١-
٣٦ عاماً مضت منذ أن التقيت للمرة الأولى بالدكتور جون قرنق دي مبيور في مدرسة الدراسات السياسية الثورية الدفعة السادسة في معسكر الزنك بالقرب من مدينة قمبيلا الاثيوبية في اقصى غرب اثيوبيا في منتصف عام ١٩٨٧، لازال هذا اللقاء ينبض في ذاكرتي بالحياة ويحتل مكاناً مركزياً رفيعاً في عقلي وقلبي وخاطري ندياً كأنه تم بالأمس، كان بصحبته القادة سلفاكير ميارديد واروك طون اروك.


في المساء دعاني دكتور قرنق لاجتماع في منزله بالمدرسة السياسية حينما وصلت كان يستمع لبرنامج (اضواء على أفريقيا) أشهر خدمات القسم الانجليزي لهيئة الإذاعة البريطانية الموجهة لافريقيا، وقد درج جون قرنق للاستماع اليه طوال سنوات الحرب كواحد من عاداته الراتبة، كان المنزل مبنياً من الاعشاب الجافة والقصب والطين وأشجار الدليب. وهانذا أكتب مقالي السنوي الذي درجت على كتابته في ذكرى رحيله واستشهاده وتغييبه مع سبق الإصرار والترصد في زمان غير زماننا الأول ومكان قرب المكان الأول، تغير المكان ولم يعد السودان نفس السودان الذي حلمنا به ممتداً مليون ميل مربع من حلفا إلى نمولي ومن الجنينة إلى كسلا، وتظل احلامنا مؤجلة لا تموت ومعلقة على شرفات التاريخ ننتظرها مثل قطارات سويسرية لا تخطئ في المواعيد، قرنق صاحب طرح معلى في محاولات تحويل الكارثة إلى منفعة ومن قبله اسلف القائد الثوري الكبير الأمام محمد أحمد المهدي الذي قال (ان المزايا في طي البلايا والمنن في طن المحن والنعم في طي النقم)، المهدي وقرنق منتجان سودانيان خالصان محليا الصنع من تراب وارض السودان، ولتعش وتنتعش الصناعات الوطنية.
في مفاوضات نيفاشا كان طبيب الأطفال الفرنسي من أصل بولندي زيقموند استرسكي يرغب بشدة في لقاء قرنق وهو يعرفه منذ سنوات وقد توسط في إطلاق سراح بعض الأسرى في منتصف الثمانينات، وكان قرنق في طريقه من نيفاشا إلى رحلة خارجية وعند الحاح استرسكي على لقائه، اشار إلي وقال له: انه في استطاعتي أن أجده في اي مكان واي وقت، وطلب مني أن أحدد له ميعاد، بعد أن ابتعد قرنق سألني استرسكي عن علاقتي به ومصدر ثقته بي ودخلنا في حوار حول شخصية قرنق وقلت له: أن اي تقييم منصف وموضوعي سيضعه أهم شخصية سياسية في القرن العشرين في السودان وكان الأمام المهدي في القرن الذي قبله، وأن قرنق داعية لوحدة وتأسيس جديد للدولة السودانية، وذكر استرسكي هذا الحوار في كتابه عن مقتل جون قرنق.
لأن الحاضر يبتسم ببهجة للثوريين والمخلصين لا سيما في المطبات والتقاطعات ويستعيد شيئاً من التاريخ لمواجهة أسئلة الحاضر القديمة المتجددة، فبعد حرب ١٥ أبريل عاد قرنق نازلاً من نُحلة الجُرح القديم ومن نزيف الغياب إلى تفاصيل البلاد وعاد كثير من الناس إلى رؤيته وطرحه وهي رؤية تستحق ميلاداً ثانياً وجديداً ولم تعد ملكاً له أو للحركة الشعبية ولا يجوز احتكارها لأنها أضحت مكوناً رئيسياً من مكونات الفكر السياسي السوداني الذي يطرح أسئلة السودان الكبرى وقضايا المشروع الوطني واعادة تعريفه سيما بعد انفصال الجنوب وحرب الحروب في ١٥ أبريل التي هي صدى لحروب الريف الطويلة والبعيدة وأعلى نقاط التقائها في مركز السلطة، وهذه الحرب لا تقفز فوق الأسئلة والقضايا القديمة بل تعيد طرحها من جديد، قضايا الوحدة في التنوع والمواطنة بلا تمييز، واستدامة السلام والديمقراطية والتنمية وقضايا العدالة والنساء واستعادة وجه الريف المنتج والسيادة الوطنية وتاسيس الدولة واكمال مهام الثورة السودانية.

قرنق رائد التأهيل النظري والعملي في قضايا السودان الجديد، ولم يكتفي بطرح الأسئلة بل طرح الكثير من الأجوبة لا يضره ان عاد خصومه للانتقام منه وملاحقته وطرح أسئلة ظاهرها برئ وجوهرها ملئ بالعداء والعنصرية والكراهية على شاكلة هل كان قرنق مفكر ام ظلنطحي؟ لا يملك اي كتاب منير، بل ليس من حقه حتى أن يشرب قهوة في المتمة، ولأن التاريخ يمد لسانه للعابثين فحينما عاد قرنق في يوم الجمعة ٨ يوليو ٢٠٠٥ للخرطوم، كان علم حركته يرفرف في مدنية المتمة بكل أريحية ومحبة، فالمتمة وقهوتها تسع الجميع.
هل كان قرنق مفكراً؟ "جاء السؤال متأخراً كخلافة الأمام علي كرم الله وجهه" هذا السؤال جاء بعد أن اخذت رؤية قرنق طريقها إلى أفئدة ملايين السودانيات والسودانيين في الريف والمدن، والسؤال البرئ يخشى ويشعر بالذعر من عودة الروح الجديدة لرؤيته التي تدعو لبناء مستقبل مشترك للشعوب السودانية، ورؤيته كانت محركاً رئيسياً لملايين الفقراء والمهمشين في الانعتاق والتغيير وبصماته واضحة في ثورة ديسمبر وقديماً قيل ان الفكر الثوري أتى لتغيير العالم لا لتفسيره.

٢-
تطرح حرب أبريل قضية بناء السودان الجديد لمصلحة جميع اقوامه بالعودة لمنصة التأسيس ومخاطبة الجذور التاريخية التي أدت إلى هذه الحرب، واليوم الذي نقترب فيه من العدالة الاجتماعية نقترب في نفس الوقت من السلام المستدام.

٣-
في عام ١٩٨٤ وفي مدينة اديس ابابا وبعد نحو عام من الحرب التي اندلعت في مدينة بور في ١٦ مايو ١٩٨٣، طلب تايني رولاند مؤسس شركة رونلو ذات النشاط الواسع في افريقيا وقتها، لقاء الدكتور جون قرنق لايصال رسالة من الرئيس جعفر نميري، كانت الحركة الشعبية لتحرير السودان في عنفوانها وتربعت كقوة رئيسية في مسرح السياسة السودانية تحت قيادة جون قرنق الذي أتى بأفكار جديدة هزت ساكن الريف والمدينة ومثلت أفكاره تحدياً للمؤسسة الحاكمة بأكثر مما مثله السلاح الذي يمتلكه، وكان قرنق في حوالي ٣٨ عاماً من عمره بهياً وذكياً ومؤمناً بوحدة السودان الجديد في رحلة عكسية ومعاكسة لفكر الانيانيا الأولى وفي تحطيم لإرث المثلث الكلونيالي الذي ينظر للسودان في مفارقات وثنائيات لا يمكن مصالحتها عرب وأفارقه ومسلمين ومسيحيين جنوبين وشماليين وخلق جسراً للوحدة والربط بين هذه الثنائيات، طرح تايني على قرنق رسالة نميري الذي كان محكوماً بذهنية النظام القديم بأن الجنوبي حينما يتمرد فانه يبحث عن السلطة ولا يبحث عن التغيير، هذا هو السقف الأعلى لمطالب الجنوبي الذي حددته الانظمة الحاكمة، طرح نميري على قرنق بأن يكون رئيس حكومة الجنوب ونائب رئيس الجمهورية مقابل إنهاء الحرب، كان طرحاً متوافقاً مع العقل القديم والصورة الذهنية للجنوبي في كواليس واضابير الدولة لكن قرنق كان مثقفاً ثورياً ومفكراً ووصل إلى ضرورة وحدة السودان عبر إيمانه بوحدة افريقيا وطلب قرنق من تايني أن ينقل إلى نميري، ان عرضه ربما يحل مشكلة قرنق الشخصية أذا كانت له قضية متعلقة بالمناصب والسلطة، ولكن السؤال يبقى كيف يمكن حل مشاكل الآلاف الذين يقاتلون خلفه؟ وذكر له أن الجيش الشعبي الآن يفوق ١٤ الف مقاتل، هل هنالك امكانية لتعيين ١٤ الف نائب رئيس لحل مشاكل البقية؟ وقال له انقل لنميري، "ان القضية ليست هي من يحكم السودان، بل كيف يحكم السودان!" وطرح عليه عقد مؤتمر دستوري لمناقشة كيفية حكم السودان.

٤-
بعد سقوط نظام جعفر نميري في انتفاضة أبريل ١٩٨٥، أرسل المشير عبد الرحمن سوار الدهب رئيس المجلس العسكري آنذاك الفريق يوسف أحمد يوسف للقاء الدكتور قرنق بالعاصمة الأثيوبية اديس ابابا، وبعث برسالة مفادها ان مقعد الدكتور جون قرنق في المجلس العسكري لا يزال شاغراً، نفس نبيذ جعفر نميري في كاسات جديدة فالعقل القديم ونخبته السياسية والعسكرية عجزت عن اجتراح الجديد، عرض المجلس العسكري عضوية المجلس على قرنق لمساهمته في إسقاط جعفر نميري، وتم إختيار الفريق يوسف أحمد يوسف لانه على معرفة سابقة بقرنق وساهم في ادخاله في صفوف الجيش السوداني باقتراح من الراحل امانويل أُبر أحد قادة الانانيا في بحر الغزال بعد رفض جوزيف لاقو استيعابه ضمن المستوعبين من اقليم أعالي النيل، وقد تقرر استيعاب ٦ الف من المقاتلين السابقين، على الرغم ان قرنق خريج جامعة قرنييل وهي حالة نادرة في صفوف تلك القوات والسبب أن قرنق قد حرض ضد اتفاق اديس ابابا سيما الترتيبات الأمنية وهي قضية قديمة متجددة حتى في حرب ١٥ أبريل، وقد كانت رسالة قرنق الشهيرة لجوزيف لاقو مليئة بالأسئلة العميقة وقد أحتفظ بها زميله وصديقه الراحل بروفسير دومنيك أكيج محمد عميد كلية الهندسة في جامعة فلوريدا والصديق الصدوق لدكتور قرنق وأول ممثل للحركة الشعبية بالولايات المتحدة الاميركية والذي درس بمدرسة عطبرة الصناعية، وقد أسدى خدمة لاحتفاظه بتلك الرسالة الهامة وقد رفض قرنق الاستيعاب وطرح أسئلة جوهرية حول الترتيبات الأمنية ولا تزال قضية بناء الجيش الواحد المهني الذي يعكس التنوع السوداني مطروحة ومعلقة على مشاجب ١٥ أبريل.

٥-
كان الفريق يوسف أحمد يوسف ضابط وطني يحظى باحترام قرنق، طرح على قرنق ضمه للمجلس العسكري فشكره دكتور جون قرنق وقد بدأ اللقاء بحديث حميم عن ذكرياتهم المشتركة في القوات المسلحة السودانية وتعقيدات الحرب كما ذكر قرنق لاحقاً، وكعادته كان قرنق مهذباً ومستنداً على المبادئ واطلاق القفشات، وقال له قرنق يا سعادة الفريق انت كنت قائدي في القوات المسلحة وأنني لم أبدأ هذه الحرب فقد بدأت الحرب حينما كنت طفلاً في عام ١٩٥٥ ولكن لهذه الحرب أسباب ودواعي ولن تنتهي وينعم السودان بالسلام الا بمعالجتها وأود أن اطرح عليك لماذا نحارب، وإذا كانت وجهتنا خاطئة فأنني أقبل منك التصحيح، وذكر له اننا في الحركة الشعبية نقول إن القضية الحالية هي ليست قضية الجنوب بل قضية السودان وعلاجها يكمن في تغيير السياسات في الخرطوم ولا يمكن حلها في جوبا، فما هو رأيك في هذا الطرح؟ ثم انتقل وقال له نحن نقول إن السودانيين قبل أن يكونوا عرب أو أفارقة مسلمين أو مسيحيين شماليين أو جنوبين يجب أن يكونوا سودانيين أولاً، فالسودانوية هي التي تربطنا وتوحدنا، فهل ما نقوله صحيح أم خاطئ وأضاف: ردنا على العرض الذي تفضلت به، ان القضية ليست البحث عن مقعد شاغر لقرنق ليشارك في حكم السودان فهذا لن يحل قضية الحرب فهي ليست قضية فرد بل هي قضية السودان وكيف يحكم السودان! وطرح عليه عقد المؤتمر الدستوري وسأله، هل ما نقوله خاطئ يا سعادة الفريق يوسف، فأجاب الفريق يوسف بأن طرحه صحيح، ورد عليه قرنق اذن أن الخطأ ليس في الرسالة بل في الرسول، هذا وقد عرف الدكتور جون قرنق بتميزه وذكائه وقوة عارضته وقال للفريق يوسف: يا سعادة الفريق بما انك كنت قائدي وان رسالتنا صحيحة اني أعرض عليك بدلاً من ذهابي للخرطوم أن تكون انت رئيساً للحركة الشعبية وأن اكون نائبك وان اتقدم بنفس الطرح وبرؤية السودان الجديد تحت قيادتك حتى يزول سؤ الفهم عند البعض وتُقبل رسالتنا، فضحك الفريق يوسف أحمد يوسف طويلاً وذكر لدكتور قرنق انه جاء مكلفاً لاقناعه بالرجوع للخرطوم وهو الآن يطرح عليه أن يذهب معه إلى الغابة.
رحل قرنق والفريق يوسف وتايني رولاند ولم تنتهي المفارقات في حياتنا ولازالت قضايا الأمس هي مهام اليوم ولابد من وحدة قوى الثورة والتغيير للوصول إلى سلام مستدام وبناء وطن جديد ديمقراطي قائم على المواطنة بلا تمييز.
الرحمة للفريق يوسف أحمد يوسف ولتايني رولاند فان رحمة الله تسع الجميع، والمحبة لجون قرنق في عليائه السامق ونشكره على سنوات حضوره البهية التي ماتزال، والمجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام.

١٢ أغسطس ٢٠٢٣  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: السودان الجدید ١٥ أبریل

إقرأ أيضاً:

قضية المياه أمن قومي للبلدين.. تفاصيل لقاء وزير الخارجية بنظيره السوداني الجديد

استقبل د. بدر عبد العاطي وزير الخارجية والهجرة،  د. علي يوسف أحمد الشريف وزير خارجية السودان الجديد، فى أول لقاء رسمى له بعد تعيينه وزيرا للخارجية، ويأتى اللقاء تأكيدًا على خصوصية العلاقات المصرية السودانية والروابط التاريخية التى تجمع الشعبين المصرى والسودانى الشقيقين. 

بدر عبد العاطي يلتقي مع وزير العلاقات الدولية الأوغندي عبد العاطي يستقبل وزير خارجية النيجر لتعزيز العلاقات الثنائية

وصرح السفير تميم خلاف، المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية، أن الوزير عبد العاطى قدم التهنئة لنظيره السودانى على تعيينه فى منصبه الجديد وعلى الثقة التي حاز عليها من مجلس السيادة السودانى، مؤكدا موقف مصر الراسخ من دعم السودان الشقيق فى هذا الظرف الدقيق، مشددا على دعم مؤسساته الوطنية واحترام السيادة السودانية ووحدة وسلامة أراضيه ورفض اى تدخل فى شؤونه الداخلية.

 

واكد الوزير عبد العاطى أن مصر ستظل تقف بجوار السودان وشعبه الشقيق خلال الظرف الحرج  والمنعطف التاريخى الخطير الذى يمر به. 

 

كما أكد الوزير عبد العاطى على حرص مصر على تقديم كافة أوجه الدعم للسودان سواء على المستوى السياسى او الإنساني، حيث استضافت القاهرة مؤتمرا للقوى المدنية والسياسية السودانية في يونيو ٢٠٢٤ فى اطار الجهود المصرية لتحقيق السلام والأمن بالسودان، وأبرز الزيارة الناجحة لمجلس السلم والأمن للاتحاد الإفريقي إلى بورسودان في أوائل أكتوبر ٢٠٢٤ في إطار رئاسة مصر للمجلس. 

 

أما بالنسبة للشق الإنسانى، فقد شدد الوزير عبد العاطى على حرص مصر على توفير كافة أوجه الرعاية للإخوة السودانيين الذين توافدوا على مصر بأعداد كبيرة منذ اندلاع الأزمة فى السودان فى ظل تدهور الأوضاع الإنسانية هناك. 

 

وأضاف المتحدث الرسمى أن اللقاء بين وزيرى الخارجية المصرى والسودانى عكس تطابقا كاملا فى المواقف بشان قضية الأمن المائى، حيث أكد الوزيران على أن تحقيق الامن المائى يمثل مسألة وجودية للبلدين لا يمكن التهاون فيها.

مقالات مشابهة

  • الحركة الإسلامية السودانية-بين التمكين والانقلاب على الديمقراطية وصراع العودة إلى السلطة
  • فريدة سيف النصر تطالب بتكريم مصطفى فهمي وحسن يوسف في ختام مهرجان القاهرة السينمائي
  • قضية المياه أمن قومي للبلدين.. تفاصيل لقاء وزير الخارجية بنظيره السوداني الجديد
  • جيل زد السوري الذي دفع الثمن مبكرا
  • غياب يوسف أيمن عن قائمة قطر لمواجهتي أوزبكستان والإمارات في تصفيات كأس العالم 2026
  • مفوض أممي: 3 ملايين شخص غادروا السودان منذ أبريل 2023
  • جوميز يؤجل طلب أحمد فتوح في الزمالك .. تفاصيل
  • كريسبو : الفريق الأفضل هو الذي حقق الفوز
  • جوميز يؤجل طلب أحمد فتوح في الزمالك
  • السامرائي: وجهة نظرنا هي الذهاب مع الفريق السياسي الذي يحقق النجاح لجمهورنا