لجريدة عمان:
2024-12-23@13:52:24 GMT

معونات ومعنويات... يوميات الحرب

تاريخ النشر: 8th, October 2024 GMT

الثلاثاء...

هو العجز المطبق. ماذا يمكن لك أن تفعل، في هذه اللحظات بالذات، حين يشتدّ صوت الطائرات المحلقة على علو منخفض، وصوت الانفجارات التي تلي، سوى أن تتنقل من محطة فضائية إلى أخرى، لا لتعرف أي الأماكن التي طاولها القصف، وأي الأحياء التي دُمرت بوحشية ومنهجية، بل لتتأكد من أنك لا تزال حيّا. أن تمسك بــ"الريموت كونترول" وأن ترى، هي اللحظة الأولى التي تخبرك أنك لا تزال شاهدا على ما يجري، وأن تشهد يعني بقاءك على قيد الحياة لغاية هذه اللحظة.

تمرّ المشاهد. لم تعد تتأثر كثيرا. كأن الغاية من ذلك كلّه أن تفقد إنسانيتك، أن تنسى تعاطفك مع الذين لقوا حتفهم، لتفكر فعلا، متى أنت شخصيا ستلقى حتفك الخاص. كأن كلّ ما يجري أمامك، ليس جزءا من موتك. وكأن الحرب تريد منك أن تقطع حبل سرتك مع هذا العالم، لتبقى وحيدا بين جدران المنزل، ولا تعرف إن كنت أصبحت ميتا أم ما زلت تتنفس، تتنفس فقط، لأن أي رغبة في أي شيء آخر، لا معنى لها في هذه اللحظات.

الأربعاء...

لم تعد بحاجة إلى كثير وقت لتكتشف أنك أصبحت كائنا تلفزيونيا، وأنت الذي كنت تكره الجلوس أمام هذه الآلة الحمقاء طيلة حياتك. وعلى الشاشة خطباء من كلّ الأطياف. محللون استراتيجيون بالمئات، لا تعرف من أين ينبتون. هناك الثوريون والمستسلمون، القوميون والمنبطحون، الليبيراليون والعقلانيون، المحايدون والمنغمسون... وغيرها المئات من الصفات الأخرى التي يمكنك أن تطلقها عليهم. من أين يأتون بكلّ هذه المعلومات؟ من أين يأتون بكلّ هذا الكلام، وليس أمامك سوى كلام وحيد: عدد الشهداء الذي يتزايد كلّ دقيقة. عدد المربعات السكنية التي تتهاوى كأنها لم تكن. عدد النازحين الذين يفترشون الأرض بانتظار معونات لا تدري إن كانت ستأتي. شعب بأسره يعيش هذه الأيام على المعونات و ... المعنويات. أي معنويات وأولئك الذين يتحدثون أمامك يستمرون في تحذيرك بأن الحرب لا تزال في بدايتها وأن "الآتي أعظم". كنّا في الماضي ننتظر كلام المثقفين، أن نراهم ونستمع إلى فكرة من أفكارهم لتجعلنا سعداء. لقد تغير العالم. لقد اختفت اليوم هذه الطبقة لتحل مكانها طبقة "الخبراء الاستراتيجيين"، الذين يزيدون في تعاستنا، والذين لا يمكن لهم إيقاف ولو جولة واحدة من هذا القصف الذي ينهمر حولك من كلّ الجهات.

الخميس...

لست بحاجة لا إلى التفكير ولا إلى أي تجربة داخلية لتكتشف أن لا شيء له معنى بعد أمام هذا الموت، وبخاصة الحياة. هل من معنى حقا لهذه الحياة؟ تقول لنفسك، طالما أنك تكافح وطالما أنك ما زلت شاهدا على ما يجري، فأنت تقدم معنى لحياتك. تحاول أن تعيش بنفسك داخل محاكاة المعنى، إذ لا يمكن أن تعيش، في نهاية الأمر، من دون أن تبرز معنى.

لكن الأشخاص الذين يتصرفون ضمنيًا يعتقدون أن ما يفعلونه له معنى. وإلا فإنهم لن يزعجوا أنفسهم. إذا توصلنا إلى الاستنتاج العملي من رؤيتي للأشياء، فسنبقى هنا حتى نموت، ولن نتحرك، ولن يكون من المنطقي ترك الكرسي أمام الجهاز حيث نحن. وجودي ككائن حي يتناقض مع أفكاري. منذ أن كنت على قيد الحياة، أفعل كل ما يفعله الأحياء، لكنني لا أؤمن بما أفعله. يؤمن الناس بما يفعلونه لأنهم لا يستطيعون القيام به بأي طريقة أخرى. لا أؤمن بما أفعله، ومع ذلك أجدني مضطرا لأؤمن به قليلا على الرغم من كل شيء: هذا كل ما أستطيعه الآن.

الجمعة...

حاولت أن أغيّر المشهد هذه الصبيحة. حاولت أن أعود إلى قراءة الكتاب الذي بدأت به من أيام طويلة، وتركته جانبا. كتاب عن مفاهيم الشعر وأشكاله. انتابتني نوبة من الضحك المرير. ماذا يعني بعد أن نناقش مفهوم قصيدة النثر والتفعيلة والعمود الشعري في زمن نُعلَّق فيه كلّنا على العمود؟ هل الثقافة هي فقط لوحة تجريدية تنافس لوحة انطباعية، بينما اللوحة الوحيدة اليوم هي واقعية الخراب المتنقل باسم الدين تارة، وباسم القومية طورا، وباسم الطائفة والمذهب في كثير من الأحيان ... هل المقصود بكلمة ثقافة، هذه الأشياء "الصغيرة" التي "نتشاجر" عليها؟ ماذا يمكن لنا أن نقول عن التراث والحداثة وما بعد الحداثة والهُوية وما شابه من أسئلة تلهّينا بها منذ عقود، بينما حركية الواقع تكمن في مكان آخر، هو هذا المكان المعلق الذي يبدو خارج الزمن وخارج الحياة. هل الثقافة هي أن تحب الموسيقى السيمفونية أم أن تنحاز إلى الطربيات العربية، بينما الموسيقى الوحيدة، هذه الأيام، عويل أناس يقعون أرضا من جراء إجرام دولة عدوة، لا هدف لها سوى تغييبك عن الوجود.

السبت...

كل شيء بقي اليوم في التباسه أيضا. لسنا، في الحصيلة النهائية، سوى كائنات تاريخية ملتبسة، تحاول العيش في ثقافة ملتبسة. في بلاد ملتبسة. ولأننا نحيا هذا الالتباس المستمر منذ أن تكونت ثقافتنا، أو ربما منذ أن وعينا أننا نشكل -مجتمعين- "وحدة" ثقافية ما. لهذا قد يكون علينا اليوم أن ننطلق من هذه النقطة بالذات، أي أن نعيد التفكير، لا فقط، بشأن الثقافة وبشأن استراتيجياتها المتنوعة، بل علينا قبل ذلك كلّه أن نعيد التفكير بإنسانيتنا. هذا هو السؤال الثقافي الأهم الذي يتبدّى لي في هذه اللحظة بالذات، قبل أن نتحول إلى كائنات منقرضة تُعرض رفاتها بعد آلاف السنوات في المتاحف.

الأحد

الأفكار ليست مقدسة، بل هي قابلة للنقاش. من هذا النقاش علينا أن ننطلق لصوغ رؤى ولصوغ استراتيجية تجمع أكثر ممّا تفرق. وبين ذلك وهذا، ما زلنا في هذه اللحظات نشاهد ما يحصل من على الشاشات، وكأن ما يجري يحدث على كوكب آخر. نهز رؤوسنا ونصمت. بانتظار لا أعرف ماذا. هذا الانتظار ليس عجزا، بل هو بسبب استقالتنا نحن من ندّعي أننا نقرأ ونكتب، من ندعي أننا داخل الشأن الثقافي. لهذا من أولى أولوياتنا في هذه اللحظة بالذات، أن نعيد التفكير بما يجري، وألاّ نصمت ... وإلا سيكون الصمت الأبدي. لكن فعلا ماذا علينا أن نقول؟

الاثنين...

كل المحاولات التي نصنعها للتغلب على اليأس تأخذنا في اتجاهات مجنونة.

تقول لنفسك بأنه يجب إزالة هذه الدولة المارقة. أن تحرقها. وتسأل: هل الطبيب الجراح، حين يقوم باستئصال السرطان، يشعر بمثل هذه العاطفة السخيفة؟ إنه يزيله من دون أي تأنيب ضمير. نعم علينا أن نكون قساة. فالولادة عمل وحشي. أن نعود إلى الحياة، هي بدورها عملية أكثر توحشا. والسؤال، كيف يمكن لنا بعد أن نؤمن بجمال هذا العالم.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ما یجری فی هذه

إقرأ أيضاً:

صيادو غزة.. صراع الحياة والموت

تقرير:

يواجه الصيادون تهديدات ومخاطر تمس حياتهم ومصدر رزقهم في كل مرة يركبون البحر الذي اعتادوا أن يكون مصدر الحياة، وبات اليوم ساحة للمعاناة والمخاطر، تُطاردهم الزوارق الحربية الإسرائيلية وتستهدفهم مع مراكبهم ومعداتهم وشباكهم، تاركة عائلاتهم في مواجهة الفقر والحرمان.
يقول الصياد محمد أبو حسن: “نخرج إلى البحر ولا نعلم إن كنا سنعود سالمين. الزوارق الحربية تطاردنا يوميًا، تطلق علينا النار دون إنذار، وأحيانًا تصادر شباكنا أو تدمرها. هذا ليس فقط تهديدًا لأرواحنا، بل هو أيضًا تدمير لمصدر رزق عائلتي التي تعتمد بالكامل على الصيد”.

مخاطرة يومية
مثل محمد عشرات الصيادين الذين يخاطرون يوميا ويبحرون على بعد مئات الأمتار من شاطئ غزة، بحثًا عن لقمة عيش مغمسة بالدم نتيجة عدوان الاحتلال.
الصياد تيسير بصل نزح من مخيم الشاطئ إلى خانيونس ودفعته الظروف المعيشية القاسية إلى استئناف العمل في بحر خان يونس لتأمين الرزق لعائلته.
واستأجر تيسير قارب صيد صغير وبدأ العمل من الصفر، فلا يملك مال ولا يتوفر له أي من معدات الصيد. يقول: نبحر مسافة قصيرة لا تتجاوز 500 متر نتعرض خلالها لمطاردات زوارق الاحتلال التي تطلق الرصاص والقذائف صوبنا فنضطر للمغادرة سريعا، وفي تصريحات نقلتها عنه فلسطين أون لاين.
ويشير إلى أن المسافة المحدودة التي يبحرون فيها لا تتوفر فيها الأسماك لذلك تكون رحلتهم المحفوفة بالمخاطر العالية غير مجدية.
يقول: نواجه مخاطر البحر ومخاطر الاحتلال المستمرة بحق الصيادين في طول بحر القطاع. نعمل وسط مخاوف من الإصابة القاتلة على أيدي الاحتلال.

استشهاد الصياد ماهر أبو ريالة
في الثامنة صباحا من يوم الجمعة 22 نوفمبر 2024، استهدفت الزوارق الحربية الإسرائيلية صيادين فلسطينيين كانوا يصطادون باستخدام قارب يدوي صغير يعمل دون محرك، على بعد 300 متر من الشاطئ الواقع غرب مخيم الشاطئ في ميناء القرارة وسط قطاع غزة، ما أدى لاستشهاد الصياد ماهر خليل أبو ريالة وإصابة صياد آخر أسفرت عن بتر يده.
وقال ابن العم نايف أبو ريالة -وهو عضو في نقابة الصيادين- إن الشهيد (50 عاما) كان يصطاد لإعالة أسرته المكونة من 14 فردا، مضيفا أن الشهيد أراد توصيل رسالة للاحتلال مفادها أنه رغم منعه الصيادين من ارتياد البحر، فإن هذا البحر للصيادين وإنهم لن يتركوا مهنتهم.
ويضيف نايف أن ابن عمه كان يعرض نفسه للخطر، وأنه شعر بقرب استشهاده قبل أيام من الحادث، إذ طلب منه أن يعتني بأسرته التي نزحت إلى جنوب قطاع غزة، مما منعها من وداع معيلهم عندما قتل شهيدا.
ووفق وزارة الزراعة، فمنذ حرب الإبادة استشهد 200 صياد ودمر الاحتلال 270 غرفة للصيادين من أصل 300، و1800 مركب من أصل 2000 إلى جانب تدمير ميناء غزة الرئيسي و5 مراس دمرت بالكامل.

تدمير البنية التحتية للصيد
الناطق باسم وزارة الزراعة المهندس محمد أبو عودة، يؤكد أن قوات الاحتلال دمرت البنية التحتية لقطاع الصيد منذ بدء حرب الإبادة على غزة يوم 7 أكتوبر/ تشرين أول 2023.
وبيَّن أبو عودة في تصريح صحفي أن عمليات التدمير شملت الميناء الرئيسي غرب مدينة غزة، والمراسي وغرف الصيادين ومخازنهم المنتشرة على طول الساحل.
وذكر أن الحرب على غزة أوجدت مجموعة تحديات تتمثل بالاستهداف المباشر للصيادين المحرومين من الوصول إلى البحر وممارسة الصيد وقد أتلف جيش الاحتلال أدواته وأغرق القوارب.
ومن هذه التحديات أيضًا، بحسب أبو عودة، منع الاحتلال دخول قطع الغيار ومعدات الصيد، وعدم السماح بإدخال الوقود اللازم لتشغيل المحركات، وتقليص مساحة الصيد إلى حد المنع الكامل حاليًا.

تنوع الانتهاكات
يقول مسؤول لجان الصيادين زكريا بكر، إن الانتهاكات توزعت خلال الأشهر الماضية بين إطلاق النار والقذائف باتجاه المراكب المبحرة والراسية، إضافة لاعتقالات، ومصادرة مراكب وتدمير معدات الصيد.
وذكر بكر في تصريحات صحفية، أن متوسط الاعتقالات في كل شهر بمعدل 5 صيادين، بينما بلغ متوسط الاعتداءات من 30 – 40 اعتداء، أما متوسط الأضرار بلغت من 3 – 4 أضرار.
ووفق نقيب الصيادين الفلسطينيين في غزة نزار عياش، فإن قرابة 5 آلاف صياد بالقطاع يعيلون نحو 50 ألف شخص من عائلاتهم، وهم في خوف دائم من الاستهداف الإسرائيلي أثناء عملهم. ونتيجة لذلك، “يمارس 200 صياد فقط من إجمالي الصيادين عملهم رغم المخاطر” ويذكر أن خسائر الصيادين قُدّرت بـ60 مليون دولار، علما بأن الصيد ثاني أهم مهنة في القطاع بعد الزراعة.
استهداف الصيادين في غزة يعكس جزءًا من معاناة القطاع المحاصر بأكمله. ويهدد إن استمرار هذه الجرائم الإسرائيلية بحقهم يهدد بتدمير قطاع الصيد الذي يعتمد عليه الآلاف، ويزيد من أعباء الحصار. ويوجه الصيادون في غزة نداءً للعالم: “نريد الحماية. نريد أن نعمل بكرامة دون أن نخشى على حياتنا. البحر هو حياتنا، واستمرار هذه الانتهاكات يدمر كل شيء”.

المصدر: صحيفة الثورة الرسمية

مقالات مشابهة

  • ما الذي يمكن خسارته من تشكيل حكومة مدنية موازية لحكومة بورتسودان؟
  • أصوات لا تعرفها تصدرها الإبل والخيول.. ما معنى الحَنِينَ؟
  • لا أحب الرمادي لكنها الحياة
  • كتيبة جنين: السلطة تحتجز 237 من عسكرييها الذين رفضوا المشاركة ضد المقاومين
  • كم عدد المليارديرات الذين يعيشون في إسطنبول؟
  • من هم الرجال الستة الذين يظهرون قبل نهاية العالم؟
  • صيادو غزة.. صراع الحياة والموت
  • بعد ستة سنوات من ديسمبر أرضية أكثر صلابة لتأسيس دولة، على مبادئ الوفاق
  • ماسك يتساءل عما إذا كان بايدن على قيد الحياة
  • تجارب الحياة.. ليست عبئًا