يظن الناس أن عليهم أن يُذكروا أنفسهم باستمرار: "لا تعتد المشهد". هيهات أن يعتادوه. هم وإن تركوا الأخبار ليوم، تحمل أجسادهم القلق، والهم، والألم، حتى وإن لم يدركوا. يقولون إنهم مكتئبون، ويقولون إنهم لا يدرون السبب؛ لأنه ولكثرة ما قيل لنا أن كل امرأ لنفسه، لا نكاد نصدق ما في قلوبنا من خير. ولكثرة ما قيل لنا أن كل شيء يعدي، لا نصدق أننا لن نعود أبداً كما كنّا.
لا يتغير شيء، ليس لأن البعض اعتاد، بل لأن من وقفوا في صف كل استعمار، مازلوا يصطفون مع آخر مستعمر، ومن ارتكبوا الإبادات، يمولون الإبادة الموثقة، ومن بنوا حضارتهم على أجساد أسلافنا، يُكملون دائرة الاستغلال دون كلل، ودون مساءلة.
ما أغرب الحديث عن اعتياد المشهد، ومصير الغزاويين لم يُحدد بعد، والضاحية تُحال رماداً، والمهاجرون السوريون يعبرون على أرجلهم إلى الجحيم الذي فروا منه، بعد أن قُصف الطريق الوحيد الذي يضمن نجاتهم. يعز على غرور الصهيوني أن يكون للعربي قول حتى في مسألة فراره.
نتحدث مع أصدقائنا عن شعور الخيانة ونحن نواصل الذهاب إلى أعمالنا. نُضرب حين يُعلن الإضراب، ونتساءل ماذا لو امتد أكثر، ماذا لو امتد حتى ننجح في أن نشل الحياة، لكن هذا لا يحدث أبداً. الطرق المتبقية للجهاد قليلة. أحياناً ننجح في إقناع أنفسنا بأن ما نفعله رغم ضآلته ضروري. ولابد أن يستمر. وأنه قد لا يُصبح بعمره أكثر من ضئيل، مع ذلك، لابد أن يستمر. مهما منحنا النظام الضخم الذي لا يتزعزع، شعوراً مفزعاً وقاطعاً بأنه غير قابل للتغيير. إنه يتغير.. ببطء يتغير. مع كل مساحة تُشغل بالحديث عن القضية بدل أن تُشغل بغيرها. مع كل محاولة في بيئة العمل باستبدال الخدمات الداعمة للكيان. مع كل بحث خارج المصادر الانجلو-أوروبية. أحياناً ننجح في بث الأمل في أنفسنا. أحياناً لا نعرف كيف نُقاوم العجز.
عصر العلم جاء بمحاولات لمنطقة وشرح كل ظاهرة إنسانية عنوة. ثمة تيارات من الأفكار مخصصة لتكريس أننا كائنات أنانية، أننا نُراعي مصالحنا، أننا ننتصر لقرابة الجين، لكن كل هذه النظريات التي تضمها المجلدات الصقيلة تتساقط أمام أمهات الشهداء، أمام المقاومين، أمام كلمات والد ماهر الجازي فخوراً بما ربى، وهو يُصرّ أن كل من يُشاهد المجازر سيفعل ما فعله ابنه "لو يصحلّه". ومغزى كلامه أن الفعل البطولي لابنه جاء لأن الظروف توفرت له ليفعل ذلك، وأما إذا ما تحدثنا عن الحافز، فتجد كل حر في العالم متوثب، راغب، ومستعد.
والآن لنتحدث عنّا. عمن لا يصح لهم. عمّن لا تشمل مواهبهم لا تصنيع السلاح ولا حمله، لا تقطيب الأعين ولا زراعة الأطراف. صحيح أننا لن ننجح في فعل الكثير. لكننا لا يُمكن بأي حال من الأحوال أن نيأس. اليأس ليس خياراً. سنبقى نُشاكس بالقليل الذي نملك. باقون، ومقالاتنا التافه باقية. لن نرتاح، ولن نتوقف عن الكلام. وسنُخضع للمراجعة كل ما كُتب عن الإنسان، وكل ما قيل عن السياسة، وكل التعميمات عن الحقيقة، عن الإيمان، عن الشرور، مراعاة المصالح، وقوة البقاء. وسندفع بحدود الاعتراض، ونستمر في التجاوز بصبر لا حد له. ثمة شيء سحري في الإنسان، أقوى من المادة، يجعل الفكرة تخترق الأجواء، وتثقب الدروع، وتقهقر الجيوش.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ننجح فی
إقرأ أيضاً:
“بين الكرم العراقي والرفض المقنّع .. تساؤلات تبحث عن إجابة”
بقلم : سمير السعد ..
في الوقت الذي شكّل فيه العراق رمزًا للكرم الأخوي بموقفه الذي كان بمثابة “عين غطى وعين فراش”، نجد في المقابل رفضًا مبطنًا من الكويت تجاه الحضور العراقي، باستثناء أصحاب المناصب والمقربين. ورغم أن كل دول الخليج رفعت عنها الحواجز، إلا أننا نجد أنفسنا أمام عوائق لا تنتهي، وسط صمت مستغرب من المسؤولين الذين يُفترض أن يدافعوا عن حقوقنا، لكنهم إما خجلًا أو تهربًا من المواجهة يفضلون الصمت.
نحن العراق، نضيف للبطولة ولا تضاف لنا، فلماذا لا نعتز بأنفسنا؟ مسؤولوهم يخدمون شعوبهم، بينما مسؤولونا يقفون مكتوفي الأيدي، وكأن “وجع الرأس” هو ما يخيفهم.
قد نفهم مسألة تحديد أعداد الجماهير أو الصحفيين، ولكن عندما نمثل الاتحاد العراقي للصحافة الرياضية ونحصل على كتاب رسمي من الاتحاد العراقي لكرة القدم يؤكد أننا جزء من الوفد الرسمي، كيف يمكن تفسير عدم منحنا تأشيرات الدخول؟ البطولة انطلقت، والجمهور يحصل على تأشيرته خلال ساعات، بينما الوفد الصحفي الرسمي يُترك معلقًا بلا تفسير.
هل هناك قصدية وراء الأمر؟ أم أنه مجرد سوء تنظيم؟ مهما كان السبب، تبقى الحقيقة أن القائمين على الأمر فينا يتحملون مسؤولية هذا الوهن. مؤسف أن نجد أنفسنا في هذا الموقف، نبحث عن إجابات من مسؤولين يبدو أنهم اختاروا الصمت على المواجهة.
إن هذا الواقع يطرح تساؤلات كثيرة، ليس فقط حول كيفية تعامل بعض الدول مع الوفود الرسمية، بل أيضًا حول طريقة إدارتنا لأمورنا كعراقيين. كيف يمكن لدولة مثل العراق، بكل ثقله وتاريخه، أن يجد ممثلوه أنفسهم في موقف كهذا؟ أين هي الهيبة التي يجب أن تعكس مكانة العراق؟
إن الكارثة ليست في التعامل غير المنصف الذي قوبلنا به، بل في غياب أي رد فعل جاد أو حازم من المسؤولين العراقيين ( اتحاد الكرة ) كان يفترض أن تكون هناك مواقف واضحة، وقرارات تُثبت أننا لا نقبل أن يُهضم حق أي عراقي، سواء كان من الجمهور أو الصحافة أو أي جهة رسمية.
إن الاعتزاز بالنفس يبدأ من الداخل. إذا لم نتمسك بحقوقنا ونطالب بها بقوة ووضوح، فكيف نتوقع من الآخرين احترامنا؟ نحن لا نحتاج إلى شعارات ولا مجاملات، بل إلى أفعال تؤكد أن العراق دولة لها وزنها، وأن من يمثلون العراق يستحقون معاملة تليق بهذا الاسم العظيم.
يبقى السؤال . متى سنرى مسؤولين يدافعون عن حقوقنا بجرأة؟ متى سنكسر دائرة الصمت والخضوع؟ ربما الإجابة تبدأ من هنا: أن نرفض الوهن ونطالب بما نستحقه، بكل ثقة واعتزاز.