع أهداف الجيش الإسرائيلي الذي يعمل على مدار الساعة"، ذكرَ جيش الدفاع الإسرائيلي أنه بدعمٍ من الذكاء الاصطناعي والذكاء المُحدَّث، فإن النظام "ينتج توصية للباحث". ومع ذلك، ورغم الأهداف المحددة من الأنظمة، قال مسؤول إسرائيلي إنهم يفضلون استخدام صواريخ "غير موجهة" عندما يتعلق الأمر باستهداف مسؤولين مزعومين من ذوي الرتب المتدنية في حماس إذ تسمح لهم باستهداف 15 إلى 20 مدنياً إذا لزم الأمر. جهاز "أين أبي"
ومع ذلك، لا تنتهي مراقبة إسرائيل عند هذا الحد. فوفقاً لموقع "الديمقراطية الآن"، فضلاً عن نظام "لافندر"، هناك نظام ثانٍ يسمى "أين أبي" يتتبع الفلسطينيين في منازلهم مع عائلاتهم. وفي مقابلة مع الصحافيّ الاستقصائيّ يوفال أبراهام، تحدَّث عن مفهوم "الربط" في المراقبة الجماعية للفلسطينيين. واستشهد بمصدر قال إنه من أجل أتمتة هذه الأنظمة، يجب أن تحصل بسرعة على هوية الشخص وأن تكون قادراً على ربط هذه الهوية بـ "عناصر أخرى" وأهمها منزله. وبالتالي، فإن النظام "مصمم ليكون قادراً على الربط التلقائي بين الأفراد والمنازل".
وتُحذِّر أنظمة مثل "أين أبي؟" ضباط المخابرات من المقاتلين المزعومين الذين يُزعم أنهم يحملون علامات الذكاء الاصطناعي فور دخولهم المنازل، ما يسمح للجيش الإسرائيلي بتنفيذ عدد كبير من الضربات ضد أهدافهم في منازلهم.
وقال مصدر عسكري إسرائيلي لصحيفة "غارديان" البريطانية إن الجيش الإسرائيلي استخدم "قياسات دقيقة للغاية" وتأكد من إجلاء المدنيين قبل تنفيذ الضربات. ومع ذلك، فقد دحضَ هذا الادعاء خبراء في مجال الذكاء الاصطناعي والصراع الذين ما يزالون يشككون في أن الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي تحدُّ من الضربات على المدنيين.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: عام على حرب غزة إيران وإسرائيل إسرائيل وحزب الله الانتخابات الأمريكية غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية عام على حرب غزة إسرائيل وحزب الله الذکاء الاصطناعی الجیش الإسرائیلی للجیش الإسرائیلی إن النظام زعم أن ی زعم أن ومع ذلک فی غزة
إقرأ أيضاً:
هل يمكن أن يطوّر الذكاءُ الاصطناعي خوارزمياته بمعزل عن البشر؟
في عقود زمنية خلت، تصدرت سرديات الخيال العلمي سيناريوهات أقرب تشبيها إلى ما صار العلم يعرفه في وقتنا الحالي بـ«الذكاء الاصطناعي العام أو الخارق»؛ حيث يمتلك النظام الحاسوبي قدرةً على فهم أوسع لمختلف المجالات والمهارات البشرية؛ فتكون لديه ملكة التعلّم والتحسين الذاتي بشكلٍ مطلقٍ أو شبه مطلق، ويصل الأمر في بعض التصوّرات إلى ظهور ما يُدعى بـ«الانفجار التقني» أو«التفرّد التقني» -Technological Singularity-؛ حيث يصبح الذكاء الاصطناعي قادرًا على تحسين قدراته بنفسه بوتيرة متسارعة تؤدي في النهاية إلى تجاوز مستوى الذكاء البشري بمراحل. مع التطور التقني المتسارع، تجاوز مفهوم «الذكاء الاصطناعي العام» أبجديات الخيال العلمي وسردياته اللاواقعية؛ ليكون في بعض أجزائه النظرية والعملية واقعا ملموسا؛ فنلمح تقدما علميا بارزا مثل قدرة نظم الذكاء الاصطناعي على ابتكار خوارزميات فريدة أسرع وأكفأ، ولكن -للأمانة العلمية- فإن الوصول إلى «التفرّد التقني» ما زال افتراضًا نظريًا لم يجد طريقه العملي، ولكن التطور آخذ في الصعود؛ فهناك مظاهر أولية لهذا الاتجاه مثل الأنظمة التي تنتج رموزًا برمجية وتتعلّم من أخطائها؛ ففي تطور علمي غير معهود يمكن اعتباره قفزةً علميةً في مجال الذكاء الاصطناعي، أعلنت شركة «DeepMind» في يونيو 2023 عن نجاح نظامها «AlphaDev» في ابتكار خوارزمية فرز «Sorting Algorithms» بيانات جديدة أسرع بنحو 70% من أفضل الخوارزميات التي طورها البشر سابقا -وفقَ الخبر الذي نشره موقع «Deepmind» في 7 يونيو 2023-؛ ليعكس هذا الإنجاز العلمي الفريد خطوةً كبيرةً في عالم التقنية وتحديدا الذكاء الاصطناعي، ويعكس قدرة الأنظمة الذكية الحديثة على تخطي حدود التفكير البشري التقليدي.
كيف نفهم هذا النوع من التطور الخوارزمي الذاتي؟
لفهم أهمية مثل هذا التطور العلمي غير التقليدي، سنحتاج إلى إلقاء نظرة معمّقة فيما يخص آلية هذا التطور وكيفية حدوثها؛ فنشرت مجلة «Nature» العلمية دراسة تفصيلية -في عددها المسجّل بـ 618, 257–263 (2023)، وجاءت بعنوان « Faster sorting algorithms discovered using deep reinforcement learning» « اكتشاف خوارزميات فرز أسرع باستعمال التعلّم التعزيزي العميق»- عن نظام AlphaDev» الذي طُوّر عن طريق تقنيات التعلّم التعزيزي Reinforcement Learning الذي يعتبر فرعا من فروع التعلم الآلي، ويعمل على تعزيز النظام الذكي عبر عملية التجربة والخطأ وتلقي المكافآت على القرارات الصائبة. تُعدّ خوارزميات الفرز من العناصر الرئيسة في علم الحاسوب من حيث قدرتها على التحكم في طريقة معالجة البيانات وتصنيفها؛ فيؤثر بشكلٍ مباشرٍ على سرعة تنفيذ المهام الحاسوبية في شتى المجالات، بدءًا من الترتيب البسيط للبيانات في قواعد المعلومات وانتهاءً بالخوارزميات المعقّدة المستعملة في الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وعلى مدار العقود الماضية، اكتُشفت العديد من خوارزميات الفرز وطُوّرت مثل: خوارزمية «الفرز السريع» (Quicksort) التي طورها «توني هور» في عام 1960، وخوارزمية «الفرز الدمجي» «Mergesort»، وبالإضافة إلى خوارزميات أُخرى تُعد كلاسيكيةً من حيث المبدأ العلمي لعلوم الحاسوب، وواصلت هذه الخوارزميات تطويراتها حتى وصلت إلى مستويات بالغة الدقة من حيث التعقيد الرياضي، وظلت لفترة طويلة بمثابة الأمثلة الأبرز للتميّز الرياضي والبرمجي. في هذا الإطار، لم يقم نظامُ «AlphaDev» بابتكار خوارزمية جديدة فحسب، ولكنه قام ببناء هذه الخوارزمية على مستوى لغة التجميع «Assembly Language»، وهي لغة منخفضة المستوى تتعامل مباشرة مع تعليمات المعالج المركزي؛ ليسمح باكتشاف طرق مختصرة غير تقليدية لتحسين كفاءة عمليات الفرز.
كما أشرنا آنفا؛ فإن مجلة «Nature» العلمية المرموقة نشرت تفاصيل هذه الدراسة في يونيو 2023؛ حيث وضّح البحث المنشور في المجلة بالتفصيل آلية عمل «AlphaDev» وكيفية توصله إلى هذه النتائج غير المسبوقة، وأشارت الدراسة إلى أن «AlphaDev» استعمل أسلوب التعلم التعزيزي الاستراتيجي؛ فأقدم النظام الذكي على ملايين المحاولات لإعادة ترتيب العناصر بطريقةٍ تحسّن من سرعة عملية الفرز مع الحفاظ على صحة النتائج ودقتها، وفي كل محاولة كان النظام يتعلم من أخطائه ويُعدّل من إستراتيجيته؛ ليقترب تدريجيًا من أفضل نتيجة ممكنة.
ما يميز ابتكار «AlphaDev» أنه وجد طرقًا مختصرة وغير تقليدية لفرز البيانات، وبمعنى آخر، اكتشف طرقًا لم تكن واضحةً أو متوقعةً لدى خبراء الذكاء الاصطناعي البشر. لم يقف الأمر عند حدود النشر العلمي النظري، ولكن باتت هذه الخوارزمية الجديدة جزءا فاعلا في مكتبة «C++» القياسية؛ فجعلها متاحةً للمطورين في جميع العالم بشكل مباشر، وبدأت العديد من التطبيقات بالفعل باستعمال هذه الخوارزمية المتطورة، وهذا ما يمكن أن يساهم في تحسين كفاءة البرمجيات وتسريع الأداء في مختلف المجالات التقنية، بدءًا من التطبيقات البسيطة ووصولًا إلى الأنظمة الحاسوبية العملاقة بما فيها الكوانتمية التي سبق أن استعرضنا حديثا عنها في مقال علمي سابق نشرناه في الملحق العلمي لجريدة «عُمان »عدد أكتوبر 2023.
المنافع المتوقعة
إنّ الفوائد المتوقعة من هذا الإنجاز لا تقف عند حدود فرز البيانات بشكلٍ أسرع؛ ولكنها تمتد إلى تحسين النظم الحاسوبية في مجالاتٍ عدة مثل قواعد البيانات العملاقة، وتحليل البيانات الكبيرة «Big Data»،
ونماذج التعلم الآلي التي تعتمد كثيرًا على عملياتٍ متكررةٍ من الفرز والبحث والمقارنة، ومع دخول التقنيات الحاسوبية في كل جوانب الحياة العملية التي تشمل تطبيقات التجارة الإلكترونية وتطبيقات الطاقة والمناخ؛ فإنّ تخفيض الوقت المستهلك في مثل هذه العمليات الأساسية يمكن أن يسهم في توفير كبير في الطاقة والموارد؛ ليعود بالنفع على الشركات والمؤسسات والمجتمعات على حد سواء. كذلك يمكن أن يفتح هذا التطور الرقمي أبوابًا جديدةً أمام الأبحاث المستقبلية في الذكاء الاصطناعي؛ إذ يمكن أن تتطور الخوارزميات التي تأتي بها نظم الذكاء الاصطناعي لتشمل جوانب برمجية أخرى مثل: الضغط «Compression»، والتخزين، والمحاكاة البصرية، والأمن السيبراني. رغم أن بعضنا يرقب هذه التطورات بحذرٍ خوفًا من تفوق الآلة على الإنسان في نواحٍ تهدد وظائف بشرية؛ فإنّ النظرةَ العلمية متفائلةٌ إلى حد ما؛ فترى في ذلك فرصةً لتعزيز القدرات البشرية واستغلال وقت المبرمجين والعلماء في حل مشكلات أكبر وأكثر تعقيدًا، تاركين للأنظمة الرقمية ابتكارَ الحلول في الجوانب الروتينية والحسابية المحضة.
الإبداع الرقمي والتساؤلات الفلسفية
عبر هذا المنحى الرقمي ذو البعد الذاتي للتقنيات الحديثة، يفتح نظام «AlphaDev» آفاقًا جديدة في عالم الخوارزميات والحوسبة؛ ليعكس قدرةَ الذكاءِ الاصطناعي على اكتشاف حلول إبداعية لمشكلات لم تكن معروفة ومحسومة من قبل العقل البشري ومنظوره العلمي؛ ليطرح تساؤلات عميقة تتعلق بمستقبل الذكاء الاصطناعي واستقلاله التطوري الذي يوحي بالنقيضين: الآمال العلمية والمخاوف المرتبطة، ومن الناحية الفلسفية، يطرح هذا الإنجاز أسئلةً مهمة تتعلق بطبيعة الإبداع وحدود الإدراك الإنساني في مقابل قدرات الآلة الرقمية واستقلالها التطوري؛ إذ ظن الإنسان لفترات طويلة أنه المصدر الوحيد للإبداع والتفكير غير التقليدي، ولكن تجربة «AlphaDev» وغيرها من أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة بدأت تزلزل هذه الفرضيات؛ فلم تعد الآلة الآن محصورةً في دور الأداة لتنفيذ الأوامر البشرية، ولكنها أضحت كيانًا رقميا قادرًا على إنتاج المعرفة والإبداع بطرق يمكن أن تفوق ما يمكن للبشر أن يتصوره؛ ففي حدث علمي آخر أشبه بالخيال العلمي -بطله الذكاء الاصطناعي-، نجح باحثون في اليابان في تدريب ذكاء اصطناعي على توليد صور مرئية مستخرجة من دماغ الإنسان عن طريق مسح دماغه، وعرض الباحثون على مشاركين مجموعة متنوعة من الصور -مثل دب دمية وطائرة وبرج ساعة-، واعتمدت الآلية على قياس نشاط الدماغ عبر «fMRI»؛ ليتمكن بعدها نموذج الذكاء الاصطناعي من إعادة رسم صور لهذه القراءات التي تعكس أنماطَ نشاطِ الدماغِ المسجلة والمستخرجة، وجاءت الصور المولدة مشابهة بشكل مذهل لما رآه المشاركون في التجربة، وتشير الدراسات إلى أن دقة هذه الطريقة كانت مدهشة رغم أن التقنية لا تزال في مهدها، وحال استمرار تطورها؛ فإنها ستخطو خطوة علمية كبيرة في المقاربة لمساعدة الأشخاص غير القادرين على التواصل عبر ترجمة أفكارهم إلى صور أو نصوص، وكذلك يمكن للقدرات الخوارزمية أن تمتد إلى فهم محتوى الأحلام وتصويرها وقراءة ما يدور في الأذهان.
عودة إلى المنظور الفلسفي، فإن مثل هذا التفوق الرقمي يثير أسئلة عميقة تتعلق بالعلاقة بين الإنسان والآلة، والطبيعة الحقيقية للذكاء والإبداع؛ فتنهمر العديد من الأسئلة مثل: أيكرر الذكاء الاصطناعي تجربة الإنسان الإبداعية أم أنه يُنشئ مسارات جديدة بالكامل؟ وهل ينبغي لنا التعامل مع الذكاء الاصطناعي باعتباره شريكا في الإبداع وليس أداةً جامدةً؟ بدأت مثل هذه التساؤلات تأخذ مساحة واسعة في النقاشات العلمية والفلسفية الحديثة خصوصًا بعد أن أثبتت الأنظمة الذكية مثل «AlphaDev» قدرات لا تقتصر فقط على حسابات رياضية، ولكن على إيجاد حلول ابتكارية غير متوقعة لمشكلات علمية معقدة.
نظرة مستقبلية مشرقة
تؤكد نتائج «AlphaDev» على أن قدرة الذكاء الاصطناعي على الإبداع والابتكار فاقت حدودَ التصورات البشرية السابقة؛ فتقليديًا، كان تطوير الخوارزميات الجديدة يعتمد بشكل كبير على الخبرة الإنسانية والمعرفة النظرية والتجريبية المسبقة، كما رأينا في الفقرات السابقة أمثلة لخوارزميات مشابهة من تطوير الإنسان، ولكنها بقدرات رياضية وبرمجية أضعف، وليظهر نظام «AlphaDev» بمنهجيةٍ جديدةٍ تعتمد على المحاكاة العميقة والتجربة واسعة النطاق، والخالية من القيود البشرية التقليدية؛ لتُحدثَ تغييرات جذرية في كيفية تصميم الأنظمة الحاسوبية مستقبلًا وتطوريها. على المستوى العملي والتطبيقي، فإن هذه الخوارزمية الجديدة توفر الكثير من الوقت في عملية معالجة البيانات، الأمر الذي يعني توفيرًا في الموارد والطاقة وتخفيضًا كبيرًا في التكاليف خاصةً في الصناعات التي تعتمد على المعالجة المكثّفة للبيانات مثل التحليل المالي، والذكاء التجاري، والتطبيقات الصناعية، وغيرها. كما أن هذا الإنجاز يمهّد الطريق نحو اكتشافات مستقبلية مشابهة في مجالات أخرى عديدة؛ حيث من المحتمل أن تتمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي من ابتكار خوارزميات أخرى أكثر تعقيدًا في مجالات مختلفة.
كذلك من المتوقع أن يؤدي تطوّر الذكاء الاصطناعي في مجال ابتكار الخوارزميات إلى تغييرات في طرق تعليم الحوسبة وهندسة البرمجيات؛ لينتقل المبرمجون والمهندسون إلى التركيز على تطوير استراتيجيات لتهيئة أنظمة الذكاء الاصطناعي بدلًا من كتابة الخوارزميات بشكل مباشر؛ ليسهم في صناعة تحولٍ في طبيعة عملهم من التنفيذ إلى إدارة العمليات الإبداعية وتوجيهها. تؤكد لنا مثل هذه القفزات العلمية أننا على أبواب مرحلة جديدة من العلاقة بين الإنسان والآلة، ولا ينبغي أن نعتقد أن هذه المرحلة حالة منافسة بين الاثنين (الإنسان والآلة)، ولكنها مرحلةُ تكاملٍ واندماجٍ؛ حيث تتضافر قدرات الإنسان والذكاء الاصطناعي معًا لبناء مستقبلٍ أكثرَ تطورًا وإبداعًا وفعالية.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني