عيادة تمكين... لمنظومة أكثر تنافسية وابتكارا
تاريخ النشر: 8th, October 2024 GMT
اختتمت عيادة البحث العلمي والابتكار "تمكين" أعمالها بتاريخ 3 من أكتوبر الجاري، وذلك بعد أسبوعين من العمل التشاركي، وبحضور واسع من المختصين والخبراء والباحثين والأكاديميين، وبإشراك فئة الشباب من الباحثين والمبتكرين الناشئين، وكذلك ذوي الخبرة العملية الطويلة ممن هم على رأس العمل والمتقاعدين، وهذا التضمين هو الذي جعل من هذه العيادة تجربة ثرية في توليد الأفكار الابتكارية، وإضفاء روح التكامل والتعاون على جميع محاور أعمالها، وقد بدأت العيادة التي نظمتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار بالشراكة مع وحدة متابعة تنفيذ رؤية عمان 2040 في الثاني والعشرين من شهر سبتمبر المنصرم، وناقشت التوجه الاستراتيجي المتمحور حول تمكين المنظومة الوطنية للبحث العلمي والابتكار عبر التمويل المتنوع والمستدام، والحوكمة الفاعلة والمحفزة، وانبثقت عنها المرتكزات والممكنات التي تغذي التوجه قصير الأمد، ويتجلى الهدف الأساسي لعيادة تمكين في تعزيز المنظومة وجميع مكوناتها لرفد الدور التنموي للبحث العلمي والابتكار في النهضة المتجددة عبر تحقيق أولويات رؤية عمان 2040، ومن جهة أخرى تعزيز أداء سلطنة عمان على مؤشر الابتكار العالمي.
وفي خضم أعمال عيادة تمكين أظهر تصنيف مؤشر الابتكار العالمي لهذا العام تقدم سلطنة عمان في عدد من المؤشرات الفرعية للمؤشر العالمي، وفي مقدمتها مؤشر مدخلات الابتكار، حيث تقدم الأداء لست مراكز من المرتبة 65 إلى المرتبة 59، وهذا الارتفاع الإيجابي هو بمثابة الفرصة الاستراتيجية التي يمكن البناء عليها لتعزيزها بالارتفاع المستدام في المستقبل، وهذا يمثل مسار المدخلات مما يستوجب التركيز على مسارات تعزيزية مماثلة لدعم المؤشرات الفرعية المرتبطة بجميع سلسلة القيمة في الابتكار، وذلك من منظور شمولي يُظهر التحديات والفرص في كافة جوانب المنظومة الوطنية للبحث العلمي والابتكار، وهذا هو النهج الذي اتبعته عيادة تمكين، وهي من أهم نقاط القوة في هذه العيادة؛ إذ لا يمكن التعامل مع التحديات بشكل منفصل، فالفجوات القائمة حالياً في المنظومة تعكس تحديات متداخلة، وتترابط بعلاقات سببية مع غيرها من العوامل، ولذلك فإن التعاطي معها يتطلب تكامل الأدوار، فالمعرفة والبحث العلمي والابتكار لا تقتصر على القطاعات الأكاديمية أو مؤسسات محددة، ولكنها تترابط وتتكامل مع جميع القطاعات العلمية منها والإنتاجية والمجتمع بأكمله، وهذه هي الرسالة التي حملتها عيادة تمكين، فالشراكة والتكامل هما أساس تعزيز المنظومة الوطنية للبحث العلمي والابتكار، والتي تُعد من الدعائم الأساسية في النهضة المتجددة، ودورها كبير في تحقيق الرؤية الوطنية عُمان 2040، وتعزيز التنمية المستدامة، ودفع عجلة النمو والتنمية الاقتصادية والتنافسية، وتحقيق الرفاه الاجتماعي، وتعزيز السمعة الدولية، والمكانة العلمية لسلطنة عُمان على الخريطة المعرفية الدولية.
فإذا نظرنا إلى ركائز وأولويات رؤية عُمان 2040 نجد بأن المنظومة الوطنية للبحث العلمي والابتكار في صميم هذه الرؤية الوطنية المدفوعة بالطموح، كما أن تسارع التطورات التكنولوجية والمعرفية تفرض الحاجة إلى المواكبة، وهذا ما يستدعي إيلاء الأهمية الاستراتيجية لمرحلة تنفيذ مبادرات وتوصيات عيادة تمكين، فكما انتهجت مرحلة التطوير نهج الشراكة فإن التنفيذ بحاجة كذلك إلى التآزر وتكامل الأدوار، وكذلك لا بد من توظيف مسارات ابتكارية في دعم تنفيذ ومتابعة المبادرات والتوصيات، وإعادة ترتيب أولوياتها حسب المتطلبات المرحلية، وكذلك حسب الطموحات المستقبلية على المدى المتوسط والبعيد، فعلى مستوى جني الثمار القريبة يمكن التركيز على المبادرات ذات الأثر السريع والمباشر في رفع أداء سلطنة عُمان على مؤشر الابتكار العالمي، وأما على الأبعاد المتوسطة والبعيدة يجب التركيز على المبادرات والتوصيات التمكينية التي من شأنها تعزيز البناء المعرفي والتكنولوجي في سلطنة عُمان، وتهيئة المنظومة للقيام بدورها المحوري والكبير في التنمية الوطنية بشكل مستدام.
كما أن عيادة تمكين قد اشتملت ضمن مخرجاتها الأساسية مستودع المقترحات والمشاركات والذي أُطلق عليه "بنك الأفكار والفرص الاستراتيجية"، وهي بادرة قيمة لاكتساب القيمة المضافة من المشاركات الفاعلة والواسعة للمختصين والخبراء الذين أثروا المناقشات برحيق خبراتهم وتجاربهم وكذلك حكمتهم، فهذه الأفكار تشكل إحدى اللبنات التي يمكن الاستفادة منها في وضع مبادرات موجهة للتحديات ذات التأثر المحدود في مكونات المنظومة الوطنية للبحث العلمي والابتكار، إذ تعد هذه الأفكار من مخرجات التفكير الإبداعي الذي قامت عليه عيادة تمكين، وعملية توليد الأفكار البناءة والابتكارية هو من ممكنات التخطيط الاستراتيجي الموجه بمعطيات الواقع ومتطلبات صناعة المستقبل، لأنها تتيح إمكانية رؤية التحديات والفجوات من جوانب مختلفة وزوايا عديدة، واقتراح الحلول بطرق غير تقليدية، وتطوير استراتيجيات فعّالة تساهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية على المدى القصير والبعيد.
إن تنفيذ عيادة تمكين في هذا التوقيت يمثل مكسباً استراتيجياً لتسريع مرحلة تعزيز وتهيئة المنظومة الوطنية للبحث العلمي والابتكار للقيام بدورها الكبير في التنمية الوطنية، واللحاق بالمستجدات التكنولوجية والمعرفية في عصر أصبحت فيه المعرفة والابتكار والإبداع من أهم مصادر توليد القيمة المُضافة، وتحقيق النمو الاقتصادي، ولذلك فإن توجيه عمل العيادة نحو مرتكزات البنى البحثية والابتكارية والتمويل، وممكنات القدرات البشرية والقوانين والتشريعات يعكس الاحتياجات المرحلية في تمكين هذه المنظومة، ويحدد ملامح العمل في تنفيذ التوصيات والذي يقوم على التركيز الاستراتيجي الهرمي الذي يسعى لترسيخ دعائم الثقافة والممارسات العلمية جنباً إلى جنب مع استكمال البنى الأساسية والرقمية، ويستهدف تعزيز الأطر التشريعية والقانونية من أجل توفير البيئة الداعمة من حيث تأطير التمويل، وبناء القدرات البشرية في البحث العلمي والابتكار، وبذلك فإن مخرجات عيادة تمكين لا تقتصر على المبادرات التنفيذية ولكنها بمثابة خارطة الطريق لتعزيز المنظومة الوطنية للبحث العلمي والابتكار عبر ضمان استدامة الاهتمام المستقبلي بهذه المنظومة، وتحفيز النمو والتطور التراكمي حسب الأولويات والفرص الاستراتيجية، وتوجيه الممكنات نحو مجالات ذات التأثير العالي، وذلك مع تأطير ودعم الروابط والشراكات مع الفاعلين في المنظومة على المستوى المحلي، وتقوية المشاركة المجتمعية، والتعاون مع المجتمع البحثي والعلمي والابتكاري إقليمياً وعالمياً، وبما يساهم في ترجمة الطموح في رؤية عُمان 2040 إلى واقع ملموس.
• د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المنظومة الوطنیة للبحث العلمی والابتکار سلطنة ع رؤیة ع
إقرأ أيضاً:
إرث الهُوية.. تمكين للمستقبل
خليل العبري
تتوالى الضربات على رأس المسمار فوق سطح السفينة على شواطئ مدينة صور العفية؛ لتُبحِر بعد ذلك وتبدأ رحلة التصدير والتعريف بمكونات الهوية العُمانية، والبضائع المحمّلة من التمور والليمون المُجفَّف، وغيرها من البضائع التي اعتاد التجار على تصديرها.
وسط صُراخ نواخذة السفينة وأمرهم بإنزال الأشرعة التي حيكت بأيدٍ عنوانها "لا تعرف للهزيمةِ سبيلًا"، حاملةً معها هوية الإنسان العُماني وثقافته، لتُصدرها للعالم من شرقه إلى غربه. كُل من كان جزءًا في صياغة تِلك السفينة يستظلون بظل هوية واحدة، لباس واحد، وهيئة واحدة. هويةٌ عُمانية يُغادر بها النواخذة شواطئ هذه الأرض المعطاءة؛ لتكون بمثابة العنوان الأبرز لسفنهم وسط تلك المحيطات.
إنَّ ارتباط مفهوم المواطنة ارتباطاً وثيقاً بين الإنسان والأرض التي ينتمي إليها تُكون علاقة تتخللها مجموعة من الحقوق والواجبات، وكذلك تخوِّله لأن يكون مواطنًا ذا صفة قانونية في وطنه، وكونه مواطنًا فلا بد أن يكون على أهبة الاستعداد لأي واجب يطلبه منه وطنه، أو ولي أمره، وذلك من منطلق قولِ الله العزيز في محكم كتابه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْاِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ اِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9).
ومن جانب آخر، يُعزى مفهوم الهوية العُمانية دائمًا إلى مجموع الخصائص والسمات التي يُعرف بها العُمانيون داخل وطنهم وخارجه. وتُبدي تلك الخصائص روح الانتماء لديهم، وتكون السبيلَ دومًا إلى تقدم مجتمعهم وازدهاره. وقد تجذّرت روح الهوية في الإنسان العُماني واستقى الوطنيّة بتباين أطيافه، حتى أينعت ثمارًا يستلذ بها غيرهم في أخلاقهم، وزهورًا يتنعّمون فيها برحيق كلماتهم، وخير من يمثّل ذلك هم شعراؤهم، فقد أسهبوا بأجزل الشعر وأجمله في حب وطنهم وانتمائهم إليه، حينما تغنّى الشاعر العُماني ذياب العامري في قصيدتهِ المعروفة "أنتِ المحبة"، وجعل علاقته بعُمان علاقة الرباط المقدّس، الذي لا يُمكن أن ينفكَّ، فيقول:
ماذا يضيرك لو عشقتك مرة
وضممت قدك بكرة وأصيلا
وسدنت في محراب حبك خاشعا
أدعو الإله مرتلًا ترتيلا
أن يحفظ الود المقدس بيننا
وبأن تكوني الحب والتقبيلا
وبأن تكوني زهرة عطرية
لا تعرفين إلى الذبول سبيلا
والتاريخ العُماني الغني والمتنوع قد شكّل أسس الهوية العُمانية منذ الأزل؛ إذ تجسدت فيه قيم الهوية العُمانية والمواطنة من خلال التعاطي الشديد مع أعداء هذه الأرض، ولين التعامل مع الأصدقاء. فقد أثبت العُمانيون أنَّ هذه الأرض الطيبة الطاهرة لا تقبل أي نَفَسٍ خبيث يجعل الحقد عنوانًا له، وذلك من خلال تعاملهم مع مختلف المستعمرين الطغاة لهذه الأرض، فقدّم العُمانيون أنفسهم وأموالهم ذودًا عن تربة الوطن الطاهرة، وفي سبيل حرية هذه البقعة التي لا تنبت إلا طيبًا. وهذا الأمر لا يعدو إلا أن يكون تمثيلًا عن اعتزازهم وتمجيدهم لهويته السليمة وانتمائهم لوطنهم عُمان.
كذلك، كانت السفن العُمانية تجوب بحار العالم في الشرق والغرب لتحقيق الغايات الاقتصادية والسياسية والدينية لوطنهم ودينهم، فهذا هو الشيخ أحمد بن النعُمان الكعبي يُبحر في أول رحلة دبلوماسية بحرية عربية في عام 1840م. كل تلك الرحلات والمسافات الطوال لهي دليل على وعي العُماني في ذلك الوقت بأهمية تصدير هويته وتعريفها للعالم بأسره.
واليوم، وسط هذا الانفتاح الكبير في العالم، والوصول إلى مراحل متقدمة في مواضيع الذكاء الاصطناعي. لهو ذو أثر كبير وفرصة عظيمة لتجديد ترسيخ الاعتزاز بالهوية العُمانية. ويظهر ذلك جليًا من خلال الأدوار التي تقوم بها الحكومة الرشيدة في سبيل التسهيل والتيسير لحياة المواطنين اليوم، وذلك عبر تطوير أدواتها، وتحسين خدماتها بشتى أنواعها، باستخدام محركات الذكاء الاصطناعي المختلفة التي تصب مصالحها جميعًا للإنسان العُماني- بعون الله- الأمر الذي ينعكسُ إيجابًا على رضا المواطنين من خلال تعاملهم مع تلك الجهات المختلفة، وهو الأسلوب الذي يعزز في أنفسهم بأن انتماءهم واعتزازهم بوطنهم لهو محل تقدير لدى حكومتهم الرشيدة واهتمام منها.
ختامًا.. إنَّ تأكيد المقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم- أعزّه الله- على ضرورة الحفاظ على عنصر الهوية العُمانية التي يُنظر إليها بصفة كونها لبِنة أساسية في بناء المجتمع العُماني وصمام أمان للمجتمع اليوم، وتوجيهه السامي إلى ضرورة التصدي لكل المخاطر والتحديات التي تواجه هذه اللبنة، هو كفيل بأن يُدرك المرء مدى أهميتهما في بناء المجتمع، والحفاظ عليه. فهي الدرع الحصين وخط الدفاع الأول الذي يحمي فلذات هذا الوطن الكريم وبُناتهَ، التي من مكوّناتها اللغة العربية، والدين الإسلامي إلى جانب السمات الشخصية للإنسان العُماني التي تكونت عبر العصور.