في قصيدة الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش "في القدس" مقطع يرسم فيه بعبقرتيه المعهودة مشهد تخيلي ولكنه في الحقيقة هو مشهد واقعي حقيقي يتكرر ويتوالد ويتناسخ، يقول عندما تصادفه فجأة جندية، وتصرخ فيه:
"ماذا بعد؟ صاحت فجأة جندية: هو أنت ثانية؟ ألم أقتلك؟
قلت: قتلتني... ونسيتُ، مثلك، أن أموت".
هكذا هو إذن الشعب الفلسطيني لا يموت، تفتك به إسرائيل وتقتله وتهجّره؛ ولكنه لا يموت بل تصرخ فيه كل القوى الصهيونية بكل ما تملكه من قوة وجبروت وسلاح تدميري فتاك، لم يبقَ شيء إلا واستخدمته، لكنّ هذا الشعب العنيد القوي الصلب الذي لا يتوانى من زف شهداءه في كل لحظة يبقى حياً لا يموت ولا يتراجع ولا يتقهقر.
عديدة ومتنوعة وكثيرة هي المفارقات والإنزياحات التي انكشفت بعد مرور عام كامل على انطلاق طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر من العام الماضي وتفكك غموضها وزال.
فلربما مرحلة السقوط لم تحن بعد وقد يتطلب الكثير من الجهد والعمل المتواصل للعمل على إسقاط الكثير من أشياء يعتقد أنها لا تزال من المسلمات.
ما قبل السابع من اكتوبر لن يكون كما بعده. خلال هذه السنة السريعة جداً في قياس التغيير والتبدل، صحيح أن التكلفة كانت كبيرة جداً، وصحيح أن إسرائيل ارتكبت الكثير من المجازر التي راح ضحيتها عدد من الشهداء أغلبهم من الأطفال والنساء وكبار السن وصحيح أن إسرائيل دمرت كل شيء في غزة ولم تراعي في ذلك لا مستشفيات ولا مدارس ولا دور عبادة، مساجد وكنائس، ولم يكن لديها خطوط حُمر وهذا هو ديدن دولة استعمارية لا تنتج إلا الدمار والقتل والعنصرية المقيتة. الشيء المهم في كل ذلك والذي يعتقد على نطاق واسع، هو هذا الانكشاف والإنزياحات والسقوط المدوي والانحطاط لكل ما كان يعتقد أنها مثل وإنسانية وأخلاق وحقوق إنسان. وكما يقول محمود درويش أيضا: "سقط القناع عن القناع".
الإنزياحات والانكشافات وإماطة اللثام عن أشياء كثيرة، لكن أغلبها في الأصل لا يعول عليها في الأساس وكان يُعرف على نطاق واسع ولم يخفَ ولم يكن بحاجة إلى تروي وتبصر، إذا قلنا مثلا سقطت كل المواثيق والمبادئ الأخلاقية والإنسانية الأممية وأولئك الذين يتغنون بحقوق الإنسان والعدالة والمساواة فلا غرابة لنا في ذلك فذلك السقوط بدأ منذ سنوات بل في الأساس لم تكن تلك المثاليات موجودة في الأساس إلا لخدمة أغراض الاستعمار والسيطرة على الشعوب ونهب ثرواتها، لا يحملون في نفوسهم إلا الدجل والتدليس والوقاحة والخداع. فهي في الحقيقة لا تزال لم تسقط ولا تزال باقية وربما يعاد تدويرها وبعثها من جديد.
لا غرابة أبداً ولم نكن يوماً ممن يهلل لمثل هذا المسلمات التي نعرف ويعرف الكثير بأنها في الأساس شرعت وأسست فقط لخدمة أغراض الصهيونية والرأسمالية العالمية تعينها في توحشها.
لا غرابة أن يستقبل المجرم نتنياهو في الكونجرس بالتصفيق وهو يرمي في وجوههم ضروبا من الكذب والتضليل والخداع. ولا غرابة أن يتمخطر المجرمون في الأمم المتحدة بكل عنجهية وتكبير أمام حشد من المنافقين. انزاحت مقوله العالم الحر والمجتمع الدولي ومنظمات الدولية والمواثيق الدولية والمعاهدات.
ينزاح الإعلام الغربي، لا غرابة في ذلك، الإعلام الذي كان يدعي الشفافية والمسؤولية والذي يتباهى دوماً بالحيادية والنزاهة والمصداقية، ولا استغراب أن يتحول إلى إعلام يروج ويدعم السردية الصهيونية وأكاذيبها وتضليلها وكان عوناً في ارتكاب إسرائيل للمذابح والمجازر والإرهاب الذي مارسته ضد الفلسطينيين العزل والتطهير العرقي وكل صروف الدمار والقتل، بل كان السبب في انفلات الغرائز الاجرامية لقادة الدولة العبرية الذين لا يخفون نواياهم في إبادة الفلسطينيين، بل ونعتهم بأنهم (حيوانات بشرية) في أعلى درجات العنصرية البغيضة. لا غرابة في هذا الإعلام الذي ساهم وبشكل واسع في رسم صورة مشوهة عن الفلسطينيين ونضالهم ونعتهم بالإرهاب وهضم حقهم كشعب محتلة أراضيه يعيش القهر والحرمان والقتل في مقاومة المحتل الغاشم.
لا غرابة أن تتكشف حجج إسرائيل وأهدافها فهي في الأساس لم تقم إلا على المجازر والقتل والدمار، فاهي تثبت ذلك في تنفيذها الإبادة الجماعية لسكان غزة وتهجير من تبقى منهم لتعيد استعمار القطاع، وتسعى إلى التوسع بضربها لبنان وتهديدها جميع دول المنطقة بالاجتياح والدمار إن تجرأت دولة في الوقوف ضدها.
إن تحالف الصهيونية مع الرأسمالية العالمية والماسونية لا غرابة في ذلك. ولا غرابة أن تنزاح مقولتهم أن العالم أصبح أكثر أمناً بعد كل جريمة اغتيال تنفذها إسرائيل وأمريكا. ما الغرابة إذن؟
الغرابة والمستغرب هو نحن العرب الخاسرون دوماً، انزاح عنا الكثير، الفقدان ليس في النفس والمال، الفقد في العزة والكرامة والسيادة والشهامة، صورة العربي أصبحت خلال هذه السنة أكثر تشويهاً وقبحاً وأصبحت الشعوب الأخرى تنظر للعرب أمة مشوهة دون مبادئ ولا كرامة، لا تستطيع الدفاع عن نفسها، متعاونين مع الأعداء ضد بعضهم البعض. وضع العرب أصبح كارثي تداعت علينا أمم الأرض كلها ليس من قلة ولا من ضعف ولكننا غثاء كغثاء السيل (كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) نزعت المهابة من قلوب أعدائنا ومنا ووضع بدل منها الوهن والخذلان. للآسف هذا ما جنيناه على أنفسنا ولا زلنا. ضرب علينا الذل والهوان فتراكضنا فراداً وجماعاً هرولة للتطبيع وعقد اتفاقيات متسارعة مع الكيان الصهيوني والكلام المعسول مخدوعين بالوعود الكاذبة وأنهار من العسل المصفى.
الكثير من الأقنعة تمزقت وانزاح ملامحها، وأصبحت مكشوفة دون ملامح ولا أصباغ والكثير من أولئك الذين كنا نعتقد بأنهم سند وذخر للأمة العربية انزاحت عنهم عروبتهم وتمادوا في وحل من الفجور، وياليتهم صمتوا أو غضوا الطرف لكنهم بكل خذلان جندوا أنفسهم للترويج لسردية العدو الصهيوني وخلقوا من أنفسهم أبواقا للدفاع عن القتلة المجرمين ويصبوا جام لعناتهم وسبهم البذيء على المقاومة ومن يدعمها ويرمونها بشتى الأوصاف القذرة، بل اصطفوا في جانب العدو ضد أبناء جلدتهم ودينهم ولربما شاركوا حسب بعض التقارير مع جيش العدو.
بعد سنة زاد العرب في انقسامهم وزاد تقسمهم إلى فتات وذرات صعب تجميعها، ضربت المذهبية ضربتها وأصبحت أكثر قوة عن ذي قبل، وتفرقوا إلى فريقين متناحرين، فريق مع المقاومة ولو بأضعف الإيمان وفريق آخر ضد المقاومة وشعاره من ليس معنا فهو ضدنا. نجحت أمريكا والغرب في إبعاد العالم الإسلامي عن جوهر القضية الفلسطينية إلا القليل جداً من الدول التي لا تزال على العهد، نتكلم أيضاً عن فقدان العالم العربي الكثير من الدول والتكتلات التي كانت وعلى مر السنين الداعم الأساسي والسند للقضايا العربية مثل أغلب الدول الأسيوية والأفريقية ومجموعة عدم الانحياز والهند على رأسها والكثير من دول أمريكا اللاتينية.
انزاحت كل خطط العرب واستراتيجياتهم وكل اجتماعاتهم وكل تحالفاتهم وتبين أنها كانت واهية وخادعة، ولم تكن إلا حبرا على ورق، كل مبادراتهم وسعيهم للسلام والتعايش والتطبيع تلك المبادرات التي قال عنها شارون رئيس وزراء الصهيوني "بأنها لا تستحق الحبر الذي كتبت بها". سؤال بات يردده كل عربي غيور على عروبته ودينه وأخلاقه: إلى متى يستمر هذا الانحدار والتردي والانحطاط ألا من منقذ يأتي ألا مدد، متى يدرك العرب عدوهم الحقيقي الماثل أمامهم المتجلي بكل وضوح، متى يعلمون الحقيقة (بالتأكيد يعرفون ذلك)؟
المحزن المبكي والمضحك أن كل هذه الإنزياحات والأقنعة التي انزاحت عنها ملامحها والتي دوى انزياحها كل الأرجاء تعاد مرة أخرى ويعاد استخدامها وتضع على الوجوه لتخفي عورات وقبح وتشوهات أخرى لا تزال تتوالد وتتناسخ، لا شيء جديد في ذلك، ولا فعل ولا أي شيء.
ببساطة لأن الممسك بتلك الأقنعة هو من يتحكم فيها متى يخلعها ومتى يعيد وضعها مرة أخرى لا يزال في أوج عظمته وبطشة لا يزال في عنفوان شبابه وفتوته رغم سنوات عمرة المديدة. وكأننا نعيش متوالية كونية يتوالد فيها القبح ويتسيد، ولا قوة تستطيع أن تزيله من علوه.
إسرائيل قتلت وهجرت الكثير من الفلسطينيين وتمادوا في القتل لدرجة أنساهم حقيقتهم أنهم قتلة مجرمين، القتل عادة لديهم لا يستطيعون الفكاك منها ينسون قتلاهم وكم قتلوا. كذلك هم الفلسطينيون، أيضا، مهما قتلوا ينسوا أن يموتوا ويظلوا يعيشون ويترعرعون ويطول في أعمارهم ويعيدوا ترتيب أوراقهم ويعيدوا الكرة مرات ومرات ومرات. مهما دارت في أذهان القتلة من خطط تدميرية تجد في المقابل خطط أكثر فتكا من المقاومة وهكذا. فكم من قائد ومقاوم رحلوا لكن ذلك لم يأتي إلا بمقاومين أكثر باساً وصلابة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکثیر من فی الأساس لا تزال فی ذلک
إقرأ أيضاً:
الفرقة الرابعة.. الإمبراطورية التي نهبت اقتصاد سوريا
دمشق "أ.ف.ب": من مقارّها في تلال وعرة مشرفة على دمشق، استنزفت الفرقة الرابعة، امبراطورية ماهر الأسد شقيق الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الاقتصاد السوري، فنهبت مقدراته واستنفدتها حتى آخر قطرة.
بعد إطاحة حكم الأسد، تعرض الكثير من مقار تلك الوحدة العسكرية السيئة السمعة التي أثارت الرعب في سوريا، للنهب. لكن مستندات متناثرة داخلها تروي تفاصيل عن حياة ترف وثروات تمتع بها "سيدي المعلم"، أي ماهر الأسد، مع المحظيين من معاونيه، فيما كان بعض جنوده يكافحون لتأمين قوت عائلاتهم الى حدّ التسوّل.
وتكشف مجموعة وثائق اطلعت عليها وكالة فرانس برس داخل عدد من هذه المواقع المهجورة الآن، النقاب عن امبراطورية اقتصادية واسعة بناها ماهر الأسد وشبكته من المنتفعين، لم تترك مجالا لم تتدخل فيه، من صنع الكبتاغون والاتجار به وصولا الى فرض أتاوات على المعابر الحدودية والحواجز.
ولطالما اتهمت حكومات غربية ماهر الأسد وأعوانه بتحويل سوريا إلى "دولة مخدرات" أغرقت الشرق الأوسط بأقراص الكبتاغون، وهي مادة منشطة غير قانونية كانت تهرّب خصوصا الى الخليج.
لكن بعيدا من التجارة التي تقدّر قيمتها بأكثر من 10 مليارات دولار، تُظهر المستندات التي تفحصتها فرانس برس كيف تغلغلت الفرقة الرابعة في الكثير من مفاصل البلد، ما جعلها أشبه بـ"مافيا" محظية داخل دولة مارقة.
استولت الفرقة الرابعة على منازل ومزارع، وصادرت بضائع شتى من مواد غذائية وسيارات وأجهزة إلكترونية لبيعها. ونهبت النحاس والمعادن من مناطق دمرتها سنوات الحرب الطويلة.
وفرضت كذلك أتاوات عند الحواجز ونقاط التفتيش، وجنت أموالا من مرافقة صهاريج نفط وحماية مسارها، حتى تلك الآتية من مناطق سيطر عليها الجهاديون. واحتكرت أيضا تجارة التبغ والمعادن.
أنفاق وخزنات
في صلب هذه الشبكة الفاسدة، تربّع المقر الخاص لماهر الأسد فوق متاهة أنفاق محفورة في قلب جبل يعلو دمشق، يتسع بعضها لمرور شاحنة.
وقاد حارس ملثم تابع للسلطة السورية الجديدة فريق وكالة فرانس برس عبر الأنفاق، كما لو أنه دليل سياحي مشيرا الى حمام هنا وغرفة نوم هناك، وما بدا أشبه بمسارات خروج في حالات الطوارئ.
بعد النزول عبر سلم شديد الانحدار مؤلف من 160 درجة، توجد غرف موصدة ببوابات مصفحة.
ويقول الحارس إنه أحصى تسع خزنات داخل إحدى الغرف.
ويوضح كيف أن الخزنات تعرضت "للكسر" والنهب على أيدي أشخاص اقتحموا المكان في الثامن من ديسمبر، بعد ساعات قليلة على إطاحة فصائل معارضة بقيادة هيئة تحرير الشام بحكم عائلة الأسد التي قادت سوريا بقبضة حديد لأكثر من خمسة عقود.
وبحسب مصدر عراقي رفيع المستوى ومصدرين سوريين آخرين، لم يعلم ماهر الأسد (58 عاما) حينها بعزم شقيقه الفرار إلى روسيا. وهرب بشكل منفصل في مروحية أقلته إلى العراق ومنها الى روسيا، عبر إيران على الأرجح.
في المجمع تحت الأرض، تبدو جلية الفوضى: خزنات مفتوحة وصناديق ساعات رولكس وكارتييه فارغة مرمية في كل ناحية. ولا يتضح ما إذا كانت الخزنات قد أُفرغت من الأموال قبل نهبها أم لا.
ويشير الحارس الى مكتب، يقول إنه "المكتب الأساسي" لماهر الأسد، مؤلف من "طابقين فوق الأرض وتحته أنفاق تضم (...) غرفا مغلقة لا يمكن فتحها".
إلى جانب خزنة مهجورة داخل ممر، يمكن رؤية جهاز تغليف حراري جرى استخدامه على الأرجح لتغليف الأوراق النقدية.
ثروات مخفية
في أحد المستندات التي تفنّد بالتفصيل النفقات كافة، وعثر عليه فريق فرانس برس بين مئات الأوراق المبعثرة داخل مكتب أمن تابع للفرقة الرابعة، يظهر أنه كان هناك حتى الرابع من يونيو سيولة نقدية قدرها ثمانون مليون دولار، وثمانية ملايين يورو، و41 مليار ليرة سورية.
وتوثّق مئات المستندات احتفاظ ماهر الأسد ومكتب الأمن بمبالغ شبيهة في الفترة الممتدة بين العامين 2021 و2024.
ويقول الباحث لدى معهد كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط خضر خضور لفرانس برس "هذا ليس إلا عينة صغيرة من الثروة التي جمعها ماهر وأعوانه عبر صفقاتهم التجارية المشبوهة".
ويقدّر أن تكون ثروتهم الحقيقية مخفية "في الخارج، على الأرجح في دول عربية وإفريقية".
ويضيف "كانت الفرقة الرابعة بمثابة آلة لطباعة المال" في سوريا حيث يعيش أكثر من تسعين في المئة من السكان، وفق الأمم المتحدة، بدولارَين أو أكثر بقليل في اليوم الواحد.
دولة داخل الدولة
لم تنجح العقوبات الغربية في كبح جماح ماهر الأسد ورجاله أو الحدّ من نفوذهم طيلة سنوات النزاع.
ويقول العميد السابق في الفرقة الرابعة عمر شعبان الذي عقد تسوية مع الإدارة السورية الجديدة "كانت الفرقة الرابعة دولة مستقلة، تمتلك (...) كل شيء".
وفي حين كان التعامل بالدولار الأميركي محظورا في سوريا، أصبح العديد "من ضباط الأمن أصحاب ثروات، لديهم خزنات وأموال (...) بالدولار حصرا"، على حد قوله.
وأقام أعوان ماهر المقربون في قصور فاخرة واعتادوا على شحن سيارات فارهة من الخارج، بينما كان البلد خارج أسوار قصورهم غارقا في دوامة من الفقر والبؤس والخوف.
بعد أسابيع من إطاحة حكم الأسد، كان سوريون ما زالوا يأتون الى فيلا ماهر الأسد المشيّدة على تلة في منطقة يعفور الراقية، ويفتشون في الغرف القريبة من اسطبلات اعتادت ابنته الفائزة بجوائز عدة، ركوب الخيل فيها.
داخل القصر المنهوب، سأل رجل بانفعال فريق فرانس برس وهو ينتقل من غرفة الى أخرى "أريد الذهب. أين الذهب؟".
لكنه لم يعثر إلا على صور قديمة مبعثرة على الأرض، إحداها لماهر وزوجته مع أولادهما الثلاثة.
الرجل الخفي
لطالما كان ماهر الأسد شخصية غامضة تثير الخوف في سوريا. ويُنظر إليه على أنه الرجل الذي تولّى تنفيذ "الأعمال القذرة للنظام".
ومع أن صوره غُلّقت داخل كل مقر للفرقة الرابعة، لكنه نادرا ما كان يظهر في الأماكن العامة.
ورغم اتهامه من منظمات حقوقية بإصدار أوامر لقتل متظاهرين عزل في سوريا منذ العام 2011، وربط اسمه باغتيالات، لكنه بقي بمثابة "الرجل الخفي"، وفق ما يقول مصدر مقرب من عائلة الأسد لفرانس برس.
ويوضح المصدر "ستجد قلة من الأشخاص يقولون إنهم يعرفونه" شخصيا.
في مقابلة مع قناة العربية السعودية مطلع فبراير، قالت مجد الجدعان، شقيقة زوجة ماهر الأسد والتي غادرت سوريا بعد خلافات معه عام 2008 وتقدّم نفسها على أنها معارضة لعائلة الأسد، إنه كان كريما وأحيانا ذا صحبة طيبة. لكن "حين يغضب، كان يفقد السيطرة بالكامل على تصرفاته واقواله، وهذا ما كان مرعبا في شخصيته".
وكانت الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد بمثابة القبضة الحديد للنظام وارتبط اسمها بسلسلة طويلة من الفظائع.
بعد اندلاع الحرب في سوريا، قالت جدعان في مقابلة مع تلفزيون فرنسي، "ماهر يعرف كيف يدمّر، يعرف كيف يقتل ثم يكذب ليظهر بريئا"، مشبهة قسوته بوالده الراحل حافظ الأسد.
سيارات فارهة
حين يعدّد سكان في دمشق بسخط انتهاكات الفرقة الرابعة، يتردّد اسم آخر إلى جانب اسم ماهر الأسد، هو غسان بلال، مدير مكتب الأمن في الفرقة الرابعة.
على غرار رئيسه، كان بلال مولعا بجمع السيارات الفارهة ويقيم في فيلا في يعفور. وتقول مصادر أمنية إنه غادر سوريا بعد سقوط الحكم.
داخل مكتبه الفسيح في المقر الرئيسي لمكتب الأمن، تكشف معاينة فاتورة تلو الأخرى تفاصيل أسلوب حياته الباذخ. وبين تلك الفواتير واحدة متعلقة بصيانة سيارة الكاديلاك خاصته.
في صيف 2024، شحن بلال إلى دبي سيارتَين من طراز ليكسس ومرسيدس، بحسب وثيقة اطلعت عليها فرانس برس. وتظهر فواتير تسديد مبلغ بقيمة 29 ألف دولار كبدل جمارك وتأمين في دولة الإمارات عبر بطاقة ائتمان مسجّلة باسم شخص آخر.
وتظهر ورقة مكتوبة بخط اليد أنه كان يسدّد، بسبب خضوعه لعقوبات غربية على خلفية اتهامه بانتهاكات لحقوق الانسان، بدل اشتراك بمنصة "نتفليكس" للأفلام "بواسطة أحد الأصدقاء عبر بطاقة ائتمان في الخارج".
وتتضمن قوائم أخرى نفقات، غالبيتها منزلية ولأولاده أو للمطبخ أو لشراء الوقود ومصاريف أملاك بينها الفيلا التي تعرضت لاحقا للنهب.
وبلغت قيمة تلك النفقات خلال عشرة أيام فقط من شهر أغسطس 55 ألف دولار.
في الشهر ذاته، كتب جندي من الفرقة الرابعة الى بلال متوسلا منحه "إعانة مالية (كونه) بوضع مادي سيء جدا".
وقد صرف له بلال 500 ألف ليرة سورية كإعانة، أي ما يعادل حينها 33 دولارا، فيما تظهر وثيقة أخرى ضبط أحد جنود الفرقة الرابعة يتسوّل في الشوارع أثناء دوامه.
رجال المال
وتمّ إحراق آلاف المستندات والملفات، على ما يبدو، لكن العديد من الوثائق السرية التي نجت تحمل في طياتها معلومات كثيرة.
من بين الأسماء البارزة المذكورة في بعض الوثائق والتي ساهم أصحابها في تمويل الفرقة الرابعة، تبرز أسماء رجال أعمال مدرجين على لوائح العقوبات، على غرار خالد قدور ورئيف القوتلي، والأخوين قاطرجي المتهمين بجني مئات الملايين من الدولارات لصالح الحرس الثوري الإيراني والحوثيين في اليمن، عبر بيع النفط الإيراني إلى سوريا والصين.
وبحسب مصادر أمنية ومن قطاع الأعمال، تولى القوتلي إدارة نقاط تفتيش ومعابر، حيث "فُرضت أتاوات" على بضائع أو جرت مصادرتها.
ونفى قدّور الذي فرضت عليه الولايات المتحدة عقوبات لدعمه ماهر الأسد ماديا في تهريب الكبتاغون والسجائر والهواتف، أن يكون له أي تعامل مع ماهر الأسد حين سعى لأن تُرفع العقوبات الأوروبية عنه عام 2018.
لكنّ قائمة إيرادات المكتب الأمني لعام 2020، أظهرت أنه وفّر نحو 6,5 ملايين دولار في ذاك العام لصالح المكتب.
وتتضمن الوثيقة لائحة طويلة من المبالغ بالليرة السورية ومصادرها المتنوعة، وبينها الدخان الوطني، و"ترفيق"، أي حماية صهاريج النفط، وبيع المصادرات.
مافيا
ويشير خضر خضور إلى أن مكتب الأمن كان يتولى معظم المعاملات المالية للفرقة الرابعة ويصدر بطاقات أمنية للأشخاص الذين تعامل معهم لتسهيل تحركاتهم.
في 2021، قال أحد تجار المخدرات الذي يحمل جوازي سفر لبنانيا وسوريا، لمحققين لبنانيين إنه استحوذ على بطاقة أمنية من الفرقة الرابعة، وإن مكتب الأمن وافق على حماية شحنة مخدرات لتاجر آخر مقابل مليونَي دولار، بحسب إفادة اطلعت عليها فرانس برس في حينه.
وتؤكد مصادر أمنية عدّة لفرانس برس أن بلال كان الشخص الأساس في تجارة الكبتاغون لدى الفرقة الرابعة، واتهمته وزارة الخزانة الأميركية بالفعل بأنه من اللاعبين الرئيسيين في تلك التجارة.
وزارت فرانس برس مصنعا لإنتاج الكبتاغون داخل فيلا استولت عليها الفرقة الرابعة في بلدة الديماس بريف دمشق قرب الحدود مع لبنان. وكانت غرفها مليئة بصناديق وبراميل من مواد الكافيين والإيثانول والباراسيتامول المستخدمة في صنع المخدر.
ويقول سكان محليون إنه لم يُسمح لهم أن يقتربوا من الفيلا، وكان يُمنع حتى على الرعاة التواجد في التلال المحيطة.
ويقول ضابط سابق أمضى جزءا من خدمته في مكتب الأمن دون الكشف عن اسمه، إن المكتب كان يتمتع بـ"حصانة وكان ممنوعا على أي جهة أمنية التعرّض لأي عنصر إلّا بموافقة ماهر".
ويضيف "كانت مافيا، وكنت أعلم أنني أعمل لدى مافيا".
تركوا الشعب يجوع
وطارد جشع الفرقة الرابعة عائلات على مدى عقود، كما تُظهر رسالة كتبها عدنان الديب، وهو مشرف على مقبرة في مدينة حمص (وسط).
عند حاجز مهجور للفرقة الرابعة قرب دمشق، وبين مئات المستندات المتسخة والمرمية أرضا، عثر فريق فرانس برس على رسالة من ديب يطلب فيها من الفرقة الرابعة استعادة مزرعته.
ويروي الديب لفرانس برس كيف أن الفرقة الرابعة صادرت فيلا تملكها عائلته وقصورا أخرى مجاورة قبل عشرة أعوام في قرية كفرعايا قرب حمص.
ورغم عدم السماح له بالاقتراب من ممتلكاته، كان على الديب دفع الضرائب المتوجبة على العقار الذي حولته الفرقة الرابعة بحسب قوله، إلى مكاتب، بينها أحد فروع مكتب الأمن، ومستودعات للمواد المصادرة، وغرفة أشبه بسجن.
خلال جولة في العقارات المصادرة، يقول أحد السكان لفرانس برس "مكتب أمن الرابعة هنا كان خطا أحمر لم يجرؤ أحد على الاقتراب منه".
ويروي كيف وجد بعد فرار العناصر كمية هائلة من البضائع المصادرة وبينها سيارات ودراجات نارية ومئات غالونات زيت القلي.
ويضيف "تركوا الشعب يجوع فيما كان كل شيء متاحا لهم هنا".
وتُظهر وثيقة من أحد العقارات المصادرة، أن مواطنة بلغ عدد أفراد عائلتها 25 شخصا، كان قسم منهم يقيم في خيمة وآخرون في "قنن للدواجن"، طلبت أكثر من مرة أن يخلي عناصر من الفرقة الرابعة منزلها لتقيم فيه مع عائلتها.
حصة الأسد لبشار
لم تسيطر الفرقة الرابعة على أي قطاع في الاقتصاد السوري بقدر سيطرتها على سوق المعادن.
ويقول العميد الشعبان "كان ممنوعا أن يحرّك أحد الحديد من دون موافقة الرابعة"، مضيفا أن التعامل بالنحاس مثلا كان حقا "حصريا" لها.
ويروي الضابط في مكتب الأمن الذي رفض الكشف عن اسمه، كيف توافد عناصر من الفرقة إلى احدى ضواحي دمشق بمجرد سيطرة القوات الحكومية عليها حينها، وبدأوا يسحبون أسلاك النحاس والحديد من المنازل المدمرة.
ويقول رئيس غرفة الصناعة السابق فارس الشهابي إن أحد مصانع المعادن الذي كان يديره أحد شركاء ماهر الأسد، كان يحتكر السوق، وأُجبر الجميع على الشراء منه حصرا.
و"لم يعد بإمكان" العديد من المعامل العمل جراء هذا الضغط، وفق الشهابي.
ويوضح أن ماهر الأسد و"أصدقاءه" كانوا يسيطرون على حصة كبيرة من الاقتصاد السوري، لكن المستفيد الأكبر كان بشار الأسد.
ويقول الشهابي "كانت شركة واحدة... والقصر الرئاسي كان دائما المرجع".
ويؤكد الضابط السابق في مكتب الأمن أن حصة من الأرباح والمضبوطات كانت تذهب دائما الى القصر الرئاسي.
إرث سام
ورغم أنه لم يتبق من الفرقة الرابعة اليوم إلا مستودعات مهجورة ومقرات منهوبة، يحذر الخبير في الشأن السوري لارس هاوخ من مؤسسة "كونفلكت ميدييشن سولوشنز"، من أن إرثها قد يكون ساما جدا.
ويقول "كانت الفرقة الرابعة لاعبا عسكريا، وجهازا أمنيا، وكيانا استخباراتيا، وقوة اقتصادية وسياسية، ومؤسسة إجرامية عابرة للحدود".
ويضيف "مؤسسة ذات تاريخ يمتد لعقود، وقدرات مالية هائلة، وعلاقات وثيقة مع النخب، لا يمكن ان تختفي ببساطة".
وينبه الى أنه "فيما فرّت القيادة العليا من البلد"، فقد تراجعت "نواتها الصلبة"، ومعظمهم من الموالين للحكم السابق، إلى المناطق الساحلية ذات الغالبية العلوية، الطائفة التي تنتمي إليها عائلة الأسد.
وسعت السلطات الجديدة منذ وصولها الى دمشق مرارا لطمأنة الأقليات بأنهم لن يتعرضوا لأي أذى، لكن أعمال عنف طالت العلويين في مناطق مختلفة، خصوصا في وسط البلاد وغربها.
ولا يستبعد هاوخ وجود أسلحة مخبأة في مخازن، تضاف اليها "مليارات الدولارات" التي كانت موضّبة في خزنات الفرقة الرابعة.
وينبّه من أن "كل ما يلزم لتمرد طويل الأمد متوافر... إذا فشلت عملية الانتقال في سوريا في أن تكون شاملة بالفعل وتحقق العدالة الانتقالية".