عادل حمودة يكتب:: الضبع الأعرج لا يخاف نار جهنم
تاريخ النشر: 9th, October 2024 GMT
قصة خيالية لكنها ربما حدثت فى الحقيقة
الضبع الأعرج لا يخاف نار جهنم
تقسم أمه أنها ولدته على عربة «كارو».
كانت تمشى إلى جوار سور «مجرى العيون» عندما فاجأها المخاض وأصر الجنين على أن يفارق رحمها بعد أن ضاق عليه.
وجدت عربة «كارو» مسنودة إلى السور ــ بعد أن تحرر الحصان من قيودها ووقف يقضى حاجته ــ فاختبت وراءها وراحت تصرخ حتى سمعها سائق «الكارو».
بمساعدة ثلاثة رجال أشداء رفعت فوق العربة الخشبية لحملها إلى «قصر العينى» لكن قبل أن تصل إلى المستشفى كان «خزعل» قد ولد.
«خزعل» تعنى «الضبع الأعراج» لكن جده الذى اختار الاسم لم يكن يعرف معناه إلا أنه اسم شريكه فى إدارة إمبراطورية «الكارو» التى يتربع على عرشها ويوصف بشيخها.
امتلك الجد وحده خمسين عربة «كارو».
استغل حاجة أصحاب عربات «الكارو» إلى المال. أقرضهم بنسبة موجعة من الربا أو «الفايظ» لم يقدروا على سدادها. استولى على عرباتهم بثمن بخس.
لم يقبل ابنه عبد الصمد بمهنته بعد أن حصل على شهادة التجارة المتوسطة. اقترض من أبيه مالا بالربا الفاحش وفتح ورشة لتصنيع المفاتيح.
خطرت بباله فكرة شريرة لتحقيق مكاسب كثيرة وسريعة.
كلف مجموعة من الصبية بجمع العملات النحاسية من الأسواق ليصنع منها المفاتيح بعد صهرها. ثلاثة قروش تصنع مفتاحا يبيعه بنصف جنيه.
فى سنوات قليلة أصبح ثريا.
لكنه مثله مثل أبيه ضاعف ثروته من إقراض المحتاجين من أهل الحى بالربا بضمان ذهب زوجاتهم الذى كان يحصل عليه غالبا لعجز كثير من المقترضين على السداد.
بل إنه ذات مرة حصل على زوجة منهن وفاء لدين زوجها.
كانت نسبة الربا التى استغل بها الجد ظروف المحتاجين عشرين فى المائة رفعها ابنه إلى ثلاثين فى المائة ورفعها حفيده إلى خمسين فى المائة أحيانا.
تأثرت النسبة صعودا وهبوطا حسب فائدة البنوك التى يقترضون منها المال ثم يقرضونه أضعافا مضاعفة.
فى الوقت نفسه وضع الجد والأب تحت تصرفهما مجموعة من البلطجية لتهديد ومطاردة وضرب من لا يسدد ما عليه ولحمايتهما أيضا.
اعتبر الحفيد وجود البلطجية نوعا من الهمجية بعد أن أصبح اسما معروفا فى عالم البيزنس والأهم أنه أدرك أن ارتباطه بالسلطة أفضل الطرق لتكوين وحماية الثروة.
تعلم الدرس من الصور التى تنشرها مجلات المجتمع فى عهد سابق حيث كان الوزير والتاجر على مائدة واحدة وحيث نجوم الحزب الوطنى يقترضون من البنوك ويماطلون فى السداد بل يحصلون على ما يشاءون من أراضٍ بسعر التراب يبنون عليها منتجعات سكنية وقرى سياحية ويكسبون من ورائها مليارات.
إنه لن يشارك أحدا فى السلطة ولكنه سيوظف رجالها فى شركاته بعد أن يتقاعدوا. وزراء سابقون يشعرونه بأهميته. أساتذة قانون كانوا عمداء فى جامعاتهم ليكشفوا له ثغرات النصوص التى يمكنه النفاذ منها. وآخرون من تخصصات مختلفة يسهلون أعماله فى المؤسسات الحكومية.
بدأ «خزعل» دراسة إدارة الأعمال فى الجامعة الأمريكية لكنه لم يستمر فيها. لم يشعر أنه ينتمى إلى مجتمعها. وسخر زملاؤه من بدانته وثيابه وخجله واسمه بالقطع.
انتقل إلى جامعة عين شمس بسيارة «بورش» وجيب متخم بالمال أوصله إلى رئاسة اتحاد الطلبة وأقنع بعضا من أساتذته بالدروس الخصوصية بل ربما وجد من يبيع إليه امتحانات البكالوريوس ليصبح أول الدفعة.
لكنه لم يقبل بالتدريس فى الكلية بعد تخرجه وافتتح مكتبا للاستشارات التجارية كان فى حقيقته بنكا سريا يقدم القروض بالفايظ المدمر.
الجينات الوراثية فرضت نفسها عليه لكنه استقبلها بزهو مثير للدهشة رغم أن ضحاياه الذين أفلسوا أو انتحروا أو اختفوا لا يحصون.
بل أكثر من ذلك كان يحرص على الصلاة فى المسجد والسجود لله شكرا على ما منحه من ثروة وكل ثلاثة أشهر هجرية بالضبط يسافر إلى مكة لتأدية العمرة وبالطبع كان الحج إلى البيت الحرام فرضا لا يتأخر عن موعده سنويا.
لكنه طوال الوقت يعيش بعيدا عن المجتمعات بل إنه بنى قصرا وسط مزرعة فى مدينة لا يسكنها الأغنياء ولم يسبق للصحف نشر صورته أو الحديث عنه حتى إن كثيرا من رجال الأعمال لم يعرفه وجها لوجه وإن سمعوا عنه.
فى استراحة على جبل «عرفات» جلس بعيدا بمفرده يتناول بشراهة ما يصل إليه من طعام يقدمه خادم جاء مرافقا له.
لفت المشهد نظر رجل أعمال سكندرى فتساءل:
«من يكون ذلك المجهول»؟
وجاءت الإجابات غير المتوقعة من عدة أصدقاء:
«إنه أغنى رجل فى مصر».
«ابعد عنه فهو يشتريك ويشترى بلدك».
«غالبا يمتلك خاتما سحريا»
«أتصور أنه على اتصال بالعالم السفلى»
رغم ما سمع لم يفقد الرجل فضوله واقترب منه وقدم إليه نفسه باعتباره واحدًا من أكبر تجار الحديد ويريد قرضا لا يزيد على خمسة ملايين جنيه لتوسيع تجارته.
لكنه فوجئ برد من خزعل لا يخلو من الغطرسة:
«المبلغ الذى تطلبه لا يثير شهيتى ضاعفه خمس أو ست أو عشر مرات وتعالى نتحدث».
ما يثير شهية «خزعل» طاجن الحمام بالأرز المعمر وأسياخ الكفتة الضانى وفاكهة القشدة الخضراء وكوب من الشاى الثقيل وتدخين المعسل والنوم فى مكانه الوثير أمام فيلم كوميدى.
لكنه والشهادة لله لا يقرب الخمر والميسر والمرة الوحيدة التى خدعه فيها أحد معارف زوجته وخلط الحشيش بالمعسل سرح فى سحب الدخان الأزرق ووافق على قرض بسعر بسيط.
من يومها وهو يفحص المعسل قبل وضع الفحم المشتعل عليه.
ذات مرة وهو فى مارينا ظل رجل أعمال يجادل فى نسبة الفايظ المرتفعة التى يطلبها طالبا تخفيضها خمسة فى المائة ورغم أن كلمته واحدة كما يقول إلا أن خزعل وافق على أن يكون التخفيض اثنين فى المائة فقط ليس تخلصا من الصداع فحسب وإنما كان يفكر فى مطلقته الشابة التى حرمته النوم ويبحث عن مدخل للزواج منها.
قاما لصلاة «الجمعة» فى المسجد وكانت المفاجأة أن الإمام خصص الخطبة عن الربا وراح يتحدث عن الذين يأكلون أموال الناس بالباطل لتشتعل النار فى بطونهم قبل أن يصبح الجحيم مسكنا دائما لهم.
وحتى لا يختلط الأمر على المصلين برأ الخطيب فوائد البنوك من شبهات الربا لأنها تعوض المودع عن نقص قيمة نقوده كما أنها تعد عائدا على استثمارها.
وقبل أن يقيم الصلاة كرر الخطيب لعنة الرسول على آكل الربا وموكله.
ما إن خرجا من المسجد حتى قال رجال الأعمال:
«أظن أنك بعد ما سمعت من تحذيرات دينية ومصير لا يليق بك فى جهنم ستخفض الفائدة أكثر مما طلبت».
قال خزعل:
«أبدا بل سأرفعها أكثر ألم تر الثمن الباهظ الذى سندفعه فى الآخرة؟ لا بد من مقابل مناسب له».
وأسقط فى يد رجل الأعمال وأدرك أن الشيطان أسهل من التعامل معه.
لكن ما الذى يجبر أحدًا على دفع نسبة ربا تصل إلى نصف المبلغ المدفوع؟
هناك نوع من رجال الأعمال استدان من البنوك إلى حد أنها أغلقت أبوابها فى وجهه فلم يعد أمامه لاستكمال مشروعاته سوى مؤسسة «خزعل».
وهناك نوع آخر يحتاج إلى مبلغ «كاش» فى الحال يصل إلى ملايين الدولارات خلال أيام معدودة لسداد فاتورة بضاعة مستوردة من الخارج لتشغيل مصانعه فلا يجد أمامه سوى خزعل.
وعادة ما يضمن خزعل القرض الذى يقدمه بالمشروع الذى يستكمل تموله فإذا لم يسدد مالك المشروع القرض استولى عليه خزعل وضمه إلى ممتلكاته.
هكذا تكونت ثروته التى قدرت فى سنوات قليلة بالمليارات.
وحتى يهرب من القوانين المنظمة للتمويل المالى أو العقارى اعتبر نفسه شريكا فى المشروعات التى يقرضها وليس ممولا لها.
لكن ذلك لا يكفى لحمايته قطعا.
لا بد من شخصيات لها نفوذ تقف إلى جانبه وتسانده وتوحى بأنه رجل شريف لا غبار عليه فضم إلى شركاته كثيرًا من المسئولين المتقاعدين فى تخصصات مختلفة مقابل رواتب مغرية وسيارة وسائق وسكرتيرة.
المثير للدهشة أنه لم يكن ليطلب من أغلبهم شيئا.
إنهم فص من الماس فى رابطة عنقه تبهر بضوئها كل من يصادفه وهذا يكفى.
لكن الأهم أنه أنشأ جمعية خيرية تساهم فى سد حاجات الفقراء وتعالجهم وتتبرع بأجهزة طبية للمستشفيات العامة وسيارات لذوى الاحتياجات الخاصة ومنح طلاب الجامعات قروضا حسنة لاستكمال تعليمهم.
على أنه لم يكن يحب الظهور وكأن الضوء سيكشفه حتى أقنعه أحد مديريه وكان شخصية مرموقة بدعوة صحفيين على عشاء ليعرفوا «أن فى البلد نوعية مختلفة من رجال الأعمال يضعون المجتمع قبل الربح أمام أعينهم».
لكن بخروج الضبع الأعرج من الكهف أثار من النميمة ما نبه أجهزة الرقابة المالية وبدأ التفتيش فى حياته وأعماله وأمواله وممتلكاته ومشروعاته.
ثبت أنه يخالف العديد من القوانين التى تجرم نشاطه المالى وتعتبره فى كثير من الأحيان ممارسة التمويل دون ترخيص وفى أحيان أخرى اعتبرته نوعا من غسل الأموال.
ونجحت هذه الأجهزة فى إعادة المليارات التى اقترضها من البنوك قبل أن يبددها أو يهربها إلى الخارج.
أبدى حسن نيته فى تنفيذ كل ما يطلب منه لكن الصدمات الحادة التى تعرض إليها أوجعت قلبه الذى لم يحتمل ضغوط التحقيقات وضغوط الدهون فى الشرايين وسقط من طوله ولم يكن هناك ما يمنع من سفره إلى الخارج لإجراء جراحة عاجلة.
سافر من القاهرة إلى لندن بعد أن حجز فى مستشفى «كرومويل» القريب من بيته فى منطقة «شلسى» اللندنية الراقية.
لكنه ما إن هبط فى مطار هيثرو حتى وجد طيارة خاصة فى انتظاره لتحمله إلى زيورخ.
فى زيورخ التقى برجل يدعى «ديفيد كوهين كورييل» على عشاء فى مطعم «فايزيس روزيس» وراحا يتهامسان ويوقعان على أوراق بدت أكثر حجما من العقود.
بقى خزعل فى زيورخ رغم أن الكل ظل معتقدا أنه فى لندن.
مر شهر واثنان وعشرة أشهر ولم يعد خزعل إلى مصر.
فى اليوم الأول للسنة الثالثة بعد هروبه فوجئت السلطات فى مصر برجل بدين وقصير يدخن سيجارا يقترب من طول معصمه يحمل توكيلا من خزعل بالتصرف فى ممتلكاته.
لم يكن من الصعب أن نعرف أن هذا الشخص هو ديفيد كوهين كورييل.
كان ذلك بالضبط فى أول يناير ٢٠١١.
ومنذ ذلك اليوم لم نعرف ما حدث بالضبط؟
أين خزعل بالتحديد؟
من يضع يده على ثروته؟
كم يملك من أموال فى الخارج؟
ولن يعرف أحد الإجابة لسبب بسيط أن هذه القصة خيالية ولكن ما الذى يمنع أن تحدث فى الواقع؟
كلف مجموعة من الصبية بجمع العملات النحاسية من الأسواق ليصنع منها المفاتيح بعد صهرها.. ثلاثة قروش تصنع مفتاحا يبيعه بنصف جنيه
بنى قصرا وسط مزرعة فى مدينة لا يسكنها الأغنياء ولم يسبق للصحف نشر صورته أو الحديث عنه حتى إن كثيرا من رجال الأعمال لم يعرفوه وجها لوجه وإن سمعوا عنه
مثله مثل أبيه ضاعف ثروته من إقراض المحتاجين من أهل الحى بالربا بضمان ذهب زوجاتهم
لكى يهرب من القوانين المنظمة للتمويل المالى أو العقارى اعتبر نفسه شريكا فى المشروعات التى يقرضها وليس ممولا لها
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: نار جهنم عادل حمودة سور مجرى العيون الأعرج من رجال الأعمال فى المائة بعد أن قبل أن لم یکن
إقرأ أيضاً:
تحليل سياسي يكتبه محمد مصطفى أبوشامة: وانتصرت «أمريكا أولاً».. وسقطت العولمة
أعلنت وسائل الإعلام الأمريكية تقدماً كبيراً للرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب والمرشح الجمهورى على منافسته كامالا هاريس المرشحة الديمقراطية، وبات ترامب هو الرئيس الـ47 للولايات المتحدة الأمريكية، بحسب قناة «فوكس نيوز» التى استبقت الجميع معلنةً الخبر، قبل أن يطل علينا الرئيس القادم، والعائد إلى البيت الأبيض معلناً انتصاره، فى مفاجأة تؤكد من جديد ضلال استطلاعات الرأى، التى أوحت للعالم فى الأسابيع الأخيرة أن النتيجة أقرب إلى التعادل، ولكن الصناديق أظهرت اكتساح الترامبية للولايات المتحدة الأمريكية.
وحتى يتسنى لنا الاطلاع على النتائج الكاملة فى كافة الولايات الأمريكية، وتحليلها، كى نستطيع فهماً حقيقياً لما حدث فى الخامس من نوفمبر 2024، واتجاهات تصويت الناخبين، والتى عكست قرارهم بشأن ما عرضه عليهم كلا المرشحين من قضايا.
إذن ما الذى يعنيه فوز «ترامب»؟ الرجل الذى تمثل عودته رئيساً سابقةً لم تتكرر فى تاريخ الولايات المتحدة إلا مرة واحدة منذ 132 عاماً، بأن يحكم رئيس دورتين غير متتاليتين، سبقه الرئيس جروفر كليفلاند فى نهاية القرن التاسع عشر، كما سيكون ترامب أول رئيس فى التاريخ يفوز بعد إدانته جنائياً بارتكاب العديد من الجرائم الفيدرالية وعلى مستوى الولايات.
ترامب أولاً وأمريكا أيضاً
«أمريكا أولاً»، ليس شعاراً انتخابياً سينتهى أثره بعد أن يحقق هدفه، لكنه فلسفة حكم تبلورت بها (الترامبية) كظاهرة سياسية، اختبرها الشعب الأمريكى بين عامَى (2017 و2021)، وعاد ليختار صاحبها مجدداً لدواعٍ اقتصادية، بحسب اتفاق عام بين أغلبية المحللين، وإشراكهم الرأى مع عدم إغفال الأثر الكبير لـ«ذكورية» المجتمع الأمريكى كدافع رئيسى للتصويت ضد «هاريس».
والتصويت الذكورى سبق أن حقق لـ«ترامب» ولايته الأولى بعد فوزه أمام هيلارى كلينتون، ولا ننسى أنه عندما ترشح أمامه رجل خسر بالفعل، وفاز بايدن فى الانتخابات السابقة، هذا لا ينفى دور خطته السياسية، من الاقتصاد إلى المهاجرين، مروراً برفضه للإجهاض ودعواته المحافظة التى أيقظت شيئاً ما فى المجتمع الأمريكى، لقد أجاد ترامب اللعب على مشاعر الجماهير، ورسمت حملته صورة متميزة له؛ الرجل القوى المحافظ البارع اقتصادياً، الذى تخشاه دول العالم وتحاول قوى الشر اغتياله، فيما حصد دور البطولة بعد عملية اغتياله الفاشلة، وتحولت صورته بعد النجاة إلى أيقونة ترسخت فى المخيلة الأمريكية، تلك اللقطة التى رصدتها كاميرا مصور عبقرى، عندما نهض «ترامب» ثابتاً وشجاعاً رغم إصابته بعيار نارى، وهى صورة غسلت كل أخطائه وغفرت له ذنوبه أمام غالبية الأمريكيين.
وجاءت الفكرة
ليس استباقاً للحوادث، فالعالم كله بقى معلقاً طوال العام الأخير انتظاراً لهذا اليوم، عندما تنفض أمريكا يدها من مهرجان الانتخابات الرئيسية وتفيق لدورها الإمبراطورى.. كسيدة العالم وأقوى دولة فيه، بعد وصول ترامب، ما مصير هذا الدور فى ظل تراجعه الحاد خلال السنوات الماضية؟
يرى المفكّر الأمريكىّ جورج مودلسكىّ أن مدّة حياة أى «نظام عالمىّ» هى تقريباً 100 سنة، مقسّمة على 4 مراحل، لكلّ منها 25 سنة، المرحلة الأولى هى مرحلة الحرب الكبرى، الثانية هى مرحلة صعود المهيمن، الثالثة هى مرحلة فقدان المهيمن الشرعية والمصداقيّة فى عيون اللاعبين الدوليين. أما المرحلة الأخيرة فهى مرحلة فقدان مركز الثقل «Core» القدرة على إدارة أزمات وشئون النظام الذى أنتجه، وبذلك يصبح العالم «لا مركزيّاً».
وتحت عنوان «عندما تهوى الإمبراطوريات»، كتب فى وقت سابق المحرر العسكرى لصحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية، موضحاً أن «تغيير الأمم يعنى تغيير المهيمن، وتغيير المهيمن يعنى مزيداً من الصراعات والحروب. ومزيد من الحروب يعنى أن التحوّلات والتغييرات فى موازين القوى العالميّة أصبحت واضحة ومؤثّرة». واستناداً لرأى مودلسكىّ حول دورة حياة النظام العالمى، يمكن لنا تصور حال النظام العالمى الحالى، فى ظل التراجع الملحوظ للدور الأمريكى (المهيمن)، والتخبط الواضح فى تعامله مع سائر الأزمات حول العالم.
الإمبراطورية الأمريكية!
وفى كتابه المهم «الإمبراطورية الأمريكية والإغارة على العراق» الصادرة طبعته الأولى عام ٢٠٠٣، عن دار الشروق المصرية، يعدد الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى نقاط محددة، مزايا هذه الإمبراطورية والتى جعلتها مختلفة ومحصنة إلى حد الكمال، فيصفها قائلاً: «هذه الإمبراطورية الأمريكية تملك من عوامل القوى الاقتصادية والمالية ما يتفوق على سابقتها طول التاريخ. وتوظف لخدمة أهداف أقوى وأكبر منجزات التقدم الإنسانى فى كافة المجالات. وتملك سطوة فى السلاح لم تتوافر لغيرها.. مع وجود توافق حرج بين التكنولوجيا العسكرية والتكنولوجيا المدنية.
واستطاعت أن تعرض نوعاً من جاذبية النموذج يمهد لتوسعها وانتشارها بغواية فى أساليب الحياة تعزز وسائط القوى. كما تمكنت من أسلوب جديد فى السيطرة.. يقوم على نظام شديد الجرأة والجسارة إلى درجة الاقتحام واختراق خصوصيات الدول والشعوب.. والقدرة على خطف وعى الآخرين وارتهانه.. أسير إعلام مصور وملون.. مكتوب وناطق.. يعطى لنفسه احتكار وضع جدول اهتمامات الرأى العام العالمى وسحب الآخرين وراءه».
ويضيف الأستاذ هيكل أن «هذه الإمبراطورية عاشت حياتها بعيدة عن أى تهديد مباشر لأرضها وسكانها، وراكمت من أسباب القدرة والثروة مدداً وفيراً، وبالتالى قدراً ضخماً من المناعة والثقة بالنفس يزيد أحياناً عن الحد»، وهو ما يصل بنا إلى الحكمة الصوفية المأثورة التى وظفها هيكل فى موضعها بالتمام، مؤكداً: «عند التمام يبدأ النقصان، فكل كائن حى له أجل، ولهذا الأجل مراحل، طفولة وصبا وشباب وكهولة وشيخوخة وموت، وذلك قانون نافذ حتى على الإمبراطوريات باعتبارها كيانات حية».
وهو ما يتوافق مع رأى مودلسكى حول دورة حياة النظام العالمى، فهل تمثل عودة ترامب هذا النقصان؟، وهل ما نعيشه هو لحظة الشيخوخة الإمبراطورية للولايات المتحدة الأمريكية؟، هذا ما سنراه ونعيشه فى السنوات الأربع القادمة التى تمثل مرحلة فارقة فى تاريخ العالم.
الشرق الأوسط أولاً
وُصفت عدم قدرة الرئيس الأمريكى الحالى جو بايدن على إيقاف الحرب فى غزة بالمسألة المهينة لكبرياء بلاده كقوة عظمى، فيما مثَّل انسياقه التام وراء رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو تأكيداً على فقدان الهيبة بسبب توغل نفوذ اللوبى اليهودى وهيمنته على مفاصل الإدارة الأمريكية، فبات صانع القرار الأمريكى لا يملك إلا استرضاء إسرائيل على الدوام.
وبفعل التقارب بين «ترامب ونتنياهو»، سيكون للشرق الأوسط أولوية وبالتوازى معه ستكون الحرب فى أوكرانيا أيضاً مساراً عاجلاً للرئيس «ترامب»، بهما سيطوى صفحة الحروب المشتعلة فى العالم، ويتبقى لديه ملفان هما إيران والصين، وكلاهما سيكون للحصار الاقتصادى دور كبير فى تجحيم قدرات الدولتين، وإن كان من غير المستبعد توجيه ضربة إسرائيلية برعاية أمريكية لإيران، والتى ربما تكون قبل دخول ترامب إلى البيت الأبيض.
أمريكا أولاً، تعنى فى مرحلتها الأولى الانتهاء السريع من ترتيب الأولويات الخارجية، للتركيز الكبير فى الشئون الداخلية وتعزيز القدرات الاقتصادية والتكنولوجية، وهذا ما يعزز وجود شخص مثل إيلون ماسك فى الفريق الرئاسى لترامب، والذى خصه بتحية وتقدير كبير فى خطابه الذى ألقاه «ترامب» فى فلوريدا مقر حملته الرئاسية وهو يعلن انتصاره على «هاريس». أما عن ضحايا الترامبية، ممن يتأهبون لسنوات الخسائر، تأتى فى مقدمتهم أوكرانيا وتزاحمها إيران على المركز الأول، فيما تأتى القضية الفلسطينية ثالثة، وتجاهد دول الاتحاد الأوروبى للهروب من قائمة الضحايا المتوقعين. لا أدرى موقع لبنان على خارطة الضحايا، وإن كنت أتمنى الوصول لوقف إطلاق نار على جبهتها قبل مغادرة بايدن للبيت الأبيض.
أما داخلياً فسيبقى السؤال معلقاً، إلى أى مدى سيكون انتقام «ترامب» من أعدائه والذين لقَّبهم بـ«أعداء الداخل»؟ وقد سربت وسائل إعلام قائمة بالأسماء والمؤسسات ممن اختلفوا مع ترامب وكانوا طرفاً ضده خلال السنوات الأربع الماضية.
وختاماً، فقد فاز «ترامب» بفعل المزاج اليمينى المهيمن على المجتمعات الغربية، وإن كانت أخطاء الحزب الديمقراطى الكبرى هى التى مهدت الطريق له لتحقيق فوز ساحق، زلات ولاية بايدن، والإصرار على بقائه مرشحاً للحزب وتأخر الدفع بـ«هاريس» لمنافسته، حتى اختيار «هاريس» كان فى حد ذاته خطأ مركباً. فاز «ترامب»، لأنه الخيار الأقل ضرراً، كما ذكرت فى مقالى السابق، ويمثل اختياره رسالة واضحة من الشعب الأمريكى للعالم، يجب فهم محتواها جيداً، كى تمر سنوات حكمه بسلام.