نشرت مجلة "فورين أفيرز" تقريرًا يسلط الضوء على الأزمة الحالية في النظام التجاري المتعدد الأطراف الذي ساعد على استقرار الاقتصاد العالمي لعقود، واعتبرت أن انتهاك الولايات المتحدة والصين لقواعد منظمة التجارة العالمية قد أدى إلى أزمة حادة في منظومة التعاون التجاري العالمي، كما أن دولا مثل الهند وإندونيسيا تعيق جهود الحفاظ على هذا النظام مما ينذر بفوضى تجارية عالمية.



وقالت المجلة في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن النظام التجاري متعدد الأطراف ساعد على ضمان استقرار الاقتصاد العالمي خلال أكثر من 75 سنة، فقد جمعت الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة وخليفتها، منظمة التجارة العالمية، الدول معًا للتعاون في خفض التعريفات الجمركية وغيرها من الحواجز التجارية، وتعزيز التكامل الاقتصادي العالمي ووضع قواعد لتنظيم التجارة، وقد أثبت هذا النظام فعاليته غير العادية وعزز حقبة من الازدهار العالمي غير المسبوق.

وترى المجلة أن هذا النظام التجاري الليبرالي يمر الآن بأزمة؛ فقد انهار التعاون الدولي في مجال التجارة إلى حد كبير، وتخلت الولايات المتحدة عن التزامها بالتجارة الحرة والتعاون متعدد الأطراف واحترام سيادة القانون، وانتهكت واشنطن علنًا قواعد منظمة التجارة العالمية ومبادئها من خلال فرض التعريفات الجمركية وتقديم الدعم الهائل في قطاعات صناعية متعددة. وبالمثل، أفسدت الصين هذه المنظومة واستخدمتها كسلاح من خلال الإعانات والضغوط الاقتصادية.



وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها العديد من الدول للإبقاء على التعددية والحفاظ على النظام التجاري القائم، إلا أن دولاً أخرى - بما في ذلك العديد من الاقتصادات الناشئة الكبرى مثل الهند وإندونيسيا - قوضت تلك الجهود من خلال عرقلة المفاوضات التجارية وإعاقة إنفاذ قواعد التجارة العالمية، مما قد يؤدي إلى دخول النظام التجاري في حالة من الفوضى، وفقا للمجلة.

جهود غير مكتملة

أوضحت المجلة أن الغرض الرئيسي لمنظمة التجارة العالمية هو وضع وتطبيق القواعد التي تحكم التجارة الدولية، وذلك من خلال تسهيل المفاوضات بين أعضائها، ولكن على مدى السنوات الـ 15 الماضية، وصلت جهود منظمة التجارة العالمية في كثير من الأحيان إلى طرق مسدودة.

وحسب المجلة، يظهر ذلك بوضوح في جولة المحادثات الفاشلة في الدوحة، والتي بدأت سنة 2001 لخفض الحواجز التجارية حول العالم، والتي انهارت بسبب الصراع بين الصين والولايات المتحدة؛ حيث رفضت بكين تخفيض تعريفاتها الجمركية في مجالات مثل الزراعة والمواد الكيميائية والآلات الصناعية دون تخفيضات أكبر في الدعم الحكومي الزراعي في الولايات المتحدة.



لكن إنعاش مفاوضات منظمة التجارة العالمية أمر ضروري للحفاظ على التعاون الدولي في مجال التجارة وضمان مواكبة القواعد العالمية للتجارة للتحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي، وستكون مفاوضات منظمة التجارة العالمية الحالية بشأن إعانات صيد الأسماك اختبارًا حاسمًا لعزم المجتمع الدولي على استعادة قواعد التجارة العالمية. 

لقد أدت الإعانات التي تقدمها الحكومات لمصايد الأسماك إلى أزمة الإفراط في الصيد؛ حيث أصبحت 90 بالمائة من الأرصدة السمكية العالمية مستغلة بشكل مفرط أو مستنفدة، وبما أن العديد من البلدان النامية تعتمد بشكل كبير على صيد الأسماك من أجل الأمن الغذائي والتصدير، فهي معرضة بشدة لتراجع الأرصدة السمكية، وبالتالي فإن اتفاق منظمة التجارة العالمية لتقييد هذه الإعانات الضارة سيمثل مكسبًا للتجارة العالمية والتنمية والبيئة.

وقد توصلت منظمة التجارة العالمية سنة 2022 إلى اتفاق مبدئي لحظر الإعانات المقدمة للصيد غير القانوني وغير المنظم، وصيد الأرصدة السمكية المستنفدة، والصيد غير المنظم في أعالي البحار، لكن هذه البنود تغطي جزءًا ضئيلًا من جميع الإعانات الضارة لمصايد الأسماك، أما العمل الحقيقي المتمثل في معالجة الإعانات التي تشجع الصيد المفرط، فقد تُرك للاجتماع رفيع المستوى لمنظمة التجارة العالمية في شباط/ فبراير 2024.

وكاد هذا الاجتماع أن يسفر عن اتفاق تاريخي لتقييد مثل هذه الإعانات، لكن الهند عرقلت الاتفاق بإصرارها على إعفاءات شاملة كانت ستجعل الاتفاق بلا معنى، ورغم أن الهند كانت هي الدولة الوحيدة التي عارضت الاتفاق، إلا أن المفاوضات انهارت لأن قواعد منظمة التجارة العالمية تتطلب توافقًا في الآراء. 

ونظرًا لهذا التحدي المتمثل في تأمين توافق في الآراء، لجأت عدة دول إلى الاتفاقات محدودة الأطراف، وهي اتفاقات اختيارية ولا تنطبق إلا على المجموعات الفرعية من أعضاء المنظمة الذين يختارون التوقيع عليها، بدلاً من الاتفاقات التقليدية متعددة الأطراف التي تلزم جميع الأعضاء، وتهدف إحدى هذه الاتفاقيات، التي وقعتها 128 دولة سنة 2024، إلى تسهيل الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل أفضل من خلال تبسيط إجراءات منح التراخيص للمستثمرين.

تضيف المجلة أنه من المتوقع أن تحقق الاتفاقية مكاسب اقتصادية عالمية كبيرة، سيعود معظمها إلى البلدان محدودة ومتوسطة الدخل، ويرى مؤيدو الاتفاقية أنها وسيلة مهمة للبلدان النامية للمطالبة بحصة أكبر من الاستثمار الأجنبي المباشر ومعالجة الفجوات الاستثمارية الكبيرة في تلك البلدان. ولكن لكي تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ، يجب أن يتم اعتمادها في الهيكل القانوني لمنظمة التجارة العالمية، وهو إنجاز يتطلب موافقة جميع الأعضاء، وقد تم عرقلة هذا الجزء من العملية من قبل ثلاث دول - الهند وجنوب أفريقيا وتركيا - التي تعترض من حيث المبدأ على فكرة الاتفاقات محدودة الأطراف داخل منظمة التجارة العالمية.



وقد أدت عرقلة هذه الجهود التفاوضية إلى خلافات بين الدول الأعضاء -وفقا للمجلة-، فعلى النقيض من الخلاف المعتاد بين الشمال والجنوب، والذي غالبًا ما كان يميز سياسات التجارة العالمية في الماضي، أصبحت الدول النامية في مواجهة بعضها البعض في كل من قضيتي إعانات مصايد الأسماك والاتفاق المتعلق بالاستثمارات الأجنبية. 

الاستئناف في الفراغ

اعتبرت المجلة أن التهديد الأكبر للنظام التجاري العالمي يأتي من إضعاف آلية تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية، حيث أن قانون المنظمة للفصل في المنازعات التجارية ضروري لإنفاذ قواعد التجارة العالمية، وقد حقق معدلات امتثال عالية جداً.

لكن الولايات المتحدة اتخذت في السنوات الأخيرة خطوات متعمدة لتعطيل هذه الآلية -كما تقول المجلة-، حتى تتمكن من اتباع سياسات تنتهك قواعد منظمة التجارة العالمية مع الإفلات من العقاب. فقد منعت الولايات المتحدة خلال رئاسة دونالد ترامب جميع التعيينات القضائية في هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية، وهي مجموعة من سبعة قضاة تنظر في الطعون المتعلقة بالأحكام الصادرة عن منظمة التجارة العالمية بشأن النزاعات. 

ومع عدم وجود قضاة للنظر في الطعون، توقفت الهيئة عن العمل، وقد أدى ذلك إلى تقدم أي دولة يصدر ضدها حكم عقابي من منظمة التجارة العالمية، باستئناف على الحكم الصادر من المنظمة وتأخير تنفيذه إلى أجل غير مسمى، وأصبح هذا يُعرف باسم الاستئناف "في الفراغ".

وتعد الولايات المتحدة أكبر مصدر منفرد للاستئنافات في الفراغ، حيث تمثل 38 بالمائة من إجمالي الاستئنافات، وقد واصلت إدارة بايدن انتهاك قواعد منظمة التجارة العالمية بشكل صارخ مع رفضها إعادة هيئة الاستئناف، مما يمكّن واشنطن من عرقلة الأحكام الصادرة ضد تعريفاتها الجمركية غير القانونية في منظمة التجارة العالمية.

وأضافت المجلة أن العديد من البلدان الأخرى تتبع السياسة ذاتها، مستغلة غياب هيئة الاستئناف لتتحدى علانية قواعد منظمة التجارة العالمية. فقد فرضت إندونيسيا، على سبيل المثال، حظرًا على تصدير النيكل الخام، وهو مكون رئيسي في الفولاذ المقاوم للصدأ وبطاريات السيارات الكهربائية.

وتسيطر إندونيسيا على أكثر من نصف إمدادات العالم من النيكل، وتهدف من خلال حظر صادرات النيكل إلى إجبار الشركات التي تعالج النيكل على الاستثمار داخل البلاد. وقد نجح الاتحاد الأوروبي في سنة 2022 في الطعن على الحظر الإندونيسي في منظمة التجارة العالمية، وأمرت لجنة المنازعات في منظمة التجارة العالمية إندونيسيا بإزالة قيود التصدير، لكن إندونيسيا استأنفت الحكم في الفراغ لمنع تنفيذ الحكم، وبدلاً من إلغاء حظر التصدير، تقوم إندونيسيا الآن بتوسيع نطاقه ليشمل المعادن الأخرى غير المصنعة.

واتخذت الهند أيضًا خطوات مماثلة؛ حيث وضعت نظامًا واسع النطاق من الإعانات المرتبطة بـ "المناطق الاقتصادية الخاصة" لتعزيز صادراتها، مما أدى إلى إغراق صناعات الصلب والأدوية بالواردات الرخيصة المدعومة من الهند. وقد رفعت الولايات المتحدة قضية في منظمة التجارة العالمية للطعن في الإعانات وكسبت القضية، وقضت اللجنة بأن دعم الحكومة الهندية ينتهك قواعد منظمة التجارة العالمية ويجب إلغاؤه، واحتفلت واشنطن في البداية بالحكم، لكن الهند جردت الحكم من أي قوة قانونية بعد فترة وجيزة من خلال الاستئناف في الفراغ.

وتذكر المجلة أن ثلثي الأحكام الصادرة عن منظمة التجارة العالمية يتم استئنافها الآن في الفراغ، كما انخفض عدد النزاعات في منظمة التجارة العالمية إلى حوالي ثلث ما كان عليه قبل انهيار هيئة الاستئناف، ويأتي هذا الانخفاض الحاد في الوقت الذي تتبنى فيه المزيد من الدول تدابير تجارية حمائية تتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية؛ حيث لم تعد الدول ترى في منظمة التجارة العالمية وسيلة فعالة لضمان مصالحها في النظام التجاري الدولي.

وفي محاولة للحفاظ على آلية فعالة لتسوية المنازعات وضمان أن تظل قواعد منظمة التجارة العالمية قابلة للتنفيذ، أطلقت مجموعة من الدول بقيادة الاتحاد الأوروبي ترتيبات التحكيم الاستئنافية المؤقتة متعددة الأطراف، والتي بدأت النظر في القضايا سنة 2022، والتي تحاكي دور هيئة الاستئناف، لكنها تشمل فقط الدول الموقّعة عليها، ولم توافق عليها حتى الآن سوى 53 دولة فقط، بينما بقى غالبية أعضاء منظمة التجارة العالمية خارج الآلية الجديدة. 

انهيار النظام

ترى المجلة أن الأزمة في النظام التجاري العالمي تتجاوز الآن حدود المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، فقد أدى تجاهل الدولتين للمعايير والمؤسسات الراسخة إلى إضعاف الحوافز التي تدفع الدول الأخرى إلى الالتزام بهذا النظام والحفاظ عليه. ورغم أن العديد من الدول تسعى إلى إنقاذ النظام والدفاع عنه، إلا أن دولا أخرى تقوضه من خلال إفساد مفاوضات منظمة التجارة العالمية، وانتهاك قواعد التجارة العالمية مع الإفلات من العقاب، وعرقلة الجهود المبذولة لاستعادة هيئة تسوية المنازعات.

وحسب المجلة، فإن هجوم الولايات المتحدة على هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية وضع النظام التجاري العالمي على مسار جديد وخطير، فمن دون الآليات التي تفرضها منظمة التجارة العالمية، لم يعد هناك الكثير من الوسائل التي تكبح السياسات الحمائية للدول، وقد أصبحت عواقب هذا المسار واضحة في ظل حمى المساعدات الحكومية والحروب الجمركية وغيرها من السياسات التي سترفع التكاليف وتغذي التضخم وتؤدي إلى زيادة العجز الحكومي، ما سيؤدي إلى مشاكل عميقة في الاقتصادي العالمي.

وتحذر المجلة من أن العالم قد يواجه خطر العودة إلى بيئة التجارة التي كانت سائدة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، عندما أدى التحول واسع النطاق نحو السياسات الحمائية إلى انكماش في التجارة العالمية وتفاقم الكساد الأعظم، وساعد على اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهذا بالأساس هو ما تم تصميم النظام التجاري العالمي لتفادي حصوله.

وقد يصل العدد المتزايد من البلدان التي تتحدى قواعد منظمة التجارة العالمية إلى نقطة تحول ينهار فيها النظام التجاري المتعدد الأطراف بالكامل، وقد يؤدي هدم التكامل الاقتصادي إلى تزايد الصراع والفوضى في الاقتصاد العالمي والنظام الدولي ككل، وإذا حدث ذلك، فإن النظام الناشئ بعده لن يكون سلميًا.





المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية الاقتصاد التجارة الهند الصين اقتصاد امريكا تجارة الصين الهند صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة قواعد منظمة التجارة العالمیة فی منظمة التجارة العالمیة لمنظمة التجارة العالمیة قواعد التجارة العالمیة الولایات المتحدة الاقتصاد العالمی التجاری العالمی النظام التجاری هیئة الاستئناف هذا النظام العدید من المجلة أن فی الفراغ من الدول من خلال

إقرأ أيضاً:

«قوة لا يستهان بها».. دور مجموعة الثماني النامية في الاقتصاد العالمي

في مواجهة المتغيرات العالمية الاقتصادية والسياسية المتلاحقة، يبرز دور مجموعة الدول الثماني النامية التي تشكل قوة اقتصادية لا يستهان بها، خاصة مع استثمار قدراتها بشكل فعال.

وعرضت قناة «القاهرة الإخبارية»، تقريرا بعنوان «قوة اقتصادية لا يستهان بها.. دور مجموعة الثماني النامية في الاقتصاد العالمي»، في عام 2010 بلغ حجم التبادل التجاري بين الدول الثماني 68 مليارات دولار، وشكلت المعاملات بينها 3.3% من حجم التجارة العالمية، وبلغ الناتج المحلي لها نحو 5 تريليونات دولار.

وتستهدف المجموعة زيادة قيمة التجارة البينية بين أعضائها إلى ما لا يقل عن 10% من إجمالي حجم التجارة الخارجية لدولها، أو 500 مليار دولار بحلول عام 2030، ولتحقيق ذلك، تدرس المجموعة عدة مقترحات من بينها إنشاء نظام مقايضة تجاري ومنصة للتجارة الإلكترونية.

مقالات مشابهة

  • العالم يتغير بعد الحرب الأوكرانية: أوروبا قد تخسر أمريكا.. والصين تربح روسيا
  • خبير: مصر في قلب حركة التجارة العالمية بفضل مشاريع النقل والموانئ الاستراتيجية
  • الصراع العربي- الإسرائيلي والاقتصادات العالمية (3-3)
  • منظمة الصحة العالمية تدعو إلى تمويل إعادة بناء النظام الصحي في لبنان
  • الصحة العالمية: النظام الصحي في لبنان أمام طريق صعب وينتظره مستقبل مجهول
  • منظمة الصحة العالمية: مستقبل صعب ومجهول للنظام الصحي في لبنان
  • أستاذ علاقات دولية: منظمة الدول الثمان لها ثقل كبير في النظام العالمي (فيديو)
  • قوة لا يستهان بها.. دور مجموعة الثماني النامية في الاقتصاد العالمي
  • «قوة لا يستهان بها».. دور مجموعة الثماني النامية في الاقتصاد العالمي
  • قائمة “سكوبس العالمية تصنف مجلة “الهندسة والعمارة” بجامعة أم القرى ضمن قواعدها العلمية