في قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش "في القدس" مقطع يرسم فيه بعبقرتيه المعهودة مشهد تخيلي ولكنه في الحقيقة هو مشهد واقعي حقيقي يتكرر ويتوالد ويتناسخ، يقول عندما تصادفه فجأة جندية، وتصرخ فيه:
"ماذا بعد؟ صاحت فجأة جندية: هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟
قلت: قتلتني... ونسيتُ، مثلك، أن أموت".
هكذا هو إذن الشعب الفلسطيني لا يموت، تفتك به إسرائيل وتقتله وتهجّره؛ ولكنه لا يموت بل تصرخ فيه كل القوى الصهيونية بكل ما تملكه من قوة وجبروت وسلاح تدميري فتاك، لم يبقَ شيء إلا واستخدمته، لكنّ هذا الشعب العنيد القوي الصلب الذي لا يتوانى من زف شهداءه في كل لحظة يبقى حياً لا يموت ولا يتراجع ولا يتقهقر.
عديدة ومتنوعة وكثيرة هي المفارقات والإنزياحات التي انكشفت بعد مرور عام كامل على انطلاق طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام الماضي وتفكك غموضها وزال.
فلربما مرحلة السقوط لم تحن بعد وقد يتطلب الكثير من الجهد والعمل المتواصل للعمل على إسقاط الكثير من أشياء يعتقد أنها لا تزال من المسلمات.
ما قبل السابع من اكتوبر لن يكون كما بعده. خلال هذه السنة السريعة جداً في قياس التغيير والتبدل، صحيح أن التكلفة كانت كبيرة جداً، وصحيح أن إسرائيل ارتكبت الكثير من المجازر التي راح ضحيتها عدد من الشهداء أغلبهم من الأطفال والنساء وكبار السن وصحيح أن إسرائيل دمرت كل شيء في غزة ولم تراعي في ذلك لا مستشفيات ولا مدارس ولا دور عبادة، مساجد وكنائس، ولم يكن لديها خطوط حُمر وهذا هو ديدن دولة استعمارية لا تنتج إلا الدمار والقتل والعنصرية المقيتة. الشيء المهم في كل ذلك والذي يعتقد على نطاق واسع، هو هذا الانكشاف والإنزياحات والسقوط المدوي والانحطاط لكل ما كان يعتقد أنها مثل وإنسانية وأخلاق وحقوق إنسان. وكما يقول محمود درويش أيضا: "سقط القناع عن القناع".
الإنزياحات والانكشافات وإماطة اللثام عن أشياء كثيرة، لكن أغلبها في الأصل لا يعول عليها في الأساس وكان يُعرف على نطاق واسع ولم يخفَ ولم يكن بحاجة إلى تروي وتبصر، إذا قلنا مثلا سقطت كل المواثيق والمبادئ الأخلاقية والإنسانية الأممية وأولئك الذين يتغنون بحقوق الإنسان والعدالة والمساواة فلا غرابة لنا في ذلك فذلك السقوط بدأ منذ سنوات بل في الأساس لم تكن تلك المثاليات موجودة في الأساس إلا لخدمة أغراض الاستعمار والسيطرة على الشعوب ونهب ثرواتها، لا يحملون في نفوسهم إلا الدجل والتدليس والوقاحة والخداع. فهي في الحقيقة لا تزال لم تسقط ولا تزال باقية وربما يعاد تدويرها وبعثها من جديد.
لا غرابة أبداً ولم نكن يوماً ممن يهلل لمثل هذا المسلمات التي نعرف ويعرف الكثير بأنها في الأساس شرعت وأسست فقط لخدمة أغراض الصهيونية والرأسمالية العالمية تعينها في توحشها.
لا غرابة أن يستقبل المجرم نتنياهو في الكونجرس بالتصفيق وهو يرمي في وجوههم ضروبا من الكذب والتضليل والخداع. ولا غرابة أن يتمخطر المجرمون في الأمم المتحدة بكل عنجهية وتكبير أمام حشد من المنافقين. انزاحت مقوله العالم الحر والمجتمع الدولي ومنظمات الدولية والمواثيق الدولية والمعاهدات.
ينزاح الإعلام الغربي، لا غرابة في ذلك، الإعلام الذي كان يدعي الشفافية والمسؤولية والذي يتباهى دوماً بالحيادية والنزاهة والمصداقية، ولا استغراب أن يتحول إلى إعلام يروج ويدعم السردية الصهيونية وأكاذيبها وتضليلها وكان عوناً في ارتكاب إسرائيل للمذابح والمجازر والإرهاب الذي مارسته ضد الفلسطينيين العزل والتطهير العرقي وكل صروف الدمار والقتل، بل كان السبب في انفلات الغرائز الاجرامية لقادة الدولة العبرية الذين لا يخفون نواياهم في إبادة الفلسطينيين، بل ونعتهم بأنهم (حيوانات بشرية) في أعلى درجات العنصرية البغيضة. لا غرابة في هذا الإعلام الذي ساهم وبشكل واسع في رسم صورة مشوهة عن الفلسطينيين ونضالهم ونعتهم بالإرهاب وهضم حقهم كشعب محتلة أراضيه يعيش القهر والحرمان والقتل في مقاومة المحتل الغاشم.
لا غرابة أن تتكشف حجج إسرائيل وأهدافها فهي في الأساس لم تقم إلا على المجازر والقتل والدمار، فاهي تثبت ذلك في تنفيذها الإبادة الجماعية لسكان غزة وتهجير من تبقى منهم لتعيد استعمار القطاع، وتسعى إلى التوسع بضربها لبنان وتهديدها جميع دول المنطقة بالاجتياح والدمار إن تجرأت دولة في الوقوف ضدها.
إن تحالف الصهيونية مع الرأسمالية العالمية والماسونية لا غرابة في ذلك. ولا غرابة أن تنزاح مقولتهم أن العالم أصبح أكثر أمناً بعد كل جريمة اغتيال تنفذها إسرائيل وأمريكا. ما الغرابة إذن؟
الغرابة والمستغرب هو نحن العرب الخاسرون دوماً، انزاح عنا الكثير، الفقدان ليس في النفس والمال، الفقد في العزة والكرامة والسيادة والشهامة، صورة العربي أصبحت خلال هذه السنة أكثر تشويهاً وقبحاً وأصبحت الشعوب الأخرى تنظر للعرب أمة مشوهة دون مبادئ ولا كرامة، لا تستطيع الدفاع عن نفسها، متعاونين مع الأعداء ضد بعضهم البعض. وضع العرب أصبح كارثي تداعت علينا أمم الأرض كلها ليس من قلة ولا من ضعف ولكننا غثاء كغثاء السيل (كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) نزعت المهابة من قلوب أعدائنا ومنا ووضع بدل منها الوهن والخذلان. للآسف هذا ما جنيناه على أنفسنا ولا زلنا. ضرب علينا الذل والهوان فتراكضنا فراداً وجماعاً هرولة للتطبيع وعقد اتفاقيات متسارعة مع الكيان الصهيوني والكلام المعسول مخدوعين بالوعود الكاذبة وأنهار من العسل المصفى.
الكثير من الأقنعة تمزقت وانزاح ملامحها، وأصبحت مكشوفة دون ملامح ولا أصباغ والكثير من أولئك الذين كنا نعتقد بأنهم سند وذخر للأمة العربية انزاحت عنهم عروبتهم وتمادوا في وحل من الفجور، وياليتهم صمتوا أو غضوا الطرف لكنهم بكل خذلان جندوا أنفسهم للترويج لسردية العدو الصهيوني وخلقوا من أنفسهم أبواقا للدفاع عن القتلة المجرمين ويصبوا جام لعناتهم وسبهم البذيء على المقاومة ومن يدعمها ويرمونها بشتى الأوصاف القذرة، بل اصطفوا في جانب العدو ضد أبناء جلدتهم ودينهم ولربما شاركوا حسب بعض التقارير مع جيش العدو.
بعد سنة زاد العرب في انقسامهم وزاد تقسمهم إلى فتات وذرات صعب تجميعها، ضربت المذهبية ضربتها وأصبحت أكثر قوة عن ذي قبل، وتفرقوا إلى فريقين متناحرين، فريق مع المقاومة ولو بأضعف الإيمان وفريق آخر ضد المقاومة وشعاره من ليس معنا فهو ضدنا. نجحت أمريكا والغرب في إبعاد العالم الإسلامي عن جوهر القضية الفلسطينية إلا القليل جداً من الدول التي لا تزال على العهد، نتكلم أيضاً عن فقدان العالم العربي الكثير من الدول والتكتلات التي كانت وعلى مر السنين الداعم الأساسي والسند للقضايا العربية مثل أغلب الدول الأسيوية والأفريقية ومجموعة عدم الانحياز والهند على رأسها والكثير من دول أمريكا اللاتينية.
انزاحت كل خطط العرب واستراتيجياتهم وكل اجتماعاتهم وكل تحالفاتهم وتبين أنها كانت واهية وخادعة، ولم تكن إلا حبرا على ورق، كل مبادراتهم وسعيهم للسلام والتعايش والتطبيع تلك المبادرات التي قال عنها شارون رئيس وزراء الصهيوني "بأنها لا تستحق الحبر الذي كتبت بها". سؤال بات يردده كل عربي غيور على عروبته ودينه وأخلاقه: إلى متى يستمر هذا الانحدار والتردي والانحطاط ألا من منقذ يأتي ألا مدد، متى يدرك العرب عدوهم الحقيقي الماثل أمامهم المتجلي بكل وضوح، متى يعلمون الحقيقة (بالتأكيد يعرفون ذلك)؟
المحزن المبكي والمضحك أن كل هذه الإنزياحات والأقنعة التي انزاحت عنها ملامحها والتي دوى انزياحها كل الأرجاء تعاد مرة أخرى ويعاد استخدامها وتضع على الوجوه لتخفي عورات وقبح وتشوهات أخرى لا تزال تتوالد وتتناسخ، لا شيء جديد في ذلك، ولا فعل ولا أي شيء.
ببساطة لأن الممسك بتلك الأقنعة هو من يتحكم فيها متى يخلعها ومتى يعيد وضعها مرة أخرى لا يزال في أوج عظمته وبطشة لا يزال في عنفوان شبابه وفتوته رغم سنوات عمرة المديدة. وكأننا نعيش متوالية كونية يتوالد فيها القبح ويتسيد، ولا قوة تستطيع أن تزيله من علوه.
إسرائيل قتلت وهجرت الكثير من الفلسطينيين وتمادوا في القتل لدرجة أنساهم حقيقتهم أنهم قتلة مجرمين، القتل عادة لديهم لا يستطيعون الفكاك منها ينسون قتلاهم وكم قتلوا. كذلك هم الفلسطينيون، أيضا، مهما قتلوا ينسوا أن يموتوا ويظلوا يعيشون ويترعرعون ويطول في أعمارهم ويعيدوا ترتيب أوراقهم ويعيدوا الكرة مرات ومرات ومرات. مهما دارت في أذهان القتلة من خطط تدميرية تجد في المقابل خطط أكثر فتكا من المقاومة وهكذا. فكم من قائد ومقاوم رحلوا لكن ذلك لم يأتي إلا بمقاومين أكثر باساً وصلابة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکثیر من فی الأساس لا تزال فی ذلک
إقرأ أيضاً: