مكاسب وإخفاقات المحاكم الدولية بتحقيق العدالة للفلسطينيين
تاريخ النشر: 9th, October 2024 GMT
باريس- بالتزامن مع المعارك الضارية بين فصائل المقاومة الفلسطينية والقوات الإسرائيلية في عدد من محاور التوغل في قطاع غزة انطلقت معارك أخرى قضائية في المحاكم الدولية في لاهاي بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وقد أصدرت محكمتا العدل الدولية والجنائية الدولية عددا من الإجراءات والطلبات، من أهمها اتهامات بارتكاب جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني، كما صدرت أوامر اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين.
وفي خلاصة عام كامل من الجلسات المستعجلة والمذكرات أشاد خبراء في القانون الدولي بعمل الهيئتين القضائيتين رغم كل الضغوطات الخارجية، ورغم اعتبارهم أنهما لن تحلا المشاكل بشكل فوري فإنهما تساعدان في إعادة ترتيب القطع على رقعة الشطرنج، بما يتناسب مع قواعد القانون الدولي ونظام روما الأساسي.
يذكر أن جنوب أفريقيا قدمت دعوى ضد إسرائيل لإثبات ارتكابها جريمة إبادة جماعية في حق الشعب الفلسطيني في ديسمبر/كانون الأول الماضي، في حين رفعت نيكاراغوا دعوى أخرى ضد ألمانيا أمام محكمة العدل الدولية بتهمة انتهاك اتفاقية 1948 لمنع الإبادة الجماعية بسبب تزويدها إسرائيل بأسلحة تستخدمها خلال العدوان المستمر في غزة.
التزام نشيطويرى البروفيسور وليام شاباس أستاذ القانون الدولي بجامعة ميدلسكس في لندن أن المحاكم الدولية الرئيسية كانت نشطة بشكل مدهش طوال عام كامل، وذلك منذ بدء العمليات الإسرائيلية في قطاع غزة بعد عملية "طوفان الأقصى".
وأكد شاباس أنه لم يكن يتخيل أن أعلى محكمة تابعة للأمم المتحدة ستولي اهتماما كبيرا للقضيتين المرفوعتين من قبل جنوب أفريقيا ونيكاراغو والرأي الاستشاري القوي الذي صدر في يوليو/تموز الماضي.
من جهة أخرى، أوضح شاباس في حديثه للجزيرة نت أن سقف توقعاته في البداية لم يكن عاليا بشأن المدعي العام للجنائية الدولية كريم خان، لكن الأمور شهدت تغيرا محوريا منذ مايو/أيار الماضي عندما أعلن الأخير تعرضه للتهديد من نواب أميركيين بسبب طلبه إصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
بدوره، قال الخبير في القانون الدولي جيل دوفير إن اتخاذ محكمة العدل الدولية 3 قرارات عاجلة في إطار دعوى جنوب أفريقيا وإخبارها إسرائيل أنها من المحتمل اتهامها بارتكابها جريمة إبادة جماعية وأن لها الحق في اتخاذ خطوات لوقفها يعدان سابقة تاريخية تُحسب لها.
وتابع دوفير في حديثه للجزيرة نت أنه عند النظر إلى تاريخ جميع القرارات التي أصدرتها العدل الدولية يستوقفنا القرار الشهير الذي أصدرته في قضية نيكاراغوا ضد الولايات المتحدة عام 1986 حين انتصرت هذه الدولة الشيوعية الصغيرة وتم تنفيذ القرار.
كما أشار إلى أن طلب الرأي الذي تقدمت به الحكومة الفلسطينية للجمعية العامة قبل عامين لمعرفة ما إذا كان الاحتلال العسكري الإسرائيلي قانونيا أم لا وأصدرت المحكمة قرارا نموذجيا بشأنه في 19 يوليو/تموز الماضي اعتمد على جميع أسس قرار "جدار الفصل" لعام 2004، والذي نص على أن الاحتلال العسكري لا يعطي أي حق للمحتل في البقاء، وطالب إسرائيل بوقف البناء فيه.
ومن بين الإنجازات التي سلط دوفير الضوء عليها هي اعتماد كلتا السلطتين القضائيتين الدوليتين تسمية "دولة فلسطين" بدلا من "السلطة الفلسطينية" رغم أنها غير مسجلة في الجمعية العامة، بسبب الحصار الذي تفرضه الأمم المتحدة.
وقدم دوفير وفريقه المكون من أكثر من 600 محامٍ من 15 دولة أول شكوى في الجنائية الدولية في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 تطالب بفتح تحقيق في الوقائع المنسوبة إلى جيش الاحتلال في قطاع غزة منذ عملية "طوفان الأقصى".
وأوضح الخبير الفرنسي أن قوة الشكوى دفعت المدعي العام إلى إصدار قراره في 20 مايو/أيار الماضي بطلب أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ومسؤولين إسرائيليين آخرين، مشيرا إلى أنه في النظام الأساسي للمحكمة عندما يطلب المدعي العام هذه الأوامر يكون الأمر متروكا للدائرة التمهيدية، وهي لجنة مكونة من 3 قضاة لتحديد التنفيذ من عدمه.
لكن عند بداية عمل القضاة المعنيين على الملف عرقلت المملكة المتحدة الإجراءات في يونيو/حزيران واستأنفت الاختصاص القضائي، مبررة ذلك بالتزام فلسطين باتفاقيات أوسلو، والذي يمنعها من التصرف مباشرة أمام المحكمة، مما أدى إلى إبطاء أوامر الاعتقال.
ولهذا السبب، انتقد دوفير بشدة طول المواعيد النهائية التي تعد من أهم نقاط ضعف المحكمتين الدوليتين، فعلى سبيل المثال لا يزال النقاش مستمرا بشأن الإبادة الجماعية رغم إصدار الأوامر المؤقتة، وقد يستغرق ذلك من 3 إلى 4 سنوات، فضلا عن تأخير صدور قرارات الشكاوى ومذكرات الاعتقال، والتحيزات التي لا تنتهي لأطراف معينة.
وتعليقا على ذلك، وصف دوفير عمل المحكمة بـ"المتناقض"، لأن الغرفة ملزمة بالرد بالتفصيل على الاختصاص القضائي لجميع ملخصات المذكرات الـ80، والتي قدمتها الدول في أعقاب ما سماها "المبادرة الفاسدة من بريطانيا".
في المقابل، شدد شاباس على ضرورة الاعتراف بأن المحكمتين الدوليتين لا يمكنهما أن تكونا ندا للجيش الإسرائيلي، معتبرا أن الاعتقاد بامتلاك 15 قاضيا في لاهاي عصا سحرية للقيام بذلك سيكون ضربا من الخيال.
وعن تأثير الولايات المتحدة على سير الشكاوى المرفوعة ضد إسرائيل يعتبر شاباس أن الولايات المتحدة هي آخر دولة ستتأثر بمحكمة دولية، لأنها تعتبر نفسها فوق القانون، وتضع معايير مزدوجة له وتطبقه على هواها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة "لكن التفكير في إمكانية ترويض الولايات المتحدة من خلال محكمتي العدل الدولية أو الجنائية الدولية هو أمر طموح للغاية".
وفيما يتعلق بمذكرات اعتقال نتنياهو، لفت القاضي الكندي إلى مطالبته الجنائية الدولية باتخاذ هذه الخطوة منذ أكثر من 15 عاما، قائلا "ما زلت أنتظر ما سيحدث بهذا الشأن، لكنني أتوقع معارضة شرسة من الولايات المتحدة لقرارات المحكمة رغم أنها دعمت سابقا اعتقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين".
زيادة الدعموعلى الرغم من أن المحاكم الدولية لا يمكنها تحقيق العدالة وحدها فإن نضال الفلسطينيين ممتد لعقود وهم مصرّون على استرجاع الحقوق كاملة، وكما قال المناضل الحقوقي الأميركي مارتن لوثر كينغ "القوس الأخلاقي للكون طويل، ولكنه يميل نحو العدالة".
وهي رسالة وقضية يؤمن بها البروفيسور شاباس الذي كان رئيس لجنة التحقيق الخاصة في الحرب على قطاع غزة عام 2014، قبل تقديم استقالته نتيجة الانتقادات الشديدة التي تعرض لها من إسرائيل، لأنه كان يطمح لإحالة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وبحكم تجربته في القانون والمجال الأكاديمي، ذكر شاباس أنه قبل عام كان من الصعب للغاية التحدث عن فلسطين وإسرائيل أو استخدام مصطلحات مثل الإبادة الجماعية والفصل العنصري "وإذا فعلت ذلك فستتعرض إلى ما يضر أو ينهي مسيرتك المهنية بأكملها، لكن ذلك تغير بفضل الأحكام الصادرة عن العدل الدولية"، مؤكدا أن السلطتين القضائيتين نجحتا في تعتيم صورة الاحتلال أمام العالم وزيادة عزلته الدبلوماسية أكثر من أي وقت مضى.
ونتيجة لكل مواقف الدول والشعوب حول العالم يرى جيل دوفير أن عدد الجهات الداعمة لفلسطين تزايد، وأصبح التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة أكثر إيجابية، مشيرا إلى توليه العمل على اتفاقية التعاون بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، والتي تنص على وجوب احترام حقوق الإنسان وتأكيد المحكمة على عدم قانونية المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية.
وفي السياق ذاته، يعتقد الخبير في القانون الدولي أن حلفاء إسرائيل الأوروبيين سيكونون ملزمين بتطبيق أوامر الاعتقال بحق نتنياهو الذي يلجأ إلى أوروبا بشكل كبير، وسيغيرون مواقفهم الداعمة لحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
وكمحام ورجل سلام ومحب للإنسانية -كما يصف نفسه- أعرب دوفير عن صدمته بقرار محكمة العدل الدولية في 19 يوليو/تموز الماضي والمكون من 80 صفحة والذي قضت فيه أن الحل الوحيد هو إنهاء الاستعمار فورا، مضيفا "نشهد اليوم حربا غير متكافئة بين المقاومة الفلسطينية التي تدافع عن الأرض وبين القنابل والقوة الجوية بتمويل أميركي كبير، لذا لا نزال متشبثين بصوت القانون حتى الرمق الأخير".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات الجامعات الولایات المتحدة الجنائیة الدولیة المحاکم الدولیة القانون الدولی العدل الدولیة اعتقال بحق فی القانون
إقرأ أيضاً:
فصول من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. (1) سليل الإرهاب
ابتداء من هذا العدد، تنشر بوابة «الأسبوع» فصولًا من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى» للكاتب الصحفي مصطفى بكري رئيس التحرير، والصادر عن دار كنوز للنشر والتوزيع. وفي الحلقة الأولى يرصد المؤلف تاريخ نتنياهو منذ الطفولة وعلاقته بوالده الذي لقنه الأفكار المتطرفة والمعادية للعرب والفلسطينيين، خاصة وأن جده كان من كبار دعاة الحركة الصهيونية. لقد رباه والده على كراهية أي يهودي يقبل بمصافحة العرب، وكان دائم الترديد على مسامعه «أن العربي إذا مد يده بالسلام، فانظر إلى يده الأخرى.. فإنك ستجد خنجرًا ممدودًا إليك».
الحلقة الأولى:-والده رباه على التطرف وكراهية العرب وجده من قادة الحركة الصهيونية
- كان يقول له: العرب أقل من أن تحدثهم أو تنظر إليهم
- المفكر الصهيوني المتطرف «جابوتنسكى» كان مثله الأعلى
في الثالث والعشرين من أكتوبر لعام 1949، ولد بنيامين تسيون نتنياهو في مستشفى “أسونا” بتل أبيب، أي بعد إعلان ولادة دولة الكيان الصهيوني بعام وخمسة أشهر تقريبًا.
كان جد بنيامين خطيبًا مفوهًا.. ومن كبار دعاة الحركة الصهيونية.. وكان يمتلك قدرات هائلة لجذب المزيد من يهود العالم، خاصة اليهود الشرقيين إلى “أرض الميعاد” حسب الوصف الصهيوني، وقد عرف عنه كرهه الشديد للعرب، ومن المؤمنين بضرورة اختفائهم من فوق ظهر الأرض.
وكان “تسيون” يرى ألا يكتفى اليهود بإقامة دولتهم في فلسطين فحسب، بل يجب أن تمتد حدودها في كل الأراضي والمناطق المجاورة لـ “أرض إسرائيل” في فلسطين على حد تعبيره.
وقد طبّع الجد ميليكوفسكي أولاده التسعة، ومن بينهم “تسيون نتنياهو” والد بنيامين بشخصيته القوية والمؤثرة.. حتى أن “تسيون” كان من فرط تأثره بآراء والده.. يردد أمام أولاده بأن العرب.. “دنس.. وأن الكلاب أفضل منهم لو أقاموا فى البلدان المجاورة لنا”.
ومن أقواله كذلك “إنك إذا سرت فى الطريق مع كلب.. أفضل من أن تسير مع عربى”.. وكان يردد على مسامع أولاده بأنه لا مجال للتعامل مع العرب إلا بإبادتهم.. وأنه لا حلول وسط فى هذه المسألة.
ومنذ صغره تشرب “بنيامين” من والده “تسيون نتنياهو” حبه لزعماء الحركة الصهيونية بل وتمجيدهم، حيث كان الأب يتغنى بآباء الحركة.. بينما نجله “بنيامين” ينقل عنه هذه الأغانى ويحفظها عن ظهر قلب.. بل ويرددها أمام أصدقائه بين الحين والآخر.. مبديًا تفاخره بأن والده هو صاحب هذه الأغانى.
وكانت هناك علاقة تربط فى ذلك الوقت بين والد بنيامين و”زئيف جابوتنسكى” مؤسس الحركة التصحيحية المتطرفة، حيث شكلت تلك العلاقة إدراك وعقلية “بنيامين نتنياهو”.. .ذلك أنه كان معروفًا عن المتطرف الصهيونى “جابوتنسكى” ميوله العدوانية الواضحة ضد العرب.. وكرهه الشديد لهم.
لقد كان كل من تسيون وجابوتنسكى يؤمنان بالعنف المطلق مع العرب وحتميته.. فيما كان يسعى “حاييم دايزمان” إلى المرونة فى التعامل معهم.
وفى هذا الجو المشحون بالعداء للعرب.. ولد “بنيامين تسيون نتنياهو”، حيث رباه والده على كراهية أى يهودى يقبل مصافحة العرب.. وكان دائم الترديد على مسامعه ”أن العربى إذا مد يده إليك بالسلام.. فانظر إلى يده الأخرى.. فإنك ستجد خنجرًا ممدودًا إليك”.!!
هذه الأفكار التى آمن بها والد “بنيامين نتنياهو” هى التى دفعت المتطرف الصهيونى جابوتنسكى لأن يعينه رئيسًا لتحرير صحيفة “هايروين” الصهيونية.. والتى من خلالها لمع اسمه وذاع صيته.. حيث تخصصت تلك الصحيفة فى مهاجمة كل يهودى أو مسئول يفكر ولو بشكل غير مباشر فى السلام مع العرب أو أن يجلس معهم على مائدة مفاوضات واحدة.
ومن الكلمات التى كان يرددها “تسيون” على مسامع ولده “بنيامين” قوله “إنك أفضل من أى عربى.. وإذا جلست فاجلس مع من هم نظراؤك.. فالعرب أقل من أن تحدثهم أو تنظر إليهم”.. إلا أن الأكثر تأثيرًا فى عقل “بنيامين نتنياهو” كانت هى تلك الكتب الصغيرة التى ألفها والده وآخرون من خلال دار النشر الصغيرة التى أنشأها.. وهى كتب تدور فى مجملها حول “أسس الحركة الصهيونية” و “كيفية إقامة دولة إسرائيل” و “إسرائيل المستقبل والأمل” و”العرب إلى الهاوية” و “إسرائيل العظمى فى كل البلاد العربية”.
كان “تسيون” حريصًا على تلقين ابنه دروسًا يومية فى السياسة.. شارحًا له بالتفصيل كيفية تفكير “جابوتنسكى” القائد الملهم له.. والذى سيصبح أيضًا القائد الملهم لنجله “بنيامين”!!
لقد عرف جابوتنسكى بكثرة تنقلاته وسفرياته بالاضافة إلى علاقاته الوطيدة بعدد من المسئولين الأمريكيين، والترويج لمقولاته أينما ذهب، فاستطاع بذلك أن يضم إلى جانبه آلاف المتطرفين والذين أمنوا بمقواته
فى العام 1940، شغل “تسيون نتنياهو” منصب السكرتير الشخصى لجابوتنسكى، وبات ملازمًا له فى كل رحلاته وتحركاته.. وأتاح له ذلك الاطلاع على العديد من الأوراق السرية التى كان يتم الإعداد والتخطيط من خلالها لإقامة دولة إسرائيل، وقد ضمت هذه الأوراق وثائق فى غاية الأهمية احتفظ بها “تسيون” وحده بعد وفاة جابوتنسكى.. وكانت هذه الوثائق تحمل عبارة تقول: “إلى كل مخلص.. إلى كل وطنى.. إلى كل شريف فى هذا الكون.. إذا ما وقعت هذه الأوراق فى يدك.. عليك أن تكون أمينًا فى تنفيذ ما بها حتى ترضى الله.. فشعب الله المختار الذى شرد ونهبت ثرواته لابد أن يعود.. وعندما يعود لابد أن يكون سيد العالم.. ومع سيادة العالم لابد من إبادة العرب الأقذار”.
هذه الأوراق السرية لم يتح لأحد الإطلاع عليها سوى “تسيلاه سيجل” والدة “بنيامين نتنياهو”.. ثم شاء القدر أن تشكل تلك الأوراق رؤية “بنيامين” فى المستقبل، حتى أنه من كثرة قراءته لهذه الوثائق حفظها وكان دائم الترديد لها.
وقد كان والده حريصًا على ألا ينسى نجله “بنيامين” ما تحمله تلك الوثائق من أفكار ومعتقدات، حتى أنه كان يطلب منه ترديدها فى إطار حلقات استماع كان يعقدها بحضور بقية اخوته، لدرجة أن والدته “تسيلاه” كانت تشفق عليه من والده الذى كان دائم الإصرار على تلقينه كل دروس الصهيونية.
وكانت “تسيلاه” ذاتها صهيونية متطرفة.. فهى من أسرة ثرية تنتمى لرجل أعمال يهودى، لديه العديد من المشروعات المتعددة والمترامية الأطراف، سواء فى الولايات المتحدة أو إسرائيل.. حيث كان يخصص ريعًا سنويًا من هذه المشروعات، بالإضافة إلى مساهمات كبيرة من أجل تنشيط الحركة الصهيونية.
وكان لدى والد “تسيلاه” تطلع دائم بأن يسخر كل القوى الدعائية لصالح إسرائيل والحركة الصهيونية.. ولذا فقد كان يسعى للسيطرة على وسائل الإعلام المختلفة من أجل دعاية مؤيدة للصهيونية.
وحين اشتد عود “تسيلاه” وأصبحت زميلة لـ”تسيون” فى حركة جابوتنسكى، جمعهما كره مشترك لعائلة وايزمان.. ومن هنا تبرز طبيعة العداء الذى حمله “بنيامين” عن والده ووالدته لرئيس إسرائيل الأسبق عيزرا وايزمان.
كانت والدة “بنيامين” تعشق القانون.. ورأت أن دراستها له يمكن أن تفيد الحركة الصهيونية أكثر بكثير من دراستها لأى فرع من فروع العلم الأخرى، حيث رأت أن القانون سيعلمها المنطق وتفنيد الحجج المضادة التى يمكن استخدامها ضد إسرائيل، خاصة من جانب العرب فى حال إقامة دولة إسرائيل.. وكان ولعها بالقانون وسيلة لتحقيق حلم الصهيونية الكبرى وتنفيذ تعليمات “جابوتنسكى” فى أن دراسة القانون مفيدة لأسس الحركة.. وأنها ستعطيها قوة جديدة تضاف إلى قوة المفكرين للحركة.
كانت “تسيلاه” مؤمنة بأن “جابوتنسكى” على حق حين أدرك أن الخطابة وحدها ليست كافية لدعم أسس الحركة.. وأنه لابد من سفراء لهذه الحركة فى مختلف دول العالم وأن سفراء هذه الحركة لابد أن يكونوا على قدر كبير من العلم والفهم الكامل لمتطلبات الحركة فى العقود القادمة.
وكان جابوتنسكى حريصًا على توجيه تلاميذه إلى دراسة فروع العلم المختلفة.
وقد برز تفوق “تسيلاه سيجل” بشكل واضح لدى دراستها للقانون بالجامعة العبرية بالقدس.. وعرف عنها الصراحة والجدية فى عملها ودراستها.. ودفعتها دراستها للقانون إلى السفر إلى لندن، حيث انضمت هناك إلى الحركات الصهيونية الناشئة فى ذلك الوقت، وأبرزت اهتمامًا ملحوظًا بأنشطتها داخل تلك الحركات، حتى أنها أصبحت واحدة من القيادات المعروفة بتخطيطها الجيد من أجل إقامة دولة إسرائيل.. واستطاعت “تسيلاه” الارتباط فى ذلك الوقت بمن يعرفون بزعماء وآباء الحركة الصهيونية فى إنجلترا.. وتمكنت بفضل تلك الروابط الوثيقة من أن تسافر إلى العديد من البلدان الأوروبية.
فى ذلك الوقت.. كان “جابوتنسكى” المرتبط بآباء وزعماء هذه الحركة يعزز من وضعية “تسيلاه” ولأن “تسيون نتنياهو” كان رئيسًا لتحرير صحيفة “هايروين” ويتابع أنشطة “تسيلاه” رأى أنه من المناسب الارتباط بهذه الفتاة التى تشاركه الفكر والحلم فى إقامة دولة إسرائيل.. وخصوصًا أن العديد من الصفات الأخرى ربطت بينهما.. وفى مقدمتها الكره الشديد للعرب وضرورة العمل على إزالتهم من الوجود.
ولذا.. حين التقى “تسيون” و “تسيلاه” كونا ثنائيًا مشتركًا.. وكانا يكرهان أى شخص يحمل جنسية أية دولة- حتى ولو كان يهوديًا- يتحدث عن العرب بلغة لا يرغبانها.
كل هذه المؤثرات النفسية المعقدة لكل من «تسيون وتسيلاه» ورثها عنهما فيما بعد ابنهما «بنيامين» الذى قدر له فيما بعد تولى رئاسة حكومة إسرائيل لأكثر من مرة.
ومع حدوث الزواج بين “تسيون وتسيلاه” استجابت الزوجة لمطالب زوجها وقررت التفرغ لمعاونته.. ومع وفاة “جابوتنسكى” كان همهما الأول هو كيفية العمل على تنفيذ وصاياه التى يحتفظ بها “تسيون” والذى رأى أن تنفيذها يمكن أن يتم من خلال طبع كتيبات ونشرها على جميع يهوديّ العالم حتى يتجمع اليهود حول الفكرة الصهيونية الأساسية وهى “إسرائيل العظمى”.
وبالفعل بدأت سلسلة كتب “تسيون” فى الظهور بفضل معاونة زوجته والتى تلقت بدورها دعمًا من والدها رجل الأعمال المعروف فى الولايات المتحدة، الذى أخذ على عاتقه نشر كتب “تسيون” بين يهود أمريكا.. ثم انتشرت الكتب فى العديد من الدول الأوروبية عبر اليهود الأمريكان.
وبدأ صيت “تسيون” ينتشر بين اليهود فى العالم.. غير أن والد “تسيلاه” لم يرق له ذوبان شخصية ابنته فى شخصية زوجها.
فى العام 1946 قرر “تسيون” أن يكون أبًا من آباء الصهيونية، رافضًا أن يكون مجرد داعٍ لها.. فنصحته “تسيلاه” بأن يحصل على درجة الدكتوراه باعتبار أن ذلك سوف يسهم فى وضعه العلمى بين صفوف اليهود.. وكانت ترى أن هذا الطموح يمكن أن يجعله على رأس دولة إسرائيل.
وبالفعل حقق “تسيون” طموحه، وحصل على درجة الدكتوراه من كلية “درونس” فى فيلادلفيا بالولايات المتحدة غير أن هذه الدرجة العلمية خلقت له العديد من المشاكل مع الزعامات اليهودية الموجودة فى الولايات المتحدة خصوصًا بعد شعورهم بأنه يسعى إلى تخطيهم فى طريقه للصعود إلى قمة سلم الدولة الوليدة.
فى ذلك الوقت ثار الكثير من الجدل بين القيادات اليهودية فى الولايات المتحدة، حيث كان البعض يرى أن التفاوض مع العرب يمكن أن يمثل إحدى وسائل إقامة دولة إسرائيل، إلا أن “تسيون” كان يرى عكس ذلك معتبرًا أن العنف هو الوسيلة الأساسية لإقامة الدولة.
وحين احتدم الخلاف بين الزعامات الصهيونية فى الولايات المتحدة قرر “تسيون نتنياهو” العودة إلى إسرائيل فى العام 1948وذلك بعد وقت قصير من قيامها على أرض فلسطين المحتلة.
ولم يكن “تسيون” على وفاق مع مسئولى الدولة الإسرائيلية الوليدة معتبرًا أنهم تنكروا لنضاله ودوره فى إقامة دولة إسرائيل.. حيث كان يرى أن كتبه وأبحاثه التى انتشرت فى العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة قد أسهمت فى إقامة هذه الدولة.. والحصول على تأييد الأوروبيين والأمريكان.. فى حين كان ساسة إسرائيل ينظرون إليه بازدراء لأنه كان أنانيًا ومحبًا لذاته.
ورغم رفض ساسة إسرائيل التعاون معه إلا أنه كان يسعى إلى مشاركة القيادات الإسرائيلية فى مناظراتهم وندواتهم حول مستقبل الدولة الإسرائيلية.. وكان يردد دائمًا أنه تلميذ لجابوتنسكى، وأنه من أكثر الذين تحملوا العبء الأكبر من أجل إقامة هذه الدولة.
ووسط هذه الأجواء جاء “بنيامين تسيون نتنياهو” إلى الدنيا فى عام 1949.. حيث شهد هذا العام صراعًا مريرًا ومعقدًا بين تسيون ومناحم بيجين الذى تولى فيما بعد رئاسة الوزارة الإسرائيلية وعقد اتفاقية كامب ديفيد مع الرئيس المصرى الراحل أنور السادات.
كان الصراع فى مجمله يدور حول الحركة التصحيحية التى أرسى قواعدها “جابوتنسكى”.. وكان مناحم بيجين يرى أنه أكثر قدرة من تسيون على السيطرة على مقاليد الأمور داخل الحركة المتطرفة.
هذا الصراع الذى نشأ بين تسيون ومناحم بيجين لم يكن ليختفى أبدًا عن ذاكرة الطفل “بنيامين” الذى شب على كراهية “بيجين” منذ صغره، حيث اعتبره السبب الأساسى وراء القضاء على مستقبل والده السياسى.
ومنذ ذلك الحين تملكت “بنيامين نتنياهو” رغبة جامحة فى كيفية الانتقام لوالده وإعادة الاعتبار إليه.. وكان يرى أن ذلك لن يتحقق إلا بوصوله إلى مقعد رئاسة الوزراء فى إسرائيل.
وبالرغم من انضمام “بنيامين نتنياهو” إلى ذات تكتل الليكود الذى أوصل “مناحم بيجين” إلى رئاسة الوزراء فى إسرائيل إلا أنه كان يعتبر أن ما أقدم عليه “بيجين” من توقيع معاهدة للصلح مع مصر بمثابة خطأ إستراتيجى لا يغتفر.. وكان يرى أن “بيجين” تسرع فى التوقيع على هذه المعاهدة.. بينما كان بإمكانه المماطلة لسنوات طويلة يحصل خلالها على السلام دون التفريط فى شبر واحد من الأرض التى احتلتها إسرائيل فى شبه جزيرة سيناء.
لقد شهد “بنيامين” كيف أن بيجين أزاح والده عن طريقه، وكان بيجين يردد دائمًا أن “تسيون نتنياهو” لم يحارب مع منظمة “أتسل” وهى المنظمة العسكرية الإسرائيلية “الوطنية” وأنه لم يقدم أى تضحيات.. ولذا رفض منحه أى منصب.
من جانبه قرر “تسيون” ألا يستسلم لأفكار “بيجين” والقيادات اليمنية الإسرائيلية وأخذ على عاتقه أن يكون زعيمًا لحركة “حيروت” إلا أن الحركة رفضته.. مما فسره بأن هناك مؤامرة على مستقبله السياسى.
لقد نصحه أحد أصدقائه بالتخفيف من أفكاره المتطرفة للغاية إلا أن زوجته “تسيلاه” رفضت أن يقدم تسيون أية تنازلات فى هذا الصدد.. وطالبته بالتمسك بموقفه.. وأن يترك السياسة ويلتحق بالسلك الأكاديمى فى الجامعة العبرية.
اقرأ أيضاً«نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. كتاب جديد لـ مصطفى بكري يكشف فيه بالوثائق استراتيجية الكيان الصهيوني للهيمنة على المنطقة
نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى (2)
مصطفى بكري عن كتابه «حلم إسرائيل الكبرى»: يكشف سيناريو ما هو متوقع