في أكتوبر/تشرين الأول 2022، كُلِّف محمد شياع السوداني برئاسة الحكومة العراقية بعد أزمة سياسية هي الأطول في البلاد منذ الغزو الأميركي. صعد "السوداني" إلى منصبه الجديد في ذروة الجمود السياسي، وخلال وضع اقتصادي مأزوم تعيشه البلاد، بيد أنه تمكن من كسب موطئ قدم له داخل دوائر السلطة في بلد يبحث عن استقرار داخلي، مستفيدا من الهدوء الذي تعرفه الساحة الخارجية التي شهدت اختراقا ملحوظا في العلاقات السعودية الإيرانية بعد أعوام من القطيعة، وللمفارقة، فقد لعب العراق نفسه دورا مهما في الجهود السياسية التي مهدت لتوقيع "اتفاق بكين" (1) الذي أعاد العلاقات بين الرياض وطهران بوساطة صينية.

 

كانت بغداد تمتلك على ما يبدو ما يكفي من الدوافع للانخراط في جهود نشطة للتقريب بين الخصمين الإقليميين، فبعد زهاء عقدين امتلكت خلالهما طهران مقاليد الأمور في السياسة العراقية في أعقاب الغزو الأميركي، كان العراق يسعى إلى نوع جديد من التوازن يستعيد معه موقعه كقوة عربية، وذلك عن طريق تأسيس علاقات إيجابية مع الدول العربية، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية. ولعب مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء العراقي السابق، دور عراب تلك الإستراتيجية، لاقتناعه بأن لدى العراق (2) القدرة على الجمع بين المصالح السعودية والإيرانية معا، دون أن يضطر لخسارة أحد الحليفين، أو السقوط في لعبة التوازن الصعب.

 

ورغم هذه الرغبة المُعلنة في الوقوف على المسافة نفسها من الجميع، تشي عدة مؤشرات صادرة من الحكومة العراقية أنها ترغب في رسم توجهاتها بعيدا عن السرب الإيراني، ولعل الحادثة الأكثر دلالة على هذا التوجه هي استدعاء طهران للسفير العراقي لديها احتجاجا على استخدام بلاده مصطلح "الخليج العربي" بدلا من لفظ "الخليج الفارسي" الذي تعتمده إيران، أثناء استضافة العراق لبطولة الخليج العربي مطلع العام الحالي، استدعاء تكرر مرة أخرى في مايو/أيار على خلفية مزاعم إيرانية باستضافة العراق لـ"جماعات انفصالية" خلال حفل رسمي في كردستان العراق، وهو مصطلح تستخدمه طهران لوصف المجموعات الكردية الإيرانية.

 

من حاضنة صدام إلى سطوة إيران صدام حسين مع جيشه خلال الحرب مع إيران. (مواقع التواصل)

لعبت بغداد دورا بارزا في أغلب القضايا الكبرى والاضطرابات التي عصفت بالمنطقة خلال حقبة التسعينيات وما قبلها؛ بداية بكونها عضوا مؤسسا في جامعة الدول العربية في الأربعينيات، ثم تبنّيها للفكر الاشتراكي لحزب البعث السوري، قبل أن تتحول القيادة البعثية إلى العراق الذي وقع تحت حكم البعثيين منذ الستينيات وحتى الغزو الأميركي. وبوصول صدام حسين، أحد أبرز رجالات البعث إلى الحكم، باتت الجمهورية العراقية في عهده معقلا للقومية العربية، والبيت الكبير للأيديولوجية "الوحدوية" العربية، فقد كان أحد شعارات حزب البعث العراقي "أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة"، وقد تسبب هذا التوجه الأيديولوجي "التوسعي" للعراق في توترات مع جيرانه العرب، لا سيما في دول الخليج العربية.

 

ولكن في العام نفسه الذي وصل فيه صدام حسين إلى سُدة الحكم، اندلعت الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، مثيرة قلقا كبيرا في الأوساط العربية فاق نظيره الذي خلّفه توجه العراق الاشتراكي والقومي. سعى صدام لاستغلال هذه التطورات لصناعة صورة من "الاصطفاف العربي"، حيث وقّع ميثاق الدفاع العربي في فبراير/شباط 1980، لأسباب كانت في البداية غير معلنة، لكنها أضحت بعد ذلك واضحة، وتمثّلت في منح الشرعية لحربه المرتقبة ضد إيران التي أراد (3) أن يخوضها باسم العرب لا باسم العراق وحده، لا سيما أن طهران كانت بدأت بالفعل في تعبئة المجتمعات الشيعية (4)، واختراق المساحات السياسية والأيديولوجية المنيعة سابقا في عدد من الدول العربية وعلى رأسها العراق وسوريا ولبنان واليمن.

 

دخل صدام حسين الحرب باسم العرب، وتجرعت إيران الخميني الجديدة كأس السُّم لمدة ثماني سنوات، ومن الكأس نفسها شرب العراق، إذ تسببت الحرب في خسائر (5) تُقدَّر بنحو نصف مليون قتيل، وأكثر من نصف مليار دولار. لكن رغم هذه الخسائر المادية والبشرية الكبيرة، ساعدت الدعوة القومية العربية ورفع شعارات تحرير القدس في جعل بغداد مركزا من مراكز القوى والقيادة في منطقة الشرق الأوسط سياسيا وشعبيا.

إلى جانب الأيديولوجية، امتلك صدام دولة متماسكة، وجيشا قويا، وثروة نفطية أدرت عليه فوائض مالية، ورغم ذلك، خرج (6) العراق من الحرب الإيرانية مأزوما سياسيا ومُنهكا اقتصاديا، ومع مسحة "جنون القوة" التي أصابت صدام، قرر الهروب من مشكلاته نحو الحرب مرة أخرى، فغزا الكويت عام 1990، بذريعة رفضها إلغاء الديون التي اقترضها منها خلال حربه ضد إيران، وتمنعها أيضا عن خفض إنتاج النفط بهدف رفع الأسعار، وهي خطوة أرادت منها بغداد إنقاذ اقتصادها المتأزم بالفعل.

 

في النهاية، خسر صدام الحرب، ولم يفعل شيئا سوى زيادة وضع بلاده المأزوم، ومع خسارته فقد صدام أهم عنصرين للترويج للمشروع القومي، هيبة جيشه، وعائدات النفط. تعمقت أزمات العراق فيما بعد بفعل الحصار والعقوبات الأميركية، وعلى مدار العقد التالي، تداعت الأحجار السياسية تباعا وصولا إلى لحظة مفصلية في تاريخ العراق والمنطقة بأسرها، وهي الغزو الأميركي الذي أطاح بنظام البعث العراقي عام 2003.

 

نفوذ إيراني متجذر

كان إسقاط صدام هدفا حلمت به واشنطن طويلا، لكن المفارقة أن أبرز المستفيدين منه كانت هي طهران، رغم أن الولايات المتحدة وإيران كانتا على خلاف أيديولوجي يعود إلى ما قبل الغزو الأميركي بقرابة ثلاثة عقود منذ الثورة الإسلامية عام 1979. غير أن ذلك الخلاف نُحِّي في تلك اللحظة لصالح اتفاق ضمني بين البلدين على مصالح متبادلة، إذ أراد الأميركيون حماية مصالحهم الأمنية، وأراد الإيرانيون أن تكون لهم حصة كبرى من النفوذ داخل العراق الذي كان العدو الأول لهم في عهد صدام. ووفقا لما ذكره "زلماي خليل زاد"، السفير الأميركي للعراق، في كتابه عن تلك الفترة، فإن كبار المسؤولين الأميركيين أجروا محادثات سرية (7) مع إيران حول مستقبل العراق قبل الغزو، وحصلوا على وعود من أعدائهم بأن الجيش الإيراني لن يطلق النار على الطائرات الحربية الأميركية التي انحرفت إلى المجال الجوي الإيراني عن طريق الخطأ.

يميل الميزان التجاري بين العراق وإيران بلغة الأرقام لصالح إيران التي تخطت صادرتها لبلاد الرافدين نحو عشرة مليارات دولار، مقابل 200 مليون دولار هو حجم الصادرات العراقية لطهران. (الأناضول)

أُعلنت وفاة حزب البعث، واتفقت مصالح واشنطن وطهران مجددا على صعود طبقة سياسية جديدة مُغايرة تماما غالبيتها تنتمي إلى الطائفة الشيعية المُهمشة في زمان صدام، لكنّ بوادر الخلاف سُرعان ما ظهرت بين هذه القوى الجديدة، التي انقسمت (8) في الولاء بين واشنطن وطهران. وقد أفادت وثائق إيرانية مُسربة نشرها (9) موقع "ذا إنترسبت" الأميركي أن طهران استغلت الغزو الأميركي للعراق لفرض سيطرتها على بغداد من خلال إعداد المعارضة العراقية الشيعية أولا للحكم، مع تشكيل فصائل نخبوية جديدة موالية لها، ودعمها بالمال والسلاح، وأصبح لتلك الجماعات المرتبطة أيديولوجيًّا بنظام الجمهورية الإسلامية الحظوة والنفوذ، خصوصا بعد أن ظهرت هذه الفصائل في ثوب المدافع عن العراق أمام هجمات تنظيم الدولة الإسلامية.

 

سيطرت الأحزاب الشيعية الموالية لإيران على المناصب الكبرى في الحكومة والجيش وحتى الاستخبارات، كما ظهرت مجموعة عسكرية شيعية أبرزها "الحشد الشعبي" (10) التي أصبحت بعد ذلك قوة معترفا بها من البرلمان العراقي. في غضون ذلك، لم يغب دور الاقتصاد أيضا في لعبة التأثير الإيراني، بعدما أغرقت (11) السلع الإيرانية العراق، في وقت كانت تفرض فيه واشنطن حزمة عقوبات قاسية ضد طهران.

 

تخبرنا الأرقام بوضوح عن مدى تغلغل النفوذ الإيراني في العراق. يميل الميزان التجاري بين البلدين بلغة الأرقام لصالح إيران التي تخطت صادرتها لبلاد الرافدين نحو عشرة مليارات دولار في السنة الأخيرة (12)، مقابل 200 مليون دولار هو حجم الصادرات العراقية لطهران، ما يجعلها ثالث أكبر شريك تجاري لطهران بعد أبو ظبي وأنقرة، ورغم اصطدام إيران بنفوذ قوى دولية داخل العراق على رأسها الولايات المتحدة وتركيا، فإن ذلك لا ينفي حقيقة أن الجمهورية الإسلامية تمتلك جيشا في الداخل قوامه الفصائل الشيعية المُسلحة التي تحتكر (13) قطاعات واسعة من اقتصاد العراق، وهي مسؤولة كذلك عن الأمن في بعض المناطق بعد دحر تنظيم الدولة الإسلامية، كما نجحت الكتل البرلمانية الموالية لها داخل البرلمان في استصدار (14) تشريع يطالب بإخراج القوات الأميركية، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل، بعد تمسك السوداني وحكومته بوجود القوات الأميركية في بلاده، وهو ما يبرهن على أن الرغبات الإيرانية لم تعد وحدها القابلة للتحقيق في عراق اليوم.

 

قبلة عربية جديدة رئيس الوزراء العراقي "محمد شياع السوداني". (الأناضول)

تشي عدة مؤشرات باتجاه الحكومة العراقية الجديدة لرسم توجهاتها بعيدا عن النفوذ الإيراني. وقد بدأ هذا التوجه في عهد رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، الذي طالما دافع (15) عن اعتقاده بأن العراق يمتلك مثل غيره إمكانية الجمع بين المصالح العربية (تحديدا السعودية) والإيرانية معا، دون أن يضطر لخسارة أحد الحليفين، وسبق للكاظمي نفسه أن أعلن أن توجهه حظي بمباركة من المرجعية الشيعية، ممثلة في آية الله علي السيستاني.

 

يتجاوز التوجه الجديد للعراق التعهدات الخطابية، وتظهر مؤشراته واضحة على الأرض، وكان منها على سبيل المثال حصول (16) أكبر سبع شركات مصرية في مجال المقاولات على موافقة مبدئية للعمل في إعمار العراق، وهو ما شكّل مفاجأة مدوية على المستويين السياسي الاقتصادي بالنسبة لطهران التي توقعت انتزاعها لذلك الملف بحكم احتكارها سوق الإنشاءات، وعلى غرار الكاظمي، ينتهج السوداني الخط ذاته، لكن بجرأة أكبر على ما يبدو، ساعيا إلى تأسيس صِلات أمتن مع دول الخليج، وجذب بلاده من ساحة النفوذ الإيراني نحو عمقها العربي مُجددا.

 

تحاول بغداد إعادة التموضع في مربع الحياد والبحث عن مصالحها أولا ضمن شرق أوسط يسعى لرسم خريطة سياسية جديدة تقوم على مبدأ تصفير المشكلات الإقليمية بوصفه نهجا جديدا استهلّته بعض الدول مثل السعودية وتركيا. على الجهة المقابلة، تواجه طهران أزمات داخلية أبرزها التعثر الاقتصادي ومواجهة العقوبات الغربية الذي يدفعها لمحاولة التوصل إلى صفقة مع الولايات المتحدة لاستعادة أموالها المُجمدة، والتجارة بحُرية مع جيرانها، وفي مقدمتهم بلاد الرافدين نفسها.

 

دفعت كل تلك التحولات بغداد لتغيير مقعدها من الانحياز التام نحو أحد الطرفين إلى الانخراط في جهود الوساطة التي أدت في النهاية إلى الاتفاق السعودي الإيراني الأخير بشأن عودة العلاقات وإعادة فتح السفارات، كما أن إطلالتها الجديدة تمنحها حضورا سياسيا وزخما كبيرا لطالما فقدته، وتُعد خطوة جريئة يحاول من خلالها العراق الخروج من عقود المشكلات السياسية والاقتصادية التي كلّفته مكانته المهمة في وسطه العربي.

————————————————————————————————

المصادر:

(1) Iran and Saudi Arabia agree to restore ties at talks in Beijing

(2) العراق والسعوديّة نحو استعادة العلاقة

(3) How the Iran-Iraq war will shape the region for decades to come

(4) المصدر نفسه

(5) Iran and Iraq remember war that cost more than a million lives

(6) Saddam Hussein Discussing ‘Irangate’ (Iran-Contra) Revelations with His Inner Circle

(7) U.S. Conferred With Iran Before Iraq Invasion, Book Says

(8) Iran and Iraq: The Shia Connection, Soft Power, and the Nuclear Factor

(9) THE IRAN CABLES

(10) The Popular Mobilization Forces and Iraq’s Future

(11) Iran Dominates in Iraq After U.S. ‘Handed the Country Over’

(12) Iran’s annual export to Iraq increases 15%

(13) The growing economic and political role of Iraq’s PMF

(14) السوداني يؤيد بقاء القوات الأمريكية في العراق لأجل غير مسمى

(15) العراق والسعوديّة نحو استعادة العلاقة

(16) 7 شركات مقاولات مصرية تسعى لاقتناص أعمـال سكنيـة وبنيـة تحتيـة بالعـــراق

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: صدام حسین

إقرأ أيضاً:

صدام وعدنان وأغنية نجاة الصغيرة

آخر تحديث: 9 مارس 2025 - 10:57 صبقلم: إبراهيم الزبيدي مقدما، كان صدام حسين منذ أيام الطفولة والشباب لا يحب من هو أشطر منه في الدراسة، ولا يصاحب أبناء الذوات الموسرين.ورغم أن العلاقة بينه وبين ابن خاله عدنان خيرالله كانت تبدو حميمية إلا أن شيئا من النفور الخفي من عدنان كان يظهر في حالات معينة، ويحاول ستره وإخفاءه.وكان خاله خيرالله طلفاح، في تلك السن المبكرة، يغذي تلك الغيرة بمعاملته بإهمال وسخرية واستصغار، ثم يولي ولده عدنان حبا وعناية واهتماما.وقد رافقت هذه الغيرة صدام حسين في مراحل حياته اللاحقة. وأكثر ما تبدت علانية حين امتلك القيادة المطلقة للحزب والدولة.فما فعله في قاعة الخلد وما قبلها وبعدها برهان على أنه كان لا يطيق وجود من يتوقع منهم المنافسة، ويبغض المرموقين والمحبوبين في الحزب والمجتمع. وإصدارُه حكم الإعدام على عبدالخالق السامرائي بتهمة التآمر، وهو سجينه في زنزانة مقفلة ومظلمة، أربع سنوات كاملة برهان آخر على ذلك. وبأوامره الشخصية، وربما بتخطيطه وتوصيفه أقدمت مخابراته وأجهزة أمنه على اغتيال عبدالرزاق النايف وناصر الحاني وحردان التكريتي وفؤاد الركابي وعبدالكريم الشيخلي وشفيق الكمالي وعمر الهزاع، ثم حاولت وفشلت في محاولة اغتيال عارف عبدالرزاق وصبحي عبدالحميد، وأخيرا عزل أحمد حسن البكر، ثم قتل ابن عمه وزوج ابنته، حسين كامل وعشرات الآخرين.وهذا ما يجعلني أعتقد بأنه وراء تفجير طائرة عدنان خيرالله. وقد أجمع المؤرخون والمطلعون، ومنهم خيرالله طلفاح نفسه، على ذلك.وقيل يومها إن السبب هو أن عدنان كان محبوبا في الجيش والحزب والدولة والناس. واعترض مرات عديدة على  قرارات ابن عمته صدام، ومنعه من إعدام قادة عسكريين كثيرين. ولا يُستبعد أن تكون الفروق الكبيرة العميقة، فكريا، ونفسيا، ومهنيا، بين صدام وعدنان، سببا حقيقيا لتراكم الغيرة والنفور منه، والخوف من احتمال أن يتحول إلى بديل عنه. وقد يكون هذا ما جعل إزاحته ضرورة من ضرورات الحكم.طبعا، لا بد لي من القول هنا إن عدنان لم يكن بأقل من صدام التزاما بأخلاق أهل العوجا وتقاليدهم، ولكنه كان أقل تعصبا لها وتزمتا، وبعقلانية وأريحية اكتسبهما من عيشه الطويل في العاصمة بغداد، حيث كان والده يقيم ويعمل مديرا لدار المعلمين في أبي غريب.في تلك المرحلة الحساسة من صباه، تأثر ببعض طبائع مجموعة من الأصحاب البغداديين، وتحديدا في الكرخ، برز منهم، لاحقا، شعراء وأدباء وروائيون منهم، المرحومون سامي مهدي، موفق خضر ، مثنى حمدان العزاوي، مثلا. بالعكس من صدام حسين الذي انتقل من ثانوية تكريت إلى ثانوية الكرخ ذاتها  في العام 1957، وأقام في منزل خاله في الجعيفر ببغداد، إلا أنه لم يستطع تغيير طبعه القبلي القروي المتزمّت، والمبالغ فيه.كان، وهو في تلك السن، يتصنع الوقار، ويعتقد بأن الرجولة تتطلب التكشير والتعالي واحتقار لهو الشباب.بالمقابل كان عدنان مفعما بالحيوية والبساطة والتواضع والأريحية، ويحب الاستماع إلى الفكاهة والطُرف، ويروي كثيرا منها، ويتذوق فنون الرسم والأدب والشعر، ولا يُخفي عشقه  للموسيقى والغناء.وهذا ما جعله متحدثا ناجحا، بلغة عربية سليمة، وبديهة حاضرة، وهدوء واسترخاء، وميل واضح إلى الحجة والمنطق السليم.ورغم أنه لم يمارس الكتابة، شعرا أو نثرا، إلا أنه لم يكن أقل من زملائه الأدباء الشباب تداولا للحديث عن الشعر والأدب والفنون. كتب الشاعر الراحل سامي مهدي، مرة، أن عدنان وأنا كنا من بين طلاب الخامس الأدبي (أ) في ثانوية الكرخ أكثر من عارض دعوته إلى قصيدة النثر.في أواسط عام 1955 ظهرت أغنيتان لنجاة الصغيرة، الأولى، “أسهر وانشغل أنا”، والثانية “ليه خليتني أحبك”، وأغنية ثالثة لناظم الغزالي “ماريده لغلوبي”.وكان يفترض أن تمر هذه الأغاني الثلاث على عدنان مرور الكرام كغيرها من مئات الأغاني التي كانت تذاع في تلك الأيام. ولكنها لصقت به بشدة، وأصبح يرددها دائما، بعفوية وتلقائية.ونحن في الزورق المنساب مع مجرى نهر دجلة من تكريت إلى العوجا راح عدنان يغني “ما ريده لغلوبي”، فنهره صدام بشدة وحذره من أنه لو عاد إلى الغناء مرة أخرى فسوف يكون له تصرف آخر معه مختلف. ثم في نفس اليوم، وكنا نعوم في نهر دجلة في العوجا، راح عدنان يغني “أسهر وانشغل أنا”، فما كان من صدام إلا أن هجم عليه، وهمّ بصفعه، لولا تدخلي السريع. فقد اعتبر ذلك ميوعة وخفة لا تليق بالرجولة والرجال. (موعيب رجال يغني؟).ولكن عدنان، بعد ذلك، ورغم ذلك، ورغم ثورة ابن عمته عليه، لم يستطع أن يتغلب على طبيعته المرحة السعيدة، ولم يمنع نفسه من ترديد إحدى تلك الأغاني الثلاث، وهذا ما كان يثير حنق صدام وتقريعه واستهزاءه بما وصفه بسفاهة لا تليق بابن عشيرة، وابن مربٍّ ومناضل كبير. ويقصد خاله خيرالله طلفاح.رغم أن عدنان كان يغني بيننا نحن، وليس في حضور غرباء آخرين. وظل على هذه الطبيعة، ولم يتغير. فقد كان، ونحن في ثانوية الكرخ يتقصد استفزاز صدام، فيهمس في أذني بأغنية، وهو ينظر لصدام، ليُغيظه.الغريب أن صدام حسين، حين امتلك السلطة، تحول إلى شخص آخر، نقيض النقيض.فقد تسربت أخبار لياليه الحمراء، وبعضُها موثق بالأفلام المصورة.لقد صار يستدعي المطربين والمطربات، ويسهر ويرقص، ويفعل كل ما كان يمنع عنه ابن خاله عدنان.كما شاهدنا أفلاما عديدة عرضت على وسائل التواصل بعد سقوط النظام توثق حفلات رقص وغناء باذخة في منزل السيدة الأولى، ساجدة، أم عدي، شقيقة عدنان، ورأينا بناتِه وعدي في نوبات رقص متهتك، وقصي في حضرة الغجر.وطبعا لا يمكن أن يكون صدام لم يشاهدها، أو لم يكن يعلم بها. كما أنه لم يكن يعترض على سهرات ابن عمه علي حسن المجيد مع الغجر، ولم يمنعه عنها. ومؤكد أن يكون صدام قد شاهدها أو سمع عنها، خصوصا وأن علي كان يستمتع بتصوير تلك الحفلات الماجنة.وفي شهادة وكيل وزارة المالية الأسبق الأستاذ ضياء الخيون ذكر أن جهة حكومية في أعقاب سقوط النظام طلبت منه أن يحضر إلى القصر الجمهوري ليتسلم رسميا غرفة مخصصة للمشروبات الروحية.قال، حين ذهبت وفتحت الغرفة وجدتها مكتظة، من أرضها إلى سقفها، بكل أنواع المشروبات الروحية المعروفة في العالم. بعضها ما زال مختوما، وبعضها نصف فارغ. وبعد أن افترقنا وصار عدنان قائدا عسكريا مرموقا، وقبل أن يشغل منصب وزير الدفاع وبعده، ظل مولعا بالموسيقى والغناء، وكان يدعو إلى منزله مطربين وموسيقيين ويغني ويرقص معهم أحيانا.وقد صرّح عباس جميل وعبدالجبار الدراجي بأنه كان يدعوهما كثيرا إلى داره في أيام العطل، ويصفانه بأنه فنان الروح، وصاحب أذن موسيقية مرهفة.في تقديري أن عشقه للأدب والفنون والغناء والموسيقى جعله أقل عنفا من صدام، ومن أبناء عمته صبحة، برزان ووطبان وسبعاوي، وباقي الأقارب من أهل العوجا.ولو قدر له أن يخلف ابن عمته صدام في الحكم لبادر، وعلى الفور إلى قص أجنحة الكثيرين من الأقارب والأعوان الذين كثرت تعدّياتهم، وافتُضح فسادهم، ولألغى كثيرا من القوانين والقرارات المتزمتة التي أصدرها صدام، والتي أنقضت ظهر المواطن العراقي وخلقت عزلة حقيقية بين الشعب والحكومة، ولاستعاد علاقات الدولة العراقية بدول الجوار على غير أساس التعالي والتهديد والابتزاز. والأهم، لتفادى الحرب الدامية مع إيران، ولما ارتكب خطيئة غزو الكويت. كان مؤكدا أن يحكم بحب الناس له لا بخوفهم منه، خلافا لطبيعة ابن خالته الذي توهم بأن سياسة البطش ونشر الخوف هي الأقدر على فرض هيبة الحاكم وسلطته، والأضمن لمنع المعارضة من أن تتحول إلى عامل تهديد حقيقي للنظام.ويروى عن عدنان أنه كان رحيما، ومسارعا متطوعا إلى إنقاذ أرواح الكثيرين من العسكريين والمدنيين الذين كان ابن عمته يصدر عليهم قراراته المتعجلة الظالمة.وهذه، تحديدا، هي أقوى العوامل التي بنت جدارا بينهما من النفور الخفي الذي حرص الاثنان على كتمه وكبته والتستر عليه، حسب ما نقلَه عنهما الكثيرون من المقربين الذين عايشوهما في أواخر السبعينات والثمانينات.

مقالات مشابهة

  • العراق يتذيل القائمة العربية في المساواة التعليمية بين الجنسين
  • التعامل بالمثل.. خارطة طريق عراقية لحل ملف الفصائل المسلحة داخليا
  • أمريكا تؤكد للعراق على منع إستيراد الكهرباء والغاز من إيران
  • صدام وعدنان وأغنية نجاة الصغيرة
  • عودة الكاظمي: الأمل الكاذب الذي لا يحتاجه العراق
  • رئيس حزب العربي الناصري يصل إلى مقر حفل الإفطار السنوي لأبناء قنا والأقصر والقبائل العربية
  • البرلمان العربي ينوه بالإسهامات التي حققتها المرأة العربية على كافة الأصعدة
  • نقيب الصحفيين العراقيين رئيس اتحاد الصحفيين العرب الاستاذ مؤيد اللامي : غيًرنا صورة العراق في الإعلام العربي من ” بلد القتل والطائفية” إلى “بلد السلام والأمان”
  • مستشار حكومي: العراق بدون إيران بلا حياة !
  • تستهدف العراق.. الكشف عن خريطة طريق للتعامل مع محور إيران