نشرت مجلة "فورين أفيرز" تقريرًا يسلط الضوء على الأزمة الحالية في النظام التجاري المتعدد الأطراف الذي ساعد على استقرار الاقتصاد العالمي لعقود، واعتبرت أن انتهاك الولايات المتحدة والصين لقواعد منظمة التجارة العالمية قد أدى إلى أزمة حادة في منظومة التعاون التجاري العالمي، كما أن دولا مثل الهند وإندونيسيا تعيق جهود الحفاظ على هذا النظام مما ينذر بفوضى تجارية عالمية.



وقالت المجلة في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن النظام التجاري متعدد الأطراف ساعد على ضمان استقرار الاقتصاد العالمي خلال أكثر من 75 سنة، فقد جمعت الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة وخليفتها، منظمة التجارة العالمية، الدول معًا للتعاون في خفض التعريفات الجمركية وغيرها من الحواجز التجارية، وتعزيز التكامل الاقتصادي العالمي ووضع قواعد لتنظيم التجارة، وقد أثبت هذا النظام فعاليته غير العادية وعزز حقبة من الازدهار العالمي غير المسبوق.

وترى المجلة أن هذا النظام التجاري الليبرالي يمر الآن بأزمة؛ فقد انهار التعاون الدولي في مجال التجارة إلى حد كبير، وتخلت الولايات المتحدة عن التزامها بالتجارة الحرة والتعاون متعدد الأطراف واحترام سيادة القانون، وانتهكت واشنطن علنًا قواعد منظمة التجارة العالمية ومبادئها من خلال فرض التعريفات الجمركية وتقديم الدعم الهائل في قطاعات صناعية متعددة. وبالمثل، أفسدت الصين هذه المنظومة واستخدمتها كسلاح من خلال الإعانات والضغوط الاقتصادية.



وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها العديد من الدول للإبقاء على التعددية والحفاظ على النظام التجاري القائم، إلا أن دولاً أخرى - بما في ذلك العديد من الاقتصادات الناشئة الكبرى مثل الهند وإندونيسيا - قوضت تلك الجهود من خلال عرقلة المفاوضات التجارية وإعاقة إنفاذ قواعد التجارة العالمية، مما قد يؤدي إلى دخول النظام التجاري في حالة من الفوضى، وفقا للمجلة.

جهود غير مكتملة

أوضحت المجلة أن الغرض الرئيسي لمنظمة التجارة العالمية هو وضع وتطبيق القواعد التي تحكم التجارة الدولية، وذلك من خلال تسهيل المفاوضات بين أعضائها، ولكن على مدى السنوات الـ 15 الماضية، وصلت جهود منظمة التجارة العالمية في كثير من الأحيان إلى طرق مسدودة.

وحسب المجلة، يظهر ذلك بوضوح في جولة المحادثات الفاشلة في الدوحة، والتي بدأت سنة 2001 لخفض الحواجز التجارية حول العالم، والتي انهارت بسبب الصراع بين الصين والولايات المتحدة؛ حيث رفضت بكين تخفيض تعريفاتها الجمركية في مجالات مثل الزراعة والمواد الكيميائية والآلات الصناعية دون تخفيضات أكبر في الدعم الحكومي الزراعي في الولايات المتحدة.



لكن إنعاش مفاوضات منظمة التجارة العالمية أمر ضروري للحفاظ على التعاون الدولي في مجال التجارة وضمان مواكبة القواعد العالمية للتجارة للتحديات التي تواجه الاقتصاد العالمي، وستكون مفاوضات منظمة التجارة العالمية الحالية بشأن إعانات صيد الأسماك اختبارًا حاسمًا لعزم المجتمع الدولي على استعادة قواعد التجارة العالمية. 

لقد أدت الإعانات التي تقدمها الحكومات لمصايد الأسماك إلى أزمة الإفراط في الصيد؛ حيث أصبحت 90 بالمائة من الأرصدة السمكية العالمية مستغلة بشكل مفرط أو مستنفدة، وبما أن العديد من البلدان النامية تعتمد بشكل كبير على صيد الأسماك من أجل الأمن الغذائي والتصدير، فهي معرضة بشدة لتراجع الأرصدة السمكية، وبالتالي فإن اتفاق منظمة التجارة العالمية لتقييد هذه الإعانات الضارة سيمثل مكسبًا للتجارة العالمية والتنمية والبيئة.

وقد توصلت منظمة التجارة العالمية سنة 2022 إلى اتفاق مبدئي لحظر الإعانات المقدمة للصيد غير القانوني وغير المنظم، وصيد الأرصدة السمكية المستنفدة، والصيد غير المنظم في أعالي البحار، لكن هذه البنود تغطي جزءًا ضئيلًا من جميع الإعانات الضارة لمصايد الأسماك، أما العمل الحقيقي المتمثل في معالجة الإعانات التي تشجع الصيد المفرط، فقد تُرك للاجتماع رفيع المستوى لمنظمة التجارة العالمية في شباط/ فبراير 2024.

وكاد هذا الاجتماع أن يسفر عن اتفاق تاريخي لتقييد مثل هذه الإعانات، لكن الهند عرقلت الاتفاق بإصرارها على إعفاءات شاملة كانت ستجعل الاتفاق بلا معنى، ورغم أن الهند كانت هي الدولة الوحيدة التي عارضت الاتفاق، إلا أن المفاوضات انهارت لأن قواعد منظمة التجارة العالمية تتطلب توافقًا في الآراء. 

ونظرًا لهذا التحدي المتمثل في تأمين توافق في الآراء، لجأت عدة دول إلى الاتفاقات محدودة الأطراف، وهي اتفاقات اختيارية ولا تنطبق إلا على المجموعات الفرعية من أعضاء المنظمة الذين يختارون التوقيع عليها، بدلاً من الاتفاقات التقليدية متعددة الأطراف التي تلزم جميع الأعضاء، وتهدف إحدى هذه الاتفاقيات، التي وقعتها 128 دولة سنة 2024، إلى تسهيل الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل أفضل من خلال تبسيط إجراءات منح التراخيص للمستثمرين.

تضيف المجلة أنه من المتوقع أن تحقق الاتفاقية مكاسب اقتصادية عالمية كبيرة، سيعود معظمها إلى البلدان محدودة ومتوسطة الدخل، ويرى مؤيدو الاتفاقية أنها وسيلة مهمة للبلدان النامية للمطالبة بحصة أكبر من الاستثمار الأجنبي المباشر ومعالجة الفجوات الاستثمارية الكبيرة في تلك البلدان. ولكن لكي تدخل الاتفاقية حيز التنفيذ، يجب أن يتم اعتمادها في الهيكل القانوني لمنظمة التجارة العالمية، وهو إنجاز يتطلب موافقة جميع الأعضاء، وقد تم عرقلة هذا الجزء من العملية من قبل ثلاث دول - الهند وجنوب أفريقيا وتركيا - التي تعترض من حيث المبدأ على فكرة الاتفاقات محدودة الأطراف داخل منظمة التجارة العالمية.



وقد أدت عرقلة هذه الجهود التفاوضية إلى خلافات بين الدول الأعضاء -وفقا للمجلة-، فعلى النقيض من الخلاف المعتاد بين الشمال والجنوب، والذي غالبًا ما كان يميز سياسات التجارة العالمية في الماضي، أصبحت الدول النامية في مواجهة بعضها البعض في كل من قضيتي إعانات مصايد الأسماك والاتفاق المتعلق بالاستثمارات الأجنبية. 

الاستئناف في الفراغ

اعتبرت المجلة أن التهديد الأكبر للنظام التجاري العالمي يأتي من إضعاف آلية تسوية المنازعات في منظمة التجارة العالمية، حيث أن قانون المنظمة للفصل في المنازعات التجارية ضروري لإنفاذ قواعد التجارة العالمية، وقد حقق معدلات امتثال عالية جداً.

لكن الولايات المتحدة اتخذت في السنوات الأخيرة خطوات متعمدة لتعطيل هذه الآلية -كما تقول المجلة-، حتى تتمكن من اتباع سياسات تنتهك قواعد منظمة التجارة العالمية مع الإفلات من العقاب. فقد منعت الولايات المتحدة خلال رئاسة دونالد ترامب جميع التعيينات القضائية في هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية، وهي مجموعة من سبعة قضاة تنظر في الطعون المتعلقة بالأحكام الصادرة عن منظمة التجارة العالمية بشأن النزاعات. 

ومع عدم وجود قضاة للنظر في الطعون، توقفت الهيئة عن العمل، وقد أدى ذلك إلى تقدم أي دولة يصدر ضدها حكم عقابي من منظمة التجارة العالمية، باستئناف على الحكم الصادر من المنظمة وتأخير تنفيذه إلى أجل غير مسمى، وأصبح هذا يُعرف باسم الاستئناف "في الفراغ".

وتعد الولايات المتحدة أكبر مصدر منفرد للاستئنافات في الفراغ، حيث تمثل 38 بالمائة من إجمالي الاستئنافات، وقد واصلت إدارة بايدن انتهاك قواعد منظمة التجارة العالمية بشكل صارخ مع رفضها إعادة هيئة الاستئناف، مما يمكّن واشنطن من عرقلة الأحكام الصادرة ضد تعريفاتها الجمركية غير القانونية في منظمة التجارة العالمية.

وأضافت المجلة أن العديد من البلدان الأخرى تتبع السياسة ذاتها، مستغلة غياب هيئة الاستئناف لتتحدى علانية قواعد منظمة التجارة العالمية. فقد فرضت إندونيسيا، على سبيل المثال، حظرًا على تصدير النيكل الخام، وهو مكون رئيسي في الفولاذ المقاوم للصدأ وبطاريات السيارات الكهربائية.

وتسيطر إندونيسيا على أكثر من نصف إمدادات العالم من النيكل، وتهدف من خلال حظر صادرات النيكل إلى إجبار الشركات التي تعالج النيكل على الاستثمار داخل البلاد. وقد نجح الاتحاد الأوروبي في سنة 2022 في الطعن على الحظر الإندونيسي في منظمة التجارة العالمية، وأمرت لجنة المنازعات في منظمة التجارة العالمية إندونيسيا بإزالة قيود التصدير، لكن إندونيسيا استأنفت الحكم في الفراغ لمنع تنفيذ الحكم، وبدلاً من إلغاء حظر التصدير، تقوم إندونيسيا الآن بتوسيع نطاقه ليشمل المعادن الأخرى غير المصنعة.

واتخذت الهند أيضًا خطوات مماثلة؛ حيث وضعت نظامًا واسع النطاق من الإعانات المرتبطة بـ "المناطق الاقتصادية الخاصة" لتعزيز صادراتها، مما أدى إلى إغراق صناعات الصلب والأدوية بالواردات الرخيصة المدعومة من الهند. وقد رفعت الولايات المتحدة قضية في منظمة التجارة العالمية للطعن في الإعانات وكسبت القضية، وقضت اللجنة بأن دعم الحكومة الهندية ينتهك قواعد منظمة التجارة العالمية ويجب إلغاؤه، واحتفلت واشنطن في البداية بالحكم، لكن الهند جردت الحكم من أي قوة قانونية بعد فترة وجيزة من خلال الاستئناف في الفراغ.

وتذكر المجلة أن ثلثي الأحكام الصادرة عن منظمة التجارة العالمية يتم استئنافها الآن في الفراغ، كما انخفض عدد النزاعات في منظمة التجارة العالمية إلى حوالي ثلث ما كان عليه قبل انهيار هيئة الاستئناف، ويأتي هذا الانخفاض الحاد في الوقت الذي تتبنى فيه المزيد من الدول تدابير تجارية حمائية تتعارض مع قواعد منظمة التجارة العالمية؛ حيث لم تعد الدول ترى في منظمة التجارة العالمية وسيلة فعالة لضمان مصالحها في النظام التجاري الدولي.

وفي محاولة للحفاظ على آلية فعالة لتسوية المنازعات وضمان أن تظل قواعد منظمة التجارة العالمية قابلة للتنفيذ، أطلقت مجموعة من الدول بقيادة الاتحاد الأوروبي ترتيبات التحكيم الاستئنافية المؤقتة متعددة الأطراف، والتي بدأت النظر في القضايا سنة 2022، والتي تحاكي دور هيئة الاستئناف، لكنها تشمل فقط الدول الموقّعة عليها، ولم توافق عليها حتى الآن سوى 53 دولة فقط، بينما بقى غالبية أعضاء منظمة التجارة العالمية خارج الآلية الجديدة. 

انهيار النظام

ترى المجلة أن الأزمة في النظام التجاري العالمي تتجاوز الآن حدود المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، فقد أدى تجاهل الدولتين للمعايير والمؤسسات الراسخة إلى إضعاف الحوافز التي تدفع الدول الأخرى إلى الالتزام بهذا النظام والحفاظ عليه. ورغم أن العديد من الدول تسعى إلى إنقاذ النظام والدفاع عنه، إلا أن دولا أخرى تقوضه من خلال إفساد مفاوضات منظمة التجارة العالمية، وانتهاك قواعد التجارة العالمية مع الإفلات من العقاب، وعرقلة الجهود المبذولة لاستعادة هيئة تسوية المنازعات.

وحسب المجلة، فإن هجوم الولايات المتحدة على هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية وضع النظام التجاري العالمي على مسار جديد وخطير، فمن دون الآليات التي تفرضها منظمة التجارة العالمية، لم يعد هناك الكثير من الوسائل التي تكبح السياسات الحمائية للدول، وقد أصبحت عواقب هذا المسار واضحة في ظل حمى المساعدات الحكومية والحروب الجمركية وغيرها من السياسات التي سترفع التكاليف وتغذي التضخم وتؤدي إلى زيادة العجز الحكومي، ما سيؤدي إلى مشاكل عميقة في الاقتصادي العالمي.

وتحذر المجلة من أن العالم قد يواجه خطر العودة إلى بيئة التجارة التي كانت سائدة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، عندما أدى التحول واسع النطاق نحو السياسات الحمائية إلى انكماش في التجارة العالمية وتفاقم الكساد الأعظم، وساعد على اندلاع الحرب العالمية الثانية، وهذا بالأساس هو ما تم تصميم النظام التجاري العالمي لتفادي حصوله.

وقد يصل العدد المتزايد من البلدان التي تتحدى قواعد منظمة التجارة العالمية إلى نقطة تحول ينهار فيها النظام التجاري المتعدد الأطراف بالكامل، وقد يؤدي هدم التكامل الاقتصادي إلى تزايد الصراع والفوضى في الاقتصاد العالمي والنظام الدولي ككل، وإذا حدث ذلك، فإن النظام الناشئ بعده لن يكون سلميًا.





المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية الاقتصاد التجارة الهند الصين اقتصاد امريكا تجارة الصين الهند صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی منظمة التجارة العالمیة لمنظمة التجارة العالمیة قواعد التجارة العالمیة الولایات المتحدة الاقتصاد العالمی التجاری العالمی النظام التجاری هیئة الاستئناف هذا النظام العدید من المجلة أن فی الفراغ من الدول من خلال

إقرأ أيضاً:

أبرز الأدوار التي لعبتها دول الطوق منذ طوفان الأقصى.. هل طوقت الاحتلال أم المقاومة؟

عام على اندلاع معركة طوفان الأقصى الذي دعا فيه رئيس هيئة أركان كتائب القسام محمد الضيف الأمة العربية والإسلامية والجبهات المحيطة لكنس الاحتلال، ودعا فيه الشعوب العربية والإسلامية للزحف نحو فلسطين.

في المقابل لم تكن الصورة على الأرض كما تمناها ودعا إليها الضيف، كما لم تلعب الدول العربية خصوصا دول الطوق دورا في المعركة ولا حتى دورا في إيقافها.

ودول الطوق العربي هو مصطلح أطلقه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في ستينيات القرن العشرين على الدول العربية التي تحيط بفلسطين المحتلة وهي كل من لبنان وسوريا والأردن و مصر.



التقرير التالي يوضح مواقف الدول الطوق: الأردن ومصر ولبنان وسوريا من معركة طوفان الأقصى خلال الاثني عشر شهرا الماضية.

الأردن: اشتباك سياسي وتعاون اقتصادي
يملك الأردن أطول حدود مع فلسطين المحتلة، حيث يجاورها من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها، كما أن العلاقات بين الأردن وفلسطين علاقات متداخلة جدا؛ تاريخيا وجغرافيا وديمغرافيا، حيث أصول العشائر الأردنية والفلسطينية واحد، ناهيك عن وجود نسبة كبيرة من الأردنيين من أصل فلسطيني، اكتسبوا هذه الجنسية من خلال وحدة الضفتين التي وقعت عام 1950 وانتهت رسميا عام 1988.

تفاجأ الأردن في الهجوم الذي أطلقته حركة حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وندد في البداية بقتل وأسر المدنيين الإسرائيليين، لكن الموقف بدأ يتغير مع بدء العدوان الإسرائيلي الواسع على القطاع وسقوط المزيد من الضحايا.

في المقابل كان الموقف الشعبي متقدما على الموقف الرسمي، حيث انطلقت المظاهرات المساندة لمعركة طوفان الأقصى بعد ساعات من اندلاعها، وشهدت عدة مدن أردنية خصوصا العاصمة تظاهرات حاشدة، فيما كانت هناك دعوات للتوجه للحدود.



بعد مجزرة مستشفى المعمداني في 17 تشرين الأول/ أكتوبر، اتجه الموقف الأردني نحو التصعيد السياسي، وفي الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر أعلنت عمّان استدعاء سفيرها من تل أبيب، وطلبت من تل أبيب عدم إعادة السفير الإسرائيلي الذي غادر المملكة سابقا.


أصبح موقف الأردن أكثر وضوحا، فهو يندد بالهجوم الإسرائيلي على القطاع، ويطالب بوقف العدوان وإيصال المساعدات، ويحذر من تفاقم الأوضاع واندلاع حرب شاملة.

وبعد حرب التجويع التي فرضها الاحتلال على شمال قطاع غزة، بادر الأردن بإنزال المساعدات الغذائية عبر الجو، وهي المبادرة التي تبعتها فيها دول كثيرة، كما دخلت مئات الشاحنات من المساعدات عن طريق الأردن إلى شمال القطاع.

وكان واضحا الاهتمام الأردني بالحرب على قطاع غزة على أعلى المستويات، حيث اقتصر الجهد الدبلوماسي للملك عبد الله الثاني ووزير الخارجية أيمن الصفدي طيلة الفترة الماضية على الوضع في غزة.

وكان الموقف الأردني حازما تجاه مسألة تهجير أهالي قطاع غزة معلنا أن ذلك خطا أحمر، وتجاه مسألة تواجد قوات أردنية أو عربية في القطاع، معلنا رفضه لتلك التوجهات على لسان وزير الخارجية في حزيران/ يونيو الماضي التي قال فيها: "لن ننظف وراء نتنياهو ولن نرسل قوات إلى قطاع غزة لتكون بديلا عن قوات الاحتلال الإسرائيلي".

في المقابل فقد ظل الموقف الأردني من حركة حماس على ما هو، حيث لم يجر أي اتصال سياسي مع الحركة، كما كان الموقف الأمني حازما تجاه أي محاولات لدعم المقاومة الفلسطينية وإيصال السلاح إليها. ويشار هنا إلى محاكمة عدد من الشباب في محكمة أمن الدولة بتهمة "تهريب أسلحة إلى الضفة الغربية".

كما أشارت تقارير عبرية إلى أن التعاون الأمني بين الأردن والاحتلال لم يتأثر طيلة تلك الفترة، كما أن الجيش الأردني ظل حريصا على استقرار وهدوء الحدود.

ورغم تساهل السلطات مع التظاهرات الشعبية الداعمة للمقاومة الفلسطينية، فإنها كانت تمنع، وأحيانا باستخدام القوة والعنف، التوجه إلى الحدود، والوصول إلى السفارة الإسرائيلية وسط العاصمة.

وبحسب مراقبين فإن الموقف الأردني الذي اتسم بالاشتباك السياسي المتصاعد مع حكومة نتنياهو، لم يذهب بعيدا في الإجراءات الفعلية على الأرض، واكتفى باستدعاء سفيره من تل أبيب، لكنه لم يقطع العلاقات مع "إسرائيل" ويطرد سفيرها كما فعلت دول في أمريكا اللاتينية.

كما أن عمّان، وبحسب مراقبين، سهلت وصول البضائع لـ"إسرائيل" عبر "جسر بري" يبدأ بالإمارات مرورا بالسعودية، وظلت حدودها مفتوحة، بعد أن أثرت ضربات الحوثيين باليمن على عمليات النقل البحري للاحتلال عبر البحر الأحمر.


كما سهلت تصدير الخضار والفواكه إلى الاحتلال، الذي كان يعاني شحا كبيرا فيها جراء توقف الزراعة في شمال فلسطين المحتلة نتيجة ضربات حزب الله، وتوقف التصدير من تركيا.

ورغم نفي السلطات الأردنية لوجود ذلك الجسر، إلا أن تقارير مصورة كثيرة وشهود عيان أثبتت وجوده، فيما منعت السلطات بالقوة اقتراب محتجين من الوصول إلى المعبر ومحاولة عرقلة الشاحنات المحملة بالبضائع من الدخول.



مصر: معبر رفح يكشف مواقف النظام
في مداخلة له في صالون هزاع الثقافي، في كانون الأول/ ديسمبر، أكد اللواء ممدوح الإمام مساعد مدير المخابرات الحربية المصري السابق أن مصر لن تتعاطف سياسيا أبدا مع ما يجري في غزة، وإنما ستتعاطف إنسانيا فقط.

ويبدو أن الموقف المصري تجاه ما يجري في غزة منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 يعكس تلك السياسة التي عبر عنها الإمام.

وبحسب مراقبين فقد عبرت مصر عن مواقف مختلفة وأحيانا متناقضة تجاه الأحداث في غزة، ففي حين أدانت العدوان الإسرائيلي وأدانت تجويع الفلسطينيين إلا أنها لم تفعل الكثير إزاء ذلك خصوصا وأنها تسيطر على معبر رفح.

بل إنها ذهبت إلى أبعد من ذلك حين استغلت مأساة أهالي غزة الذين كانوا يضطرون إلى المغادرة، حيث عملت شركة يملكها رجل أعمال مقرب من السلطات المصرية على تأمين الخروج مقابل رسوم مالية باهظة.

وبحسب تقارير فقد دخلت خزينة شركة هلا حوالي 185 مليون دولار منذ بدء العدوان على غزة وحتى آذار/ مارس الماضي من خلال عبور 37 ألف فلسطيني لمعبر رفح.

ورغم إصرار الجانب المصري أن المعبر مفتوح من الجانب المصري إلا أن صور تكدس مئات شاحنات المساعدات على معبر رفح من الجانب المصري شاهدة على الموقف الرسمي من المعبر، حيث يرى أنه لا بد من التنسيق مع الجانب الإسرائيلي لضمان أمان المساعدات.



واقتصر الدور المصري على استقبال الوفود الأجنبية والمشاركة في الوساطة بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين في غزة، ووقف إطلاق النار.

وظلت العلاقة بين مصر وحركة حماس والمقاومة الفلسطينية على ما هي عليه خلال معركة طوفان الأقصى، حيث ظلت مجرد ملف أمني، كما كان للإجراءات السابقة بتهجير أهالي رفح المصرية وإنشاء عازل دورا في تقليص قدرة أهالي سيناء على مساعدة أشقائهم على الجانب الفلسطيني في القطاع، خصوصا وأن بعض العشائر مقسومة قسمين أحد أفرعها في مصر والآخر في غزة.


وزاد الجيش المصري من رقابته على الحدود لمنع أي تسلل أو تهريب للسلاح لداخل القطاع، وكذلك لمنع أي هجرة جماعية للفلسطينيين تجاه سيناء.

ورغم سقوط شهداء من الجيش المصري جراء عمليات جيش الاحتلال في منطقة رفح من بينهم الجندي عبدالله رمضان عشرى، إلا أن سياسة ضبط النفس ظلت هي السائدة في الجانب المصري.



ومع احتلال القوات الإسرائيلية لمعبر رفح ومحور فيلادلفيا العازل بين مصر والقطاع بالكامل، انتقلت مصر إلى الداعين لانسحاب الاحتلال من هناك دون اتخاذ أي إجراءات عقابية برغم أن ذلك يعد خرقا لاتفاقية كامب ديفيد، بحسب مراقبين.

داخليا عملت السلطات المصرية على منع أي مظاهر للتعاطف والتضامن مع المقاومة الفلسطينية، وكان لافتا خلو مصر من أي تظاهرات تضامنية مع غزة طيلة الفترة الماضية، كما كان لافتا الهجوم الإعلامي بين فترة وأخرى من إعلاميين محسوبين على النظام المصري على المقاومة وحركة حماس، وذلك بالتزامن مع أي دعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي لمصر لفتح معبر رفح لإدخال المساعدات.

سوريا: موقف بارد غامض
تفاعل النظام السوري بفتور مع الحرب في غزة؛ حيث اكتفى بعد عملية "طوفان الأقصى" بإصدار بيان، ربط فيه بين عملية "طوفان الأقصى" وحرب تشرين.

توقع كثيرون أن تكون الساحة السورية خصوصا القريبة من الجولان المحتل هي الساحة الأكثر تفاعلا مع معركة طوفان الأقصى، نظرا لقربها من المواقع الإسرائيلية ووجود الفصائل المقربة من إيران وحزب الله وكذلك بعض الفصائل الفلسطينية المدعومة من النظام السوري هناك.

إلا أن الواقع يشير إلى أن تلك الجبهة هي الأضعف إذا ما قورنت بجبهة جنوب لبنان واليمن وحتى العراق.

و بحسب تقرير لمركز جسور للدراسات (مقرب من المعارضة السورية)، فقد انتهج النظام سياسة التجاهُل على المستوى السياسي؛ حيث لم يَقُمْ بشار الأسد منذ ذلك الحين بأي ظهور إعلامي، وينطبق الأمر ذاته على وزير الخارجية، الذي لم يُجرِ سوى عدّة تصريحات ولقاءات منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر،

وبحسب التقرير فإنه على المستوى الإعلامي، اكتفى النظام بتغطية الحرب، والتركيز على ما تقوم به إسرائيل من فظائع هناك، مع تجاهُل تامّ لحركة حماس، التي تتصدّر المشهد السياسي الفلسطيني خلال الحرب بشكل مطلق، في هذا السياق يُلاحظ غياب اسم "حماس" في وكالة "سانا" للأنباء الرسمية منذ أعوام.


لكن التغطية الإعلامية لوسائل الإعلام التابعة للنظام السوري تُميز بين حماس وكتائب القسام، حيث يتم ذكر اسم الكتائب، عبر وصفها بـ "كتائب القسام في المقاومة الفلسطينية" -مع أن "سانا" تتجنب ذكر الاسم ما أمكن- حيث لم يذكر منذ بداية كانون الثاني/ يناير 2024 -وحتى تاريخ إعداد هذا التقرير- سوى مرة واحدة. وهو ما ينسجم مع موقف النظام الذي اعتمده منذ سنوات، والذي يقوم على التمييز بين ما يصفه بـ "الجناح المقاوم" و"الجناح الإخواني" في حركة حماس.

على المستوى الداخلي عمل النظام منذ بداية الحرب على فرض رقابة أمنية شديدة على المخيمات الفلسطينية لمنع خروج المظاهرات الرافضة للحرب، كما لم تشهد المدن السورية أي مظاهرات مؤيدة للفلسطينيين، والتي اعتاد النظام على تنظيمها في مثل هذه المناسبات.

عملياً يتعلّق موقف النظام من حرب غزة أساساً بالموقف من حماس، فالنظام لا يملك أصلاً القدرة على القيام بأي عمل عدائي من الناحية العسكرية تجاه "إسرائيل"، ولا حتى على وَقْف الأعمال العدائية الإسرائيلية على أراضيه، كما أنه لم يَقُمْ حتى باستخدام الهوامش المتسامَح فيها دولياً، والتي استخدمها كل حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، من السماح بالمظاهرات.

وبحسب الباحث في الشؤون الإيرانية محمود البازي في مقال له في "الجزيرة نت"، فإن موقف سوريا من طوفان الأقصى والذي يميل إلى السكون، يشكِّل امتدادًا لمفاوضاتها غير المباشرة مع "إسرائيل" من خلال الوساطة التركية، في أيار/ أيار 2008، ورغبتها آنذاك في استرجاع الجولان دون الخوض في مواجهات عسكرية. ومع تطور الظروف، يبدو صمت سوريا الحالي بمنزلة مقدمة إستراتيجية لموقف جديد، يأخذ بالاعتبار التفاوض مستقبلًا مع "إسرائيل".

لبنان: معادلة داخلية معقدة
برغم المعادلة الداخلية المعقدة، إلا أن لبنان كان الساحة الأكثر اشتباكا مع معركة طوفان الأقصى، حيث بدأ حزب الله بعد يوم واحد فقط من انطلاق المعركة في إطلاق القذائف الصاروخية تجاه مواقع إسرائيلية قريبة من الحدود اللبنانية.

وقال حزب الله في بيان بأنّه "تضامناً مع المقاومة الفلسطينية المظفرة والشعب الفلسطيني المجاهد والصابر، قامت مجموعات الشهيد القائد عماد مغنية في المقاومة الإسلامية صباحاً بالهجوم على ثلاثة مواقع، هي موقع الرادار وزبدين ورويسات العلم، بأعداد كبيرة من القذائف المدفعية والصواريخ الموجّهة"، مدشنا بذلك ما قال إنه معركة إسناد للمقاومة الفلسطينية في غزة.



لكن موقف حزب الله لا يظهر الصورة كاملة في لبنان، فبحسب الكاتب اللبناني قاسم قصير في مجلة "الأمان" فإنه "في حين تجمع معظم الأطراف اللبنانية على دعم الشعب الفلسطيني وإدانة المجازر التي يرتكبها العدو الصهيوني بحق هذا الشعب، فإن بعض الأطراف وخصوصا حزب الله والجماعة الإسلامية وبعض الأطراف الوطنية تدعو للانخراط في هذه المعركة دفاعا عن لبنان وفلسطين مهما كانت التضحيات، وهناك أطراف أخرى تؤيد دعم المقاومة لكنها تحذر من تداعيات ذلك وخاصة الحزب التقدمي الاشتراكي والتيار الوطني الحر، في حين أن أطرافا أخرى ( القوات اللبنانية والكتائب وقوى المعارضة) تحذر من جر لبنان إلى معركة كبرى وتدعو لتحييد لبنان عن الصراع".

ولم تقتصر جبهة إسناد جنوب لبنان على حزب الله فقد شاركت الجماعة الإسلامية اللبنانية وكذلك كتائب القسام في لبنان في المعركة، وبالطبع ما كان هذا ليكون لولا الضوء الأخضر من حزب الله.


ومع رفض الاحتلال ربط ما يجري بغزة بما يجري بلبنان، فقد صعد من عدوانه تجاه حزب الله في محاولة لفك الارتباط بين جبهتي غزة وجنوب لبنان، ما أدى إلى اتساع المواجهة في المنطقة وصلت حد تنفيذ عمليات عدوانية واسعة ضد حزب الله فيما يعرف بتفجير أجهزة اتصال "البيجر" التي راح ضحيتها شهداء وآلاف الجرحى، وكذلك اغتيال قادة وحدة الرضوان عبر غارة عنيفة على عمارات سكنية في ضاحية بيروت أسفرت عن استشهاد أكثر من 50 شخصا بينهم نساء وأطفال، واغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله، ما حدا بحزب الله لتوسيع نطاق هجماته لتصل مدينة حيفا المحتلة، وفتح ما وصفه بمعركة "الحساب المفتوح".



مقالات مشابهة

  • العالم يتخلى عن منظمة التجارة العالمية.. وأمريكا والصين تقودان المسار
  • ‏الصين تشكو تركيا في منظمة التجارة العالمية بسبب رسوم السيارات الكهربائية
  • منظمة التجارة العالمية: استثمارات الإمارات الراهنة تصنع الفارق في مستقبل الاقتصاد
  • الأقصر: زيادة في الرحلات السياحية من فرنسا وإسبانيا والصين وعودة الإنجليز
  • كيف أصدر القضاة حكماً في قضية دون قانون أو قواعد منظمة
  • كيف ستغير الانتخابات الأمريكية خريطة الصحة العالمية
  • لتعديل المسار.. موعد مباراة البرازيل وتشيلي والقنوات الناقلة في تصفيات كأس العالم
  • أبرز الأدوار التي لعبتها دول الطوق منذ طوفان الأقصى.. هل طوقت الاحتلال أم المقاومة؟
  •  غزة: عام من الإبادة الجماعية وانهيار النظام العالمي