في سنة 1970 توقّع الفيلسوف ومُنظّر الإعلام الكندي مارشال ماكلوهان أن الحرب العالمية الثالثة ستكون "حرب عصابات معلوماتية" لا تُفرّق بين المدنيين والعسكريين. بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً، شرح الباحثان الأمريكيان جون أركويلا وديفيد رونفيلد في كتابهما "ظهور حروب الشبكات: مستقبل الإرهاب والجريمة والنزعة العسكرية" كيف أصبحت الصراعات الحديثة تعتمد بتزايد على المعلومات والتأثير على الإدراك العام.

ويؤكد الباحثان أن المعارك اليوم تدور حول المعرفة وقوة المعلومات، وأن العمليات الإعلامية لا تستهدف تحقيق أهداف عسكرية وحسب، بل إلى التأثير على مشاعر المجتمع وتصوراته أيضاً، باستخدام المعلومات وسيلةً لجذب الناس أو تضليلهم عوضاً عن اللجوء إلى الإكراه المباشر. أي، يسعى الفاعلون في هذه الحروب إلى زعزعة استقرار الخصوم نفسياً أكثر من السعي لتدميرهم مادياً. يمكن القول إن هذه الاستراتيجية أصبحت أوضحَ اليوم، خصوصاً مع استخدام المعلومات أداةً للتأثير على سلوكيات الأفراد والمجتمعات.

تبدو هذه الملاحظات ثاقبة اليوم، خاصةً عندما نرى كيف تستخدم الجهات الفاعلة المعلومات سلاحاً للتأثير على السلوك السياسي والاقتصادي والاجتماعي. في زمننا الحالي، تشتعل مناطق مختلفة من العالم بالحروب والنزاعات، فنجد الحرب في سوريا والتي تُوصَف بأنها الحرب الحديثة "الأكثر توثيقاً"، والحرب في أوكرانيا التي تُسمى "حرب تيك توك الأولى"، بينما نجد الحرب الإسرائيلية في غزة أقل اشتعالاً، في تجسيد لمختلف أشكال "التأثير" في سياقٍ واحد.

تسليح المعلومات لاجتذاب النفوذ ليس ظاهرة جديدة، بل هو مخطط طويل الأمد استخدمته القوى على مر العصور. وقد أصبحت إسرائيل اليوم من بين أبرز اللاعبين في هذا المجال، فطوّرت استراتيجيات حديثة لإدارة الإدراك وتوجيه الرأي العام عبر وسائل الإعلام الرقمية والشبكات الاجتماعية. فليس الهدف تحقيق انتصارات عسكرية فقط، بل التأثير على العقول وتشكيل التصورات لتحقيق أهداف سياسية واستراتيجية دون اللجوء إلى القوة المباشرة.

تستند مبادئ حرب النفوذ إلى حكمةٍ قديمة يُنسب أصلها إلى الجنرال الصيني والمنظّر العسكري صن تزو، الذي أعيدت صياغة مقولته: "ليس أعلى المهارات أن تحقّق مئة انتصار في مئة معركة. إن إخضاع العدو دون قتال هو أعلى المهارات". فهم المغول هذه المقولة جيداً، فعندما غزوا مناطق واسعة من العالم القديم في القرن الثالث عشر نشروا عمداً أخبار الفظائع التي ارتكبوها في المدن التي لم تستسلم، لإخضاع العدو قبل إشهار السيف. وفي هذا الصدد، يشير المؤرخ البريطاني مارك جالوتي أن الخوف عاطفة قوية تتفوق على غيرها، واستخدمها المغول لإرغام المدن على الاستسلام وتجنب الإنفاق على الحروب المباشرة. وبعد ثمانية قرون، استعارت إسرائيل هذا المنهج فألقت مسيّراتها في الضفة الغربية منشورات ورقية تحمل رسائل تحذّر السكان: "نحن في وقت حرب، أنا بنصحكم أن تديروا بالكم على حالكم وعلى أولادكم. كل واحد بفكر يعمل شيء نحن بنوصله، وإذا لزم الأمر نقتله".

شهد القرن السابق جهود تسليح المعلومات لأغراض استراتيجية، ففي الحرب الأهلية الصينية (1945-1949) استخدم الجيشان الشيوعي والقومي (الكومينتانغ) المعلومات الكاذبة لزرع الفتنة في المناطق التي يسيطر عليها العدو. فانتشرت شائعات الانشقاقات وتزوير خطط الهجوم لتضليل الخصوم وإثارة الاضطرابات. وبعد انتقال الحكومة القومية إلى تايوان سنة 1949، استمرت هذه الجهود فأغرق كل طرف أراضي خصمه بالدعاية والمعلومات المضللة، سعياً للتأثير على الرأي العام ومعنويات القوات.

كانت أشكال مختلفة من "حرب التأثير" جزءاً رئيسياً من الحربين العالميتين. على سبيل المثال، في الحرب العالمية الأولى، أنشأ الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون "لجنة المعلومات العامة" لتسهيل الاتصالات، فصارتْ منظمةَ دعاية عالمية لصالح الولايات المتحدة. وفي الحرب العالمية الثانية، استخدمتْ الأطرافُ المتحاربةُ الدعايةَ والتضليلَ والوثائقَ المزورةَ للتأثير على الرأي العام وتوجيه مسار الحرب. لم يكن تزوير الوثائق حكراً على فترة معينة، فقد استمرت هذه العمليات حتى الحرب الباردة. ففي عشرينيات القرن العشرين، زوّرت الشرطة السرية في تشيكوسلوفاكيا وثائق معقدة لإغراء مناهضي البلاشفة من الشيوعيين الروس للخروج من مخابئهم، ما أدى إلى القبض على العديد منهم وقتلهم.

أثناء الحرب الباردة، انتشرت وثائق حكومية أمريكية بدت أصلية ولكنها كانت مزيفة، وكانت إما نُسخاً معدَّلة أو مشوّهة من وثائق حقيقية حصل عليها السوفييت من عمليات تجسس، وإما وثائق مفبركة بالكامل. حاول السوفييتُ بهذه العملياتِ الإعلاميةِ التأثيرَ على جماهير مختلفة. قد تكون تلك الدروس من التاريخ بنجاحاتها وإخفاقاتها مفيدة لحملات "حرب التأثير" اليوم.

يبدو أن الإسرائيليين قرأوا هذه الدروس بتمعن وطبّقوها في هذه الحرب بحملة منسقة قادها جهاز "الهاسبارا"، الذي نشر وضخّم ادعاءاتٍ عن توظيف وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) عناصرَ من حماس، وهي ادعاءات نفتها الوكالة بشدة، ونفاها أيضاً "تقرير كولونا" الصادر عن الأمم المتحدة. أثّرت هذه الحملة مباشرة على ملايين اللاجئين الفلسطينيين، إذ أوقفت أكبر الدول المانحة تمويلاتها بسبب الادعاء. ومع تراجع بعض الممولين عن قرارهم فيما بعد، جدّدت إسرائيل حملتها بشراء إعلانات على محرك البحث غوغل، تروّج لموقع حكومي إسرائيلي يربط الأونروا بحماس، ويظهر عند البحث عن اسم الوكالة أو مصطلحات ذات صلة، وهو ماكشفته مجلة وايرد الأمريكية.

يشير مصطلح "حرب المعلومات" في العقيدة العسكرية إلى الهجمات على الشبكات الحاسوبية، مثل اختراق قواعد البيانات لمراقبتها أو سرقة المعلومات أو تعطيل القدرات التقنية للهدف أو إضعاف استعداده العسكري. غير أن "حرب المعلومات" تمتد لتشمل عمليات أخرى تهدف إلى إرسال رسائل، مثل كشف نقاط ضعف الخصوم أو استعراض قدرات المهاجم، لتؤثر على تصورات الشعوب الأخرى.

الهجماتُ الإلكترونيةُ تهديداتٌ أمنيةٌ مركّبةٌ لأنها يمكن تؤثر على أبعاد مختلفة لرفاهية الدولة، بما في ذلك السياسة والاقتصاد والتقنية وأمن المعلومات، إلى جانب العلاقات مع الدول الأخرى. ولهذا، فالهجمات الرقمية اليوم جزءٌ من "حرب التأثير"، التي تهدف إلى إضعاف التماسك المجتمعي وتقويض الثقة في الأنظمة السياسية وإرباك التحالفات الدولية.

تستخدم هجمات التأثير الرقمي مخططات مختلفة، من الخداع والاستفزاز إلى التلاعب بالرأي العام في منصات التواصل الاجتماعي. بوسائل الإنترنت، يمكن للمهاجمين التواصل مباشرة مع مواطني دولة مستهدفة وتجاوز جهود حكومتها لمنع وصول المعلومات المضللة إليهم. هذه الهجمات تعتمد على نقاط الضعف البشرية أكثر من الهجمات التقنية التقليدية، وتستغل المشاعر مثل الخوف وعدم اليقين والتحيزات المعرفية.

توصف هذه الهجمات بمجموعة متنوعة من المصطلحات، مما يؤدي في بعض الأحيان إلى الإرباك بدلاً من التوضيح. استخدم الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان مصطلح "الحرب السياسية" سنة 1948 ليصف "استخدام جميع الوسائل تحت قيادة الأمة، باستثناء الحرب، لتحقيق أهدافها الوطنية". يصف الباحث بول أ. سميث الحرب السياسية بأنها "استخدام الوسائل السياسية لإجبار الخصم على تنفيذ إرادة خصمه. ويتمثل جانبها الرئيسي في استخدام الكلمات والصور والأفكار، والمعروفة بالدعاية والحرب النفسية". ويلاحظ كارنز لورد "ميلاً إلى استخدام مصطلحي الحرب النفسية والحرب السياسية بالتبادل" جنباً إلى جنب مع "مجموعة متنوعة من المصطلحات المتشابهة، مثل الحرب الإيديولوجية، وحرب الأفكار، والاتصال السياسي".

اعتمدت وزارة الدفاع الأمريكية مصطلح "عمليات دعم المعلومات العسكرية" لوصف الجهود الرامية إلى "نقل المعلومات والمؤشرات المختارة إلى الجماهير الأجنبية للتأثير على عواطفهم ودوافعهم ومنطقهم، وفي النهاية سلوك الحكومات والمنظمات والمجموعات والأفراد الأجانب بطريقة مواتية لأهداف المُنشئ".

يُوضح الباحثان دييغو أ. مارتن وجاكوب ن. شابيرو في تقرير بحثي صدر سنة 2019 عن جامعة برنستون كيف "تستخدم الجهات الفاعلة الأجنبية الإنترنت عموماً ووسائل التواصل الاجتماعي خصوصاً للتأثير على السياسة في مجموعة من البلدان من خلال الترويج للدعاية، والدعوة إلى وجهات نظر مثيرة للجدل، ونشر المعلومات المضللة". يُعرّف الباحثون جهود التأثير الأجنبي على أنها "حملات منسقة من قبل دولة واحدة للتأثير على جانبٍ أو أكثر من جوانب السياسة في دولة أخرى، عبر وسائل الإعلام، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، وإنتاج محتوى مصمم ليبدو أصليًا للدولة المستهدفة". يمكن أن يكون هدف مثل هذه الحملات واسع النطاق، ويشمل التأثير على القرارات السياسية على مستويات مختلفة، وقلب التوجهات السياسية في مواضيع متنوعة وتشجيع الاستقطاب.

يتجلى ذلك في مثال الإعلان الذي ظهر على تطبيق "تيندر" في لبنان، والذي وجّه رسالة تهديد مباشرة: "لا تحملوا السلاح ضد الولايات المتحدة أو شركائها. ستحمي أمريكا شركاءها في مواجهة التهديدات من النظام الإيراني ووكلائه"، محذّراً من أن الولايات المتحدة مستعدة لنشر طائراتها المقاتلة من طراز إف-16 وإيه-10 لحماية حلفائها.

سواءً سمّيَ ذلك "حرب التأثير" أو أي مصطلح آخر، نجد أنفسنا أمام أمثلة واضحة على الهجمات والمهاجمين والأهداف والمدافعين والاستراتيجيات التي تُستخدم. تعني "حرب التأثير" الأنشطة التي لا تُركّز فقط على المعلومات، بل على الغايات والأهداف التي تسعى تلك المعلومات لتحقيقها. تنظر هذه الحرب إلى نشر الدعاية والمعلومات المضللة وما يشابهها على أنها أدوات تشكيل التصورات والتأثير على سلوكيات محددة، سواء كان الهدف أفراداً أو جماعات بأكملها.

في الوقت نفسه، تتجاوز استراتيجيات ومخططات "حرب التأثير" مجرد التلاعب بالمعلومات، لتشمل إشارات تُحرّض على سلوكيات معينة، كما رأينا في استخدام المسيّرات ورسائلها الصوتية في غزة والضفة الغربية. يمكن أن تشمل أهداف حملات التأثير تلك استفزاز الهدف لدفعه للاستجابة عاطفياً بدلاً من استخدام التفكير العقلاني. ويتجلى هذا التوجه في حملة استخدمتها وكالة "الموساد"، على حساب فيسبوك موثّق، كان شعار الحملة "نحن هنا للاستماع" واستهدفت المستخدمين في لبنان داعيةً إياهم للانضمام إلى الوكالة وتقديم المعلومات مقابل مكافآتٍ مغرية.

تغيّرت البيئة التشغيلية لحروب التأثير كثيراً في العقدين الماضيين. وساهم صعود شركات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تعتمد على زيادة الوقت الذي يقضيه المستخدمون فيها، في خلق احتمالات وفرص جديدة. هدف المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي جذبُ انتباه المستخدمين ودفعهم للمشاركة بغض النظر عن كون المحتوى صحيحاً أم مضللاً. ورغم سهولة الاتصال الرقمي، يظهر للمستخدمين الأفكار المتوافقة مع آرائهم فقط ما يعزّز شعورهم بأنها الحقيقة المطلقة ويعزلهم عن تقبّل الأفكار المخالفة.

على عكس الهجمات السيبرانية التقليدية التي تركّز على تعطيل أنظمة العدو الحاسوبية أو إتلافها، تسعى حملات التأثير الرقمية إلى استغلال هذه الأنظمة بطرق تخدم أهداف المهاجم. بدلاً من تدمير الأنظمة، تهدف هذه الحملات إلى التأثير على الأفراد أو الجماعات المستهدفة، ودفعهم لاستخدام أنظمتهم بأسلوب يحقق أهداف المهاجم. غالباً تقوم الاستراتيجيات الأساسية لهذه الحملات على مبدأ "فرّق تسد"، إذ إن المجتمع المنقسم سيقاتل بعضه بعضاً على العديد من المسائل، بدل أن يتوحّد في مواجهة تهديد لا يعتقد الكثير وجودَه. تستهدف هذه الأنشطة التأثير على تصورات المجتمع واختياراته وسلوكياته، وفي بعض الحالات، تسعى إلى إحداث اضطراب شامل داخل الهدف.

هذه الحملات أكثر من مجرد دعاية أو أخبار كاذبة أو حتى تلاعب بالإدراك. بل هي معركة معقّدة التكاليف، تدور حول ما يعتقد الناس أنه "الواقع" والقرارات التي يتخذها الأفراد بناءً على هذه المعتقدات. يربح في هذه الحرب المهاجمون الذين ينجحون في إقناع عشرات الآلاف من الضحايا باتخاذ قرارات تخدم مصالح المهاجمين مباشرة.

وجدت إسرائيل في المجتمع اللبناني بيئة مثالية لتطبيق هذا النهج، حيث يعاني المجتمع من انقسامات واستقطابات عميقة كانت موجودة حتى قبل اندلاع الحرب. وفي ظل الأزمات الاقتصادية المتعاقبة، تجمّعت كل عناصر الفوضى التي يمكن أن يستغلها المهاجمون. ففي 29 مايو الماضي، كشفت شركة ميتا عن إغلاق شبكة إسرائيلية تديرها شركة استخبارات تجارية مقرها تل أبيب، وتُعرف باسم "ستويك". تتكون الشبكة من خمسمئة وعشرة حسابات على فيسبوك، واثنين وثلاثين حساباً على إنستغرام، وإحدى عشرة صفحة ومجموعة واحدة. تستخدم هذه الشبكة المخطط المعروف بشراء المتابعين الوهميين من شركاتٍ ومزارع محتوى في فيتنام، وتهدف إلى التلاعب بالنقاشات العامة في لبنان عن الحرب الإسرائيلية في غزة وجنوب لبنان. وقد كانت وراء حملة "لبنان_لا_يريد_الحرب" التي أثارت جدلاً واسعاً في المجتمع اللبناني، حيث انقسم الناس إلى مؤيد ومعارض ومستهزئ.

يهدف المهاجمون في مثل هذه الحملات إلى تحقيق غايات محددة، كما أوضحت مؤسسة راند البحثية. يتمثل الهدف الرئيسي في جعل الهدف المستهدف يتصرف بطريقة مواتية للمهاجم. قد يسعى المهاجم إلى تعطيل تدفق المعلومات بين المصادر والمتلقين داخل بيئة الهدف. يمكن أن تشمل هذه العمليات مقاطعة الاتصالات بين الحكومة ومواطنيها، كما في الحملات التي استهدفت لبنان. وقد يسعى المهاجم إلى إغراق قنوات الاتصال بالمعلومات الزائفة أو المضللة، مما يهدف إلى تقويض المصداقية والموثوقية بين أعضاء المجتمع.

تنظمُ حملات التأثير الرقمي أسراباً من الحسابات الآلية "البوتات"، جنباً إلى جنب مع الحسابات الحقيقية، للتنسيق وتضخيم رواية معينة أو مهاجمة هدف محدد. كشف بحث أعدته شركة "إنفلوانسرز" اللبنانية بالتعاون مع الجزيرة الإنجليزية عن أن نسبة كبيرة من الحسابات التي تضخم الرواية الإسرائيلية للأحداث هي في الواقع آليات مدعومة بالذكاء الاصطناعي، تعمل على تعزيز هذه الرواية باتساق.

يعتمد نجاح هذه الحملات على الأهداف التي يحددها المهاجمون، بما في ذلك كيف ينظر الأفراد في المجتمع المستهدف إلى واقعهم أو إلى مكانهم في هذا العالم. يستهدف المهاجمون تصوراتِ الناس عن ما يعتقدون أنهم يعرفونه وما يشكّكون فيه وما هي الافتراضات التي عندهم. إضافةً إلى ذلك، يركّز المهاجمون على الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي قد تثير ردود فعل عاطفية قوية. تاريخياً، كان من السهل نسبياً تحديد هذه المعلومات في المجتمعات الديمقراطية الليبرالية المفتوحة، بينما في المجتمعات الأكثر انغلاقاً، يحتاج المهاجمون إلى بذل جهد إضافي لفهم كيفية مقارنة تصورات الجمهور المستهدف بالخطاب العام الذي تروج له وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية.

الخداع ليس سوى واحدة من العديد من استراتيجيات "حرب التأثير". هناك استراتيجيات أخرى، تُستخدم بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، خاصةً في الحملة التي أطلقتها شركة "ستويك" على منصات شركة ميتا التي تملك فيسبوك وانستغرام. من بين هذه الاستراتيجيات تشجيع التفاعل العاطفي، حيث تُقدَّم معلومات قد تكون دقيقة أو جزئية لإثارة استجابة الجماهير العاطفية، دون تركيز كبير على مدى صحة هذه المعلومات. خلافاً للتضليل والخداع المباشر، فإن هذا النوع من الحملات يركز على إثارة التفاعل العاطفي وتحفيز الجمهور على نشر هذه المعلومات وتضخيمها.

هذه الاستراتيجيات فعالة جداً مع الأشخاص الذين لديهم شكوك أو حالة من عدم اليقين عن ما هو صحيح أو غير صحيح، لكنهم على استعداد لنشر المعلومات دون التحقق من دقتها. غالباً تستهدف هذه الحملات المجموعات التي لديها تحيزات مسبقة أو مواقف متباينة، مما يجعل مخططات "إثارة الغضب" أكثر فعالية. وكما قال صن تزو: "استخدم الغضب لإرباكهم". بالاستهداف المناسب وتنسيق الرسالة بفعالية، يحفز المؤثرُ الجمهورَ على الاستجابة بطرق معينة، كما حدث في حملة "#لبنان_لا_يريد_الحرب".

يأتي النوع الآخر من حرب التأثير باستهداف الأهداف مباشرة، سواء بالتشويه أو التهديد. ظهر هذا في حملتي الإعلانات على تطبيق "تيندر" في لبنان، وفي الإعلانات التي شوهت سمعة الأونروا في محرك البحث غوغل. تسعى هذه الحملات إلى مهاجمة الهدف صراحةً ودفعه لاتخاذ ردود فعل معينة.

لم تختلف الاستراتيجيات والأدوات الأساسية لحرب التأثير على مر العصور، لكنها تطورت لتشمل بعداً رقمياً جديداً وقوياً. بتوظيف كميات هائلة من بيانات مستخدمي الإنترنت، بما في ذلك ملفات تعريف الارتباط وأنماط السلوك عبر الإنترنت، أصبحت حملات التأثير الرقمي وسيلة فعالة جداً للتلاعب بالآراء وتوجيه السلوكيات. تُظهر هذه الأدوات أن الجهات الفاعلة الأجنبية والمحلية ستواصل استخدام المزيد من استراتيجيات ومخططات حرب التأثير الرقمي للتلاعب بإدراكاتنا بطرق قد تؤثر علينا دون أن نعي ذلك.

وفقاً لتقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) سنة 2018، يكمن الخطر المستقبلي في أننا قد نواجه "سباق تسلح ضد المعلومات المضللة"، محلياً ودولياً، من الأخبار المزيفة والمعلومات المشوهة التي تلوث بيئة المعلومات للجميع.

توضّح الحملة الإسرائيلية أن حرب التأثير لم تعد بحاجة إلى عمليات معقدة على الأرض. إذ يُظهر حادث مثل احتجاز المواطن اللبناني طلال عامر، الذي أوقفته مسيّرة في سيارته وعملت مسحاً ضوئياً له وللسيارة، كيف يمكن للتقنيات الحديثة أن تستخدم لزرع الرعب وإيصال الرسائل. مع استمرار تطور هذه الأدوات، قد لا يحتاج المهاجمون مستقبلاً لأكثر من ضغطة زر لشن حملات تأثير رقمية واسعة النطاق تستهدف مجتمعات بأكملها وتؤثر على قراراتها وسلوكياتها.

المصدر مجلة الفراتش

 

المصدر: مأرب برس

إقرأ أيضاً:

عام من حرب إسرائيل على غزة.. المحتوى الرقمي الفلسطيني يكسر القيود ويربح مساحات

بعد مضي نحو عام من حرب إسرائيل على غزة، نجح المحتوى الرقمي الفلسطيني في كسر القيود وربح مساحات أوسع في منصات التواصل الاجتماعي لنشر تفاصيل تلك المظلمة التاريخية.

ومع هذا المستجد، وصل وقع القضية الفلسطينية إلى فئات عديدة، سواء داخل العالم العربي والإسلامي أو الغربي، رغم ضغوط إسرائيلية تقيد المحتوي الرقمي الفلسطيني.

وحسب خبير مغربي، في حديث للأناضول، فإن منصات التواصل جعلت الفرد يعيش حالة الفلسطينيين دون أن يكون في مكانهم ويعيش مآسيهم، وساهمت في حرية التعبير بالدول التي تقيد المظاهرات.

لكن رغم أهمية هذه المنصات، فإن "الخوارزميات تحد من انتشار المحتوى الفلسطيني"، وفق باحث متخصص استدرك بأن الأفراد وجدوا تقنيات لتفادي الحظر، وبالتالي المحافظة على انتشار المحتوى في ظل استمرار الإبادة.

وبدعم أميركي، أسفرت الإبادة التي ترتكبها إسرائيل بغزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 عن أكثر من 138 ألف قتيل وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة أودت بحياة عشرات الأطفال، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.

تفاعل رقمي

الخبير المتخصص بالإعلام والتواصل عبد الحكيم أحمين، قال لوكالة الأناضول إن "جميع الفئات العمرية شاركت في التفاعل الرقمي مع (عملية) طوفان الأقصى".

وفي السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، نفذت "حماس" عملية "طوفان الأقصى" بمهاجمة قواعد عسكرية ومستوطنات بمحاذاة غزة، حيث قتلت وأسرت إسرائيليين؛ ردا على "جرائم الاحتلال اليومية بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته، ولاسيما المسجد الأقصى".

وشدد أحمين على "أهمية منصات التواصل الاجتماعي، والتي دفعت العديد من الفئات في الغرب إلى الخروج في مظاهرات، مثل طلاب الجامعات الغربية".

وأشار إلى "مشاركة الفنانين والممثلين والرياضيين والمثقفين، سواء في العالم العربي أو الغربي، في التفاعل الرقمي".

وبخصوص الداخل الفلسطيني، قال أحمين إن "انخراط الأجيال الجديدة كان واضحا".

وأضاف أن هذا الانخراط "جعل إسرائيل تضيق وتستهدف مشاهير منصات التواصل وأصحاب القنوات في يوتيوب والصحفيين الذين ينقلون البث المباشر من غزة".

وفي استهانة بالمجتمع الدولي، تواصل تل أبيب هجماتها في غزة، متجاهلة قرار مجلس الأمن الدولي بإنهائها فورا، وأوامر محكمة العدل الدولية باتخاذ تدابير لمنع أعمال الإبادة الجماعية وتحسين الوضع الإنساني المزري بالقطاع.

أدوات نشر شخصية

ووفق الباحث في المجال التقني حسن خرجوج، فإن "منصات التواصل كان لها دور كبير في التعريف بالقضية في ظل التطور التكنولوجي، والتجاوز الذي طال الإعلام التقليدي من جريدة وراديو وتلفاز".

وتابع خرجوج، أن "كل مواطن يملك أدوات للنشر عبر الهاتف، لذلك فإن منصات التواصل ساهمت في انتشار المعلومة المرتبطة بالقضية بشكل كبير".

وأوضح أن "مقاطع الفيديو تنتشر بشكل كبير في مختلف مناطق العالم، بشكل آني وسريع".

وأردف أن "جيل زد" (Z Generation) بدأ يتابع القضية، وأصبح يتفاعل بشكل كبير ويشارك المحتوى ويتعاطف معه.

و"جيل زد" هم مواليد من أواخر التسعينيات أو من عام 2000 إلى منتصف العقد الأول من القرن الـ21، في حين أن جيل "ألفا" هو الذي رأى النور منذ 2010 إلى 2020.

وإذا كان الجيل الأول نشأ في ظل بيئة إعلامية تقليدية بموازاة بيئة رقمية، فإن الجيل الثاني وجد نفسه في خضم الثورة الرقمية.

وقال خرجوج إن "المحتوى الرقمي له أثر كبير على مستوى الانتشار، والأجيال الحالية تعيش الفترة الذهبية من حيث سرعة انتشار المعلومات، خاصة بمنصات التواصل الاجتماعي".

وأكد أن "القصص المصورة يكون لها أثر كبير وتنتشر بشكل سريع عن طريق العدوى (انتشار سريع جدا).. والأجيال الحالية تتأثر بخصوص ما يقع بغزة".

وحوّلت إسرائيل قطاع غزة إلى أكبر سجن في العالم، إذ تحاصره للعام الـ18، وأجبرت الإبادة الجماعية نحو مليونين من مواطنيه البالغ عددهم حوالي 2.3 مليون فلسطيني، على النزوح في أوضاع كارثية، مع شح شديد ومتعمد في الغذاء والماء والدواء.

ذوبان الحدود

بدوره، أشاد أحمين بالدور البارز الذي يقوم به "جيل زد" سواء على المستوى الرقمي أو الواقعي، خاصة أنه قاد في وقت سابق احتجاجات في حي الشيخ جراح بمدينة القدس الشرقية المحتلة.

وتخشى عشرات العائلات الفلسطينية في حي الشيخ جراح من طرد وشيك لها من منازلها التي عاشت فيها منذ عام 1956، لصالح مستوطنين إسرائيليين.

وزاد أحمين "حاليا الكل منخرط في العالم الرقمي، بما فيها الفئات العمرية الأخرى، خاصة أن الأجيال السابقة عاشت فترة الفضائيات والقنوات الإعلامية، ثم انخرطت في المنصات الرقمية".

الخبير المتخصص بالإعلام والتواصل عبد الحكيم أحمين: انخراط الأجيال الجديدة كان واضحا (الجزيرة)

وأضاف أن "الانتشار الواسع للمنصات الرقمية جعل الحدود تذوب بين المناطق والأجيال، وتجد كبار السن منخرطين إلى جانب الأجيال الشابة".

و"المنصات الرقمية جعلت الفرد يعيش حالة الفلسطينيين دون أن يكون في مكان الحادث، ويعيش مآسيهم، وما يتعرضون له"، حسب أحمين.

تقييد الخوارزميات

غير أن خوارزميات المنصات الرقمية، وفق خرجوج، تحد من انتشار المحتوى الرقمي الفلسطيني "الذي يخضع لرقابة بشكل كبير".

واستدرك "الأفراد وجدوا تقنيات لتفادي حذف الخوارزميات هذا المحتوى، وبالتالي المحافظة على انتشاره".

وحسب مركز "صدى سوشال" (أهلي) عبر تقرير في مايو/أيار الماضي، ارتكبت منصات التواصل أكثر من 5450 انتهاكا للمحتوى الرقمي الفلسطيني خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2024.

وأفاد بأن 32% من إجمالي هذه الانتهاكات كانت في إنستغرام، و26% في فيسبوك، و16% في واتساب، و14% على "تيك توك"، فيما بلغ حجم الانتهاكات في "إكس" 12%.

وانتقد أحمين بعض الدول المطبعة (لم يحددها) التي فرضت على شبابها عدم التعبير في منصات التواصل الاجتماعي، وفرضت ما أسماه "قمعا اتصاليا" على شبابها.

بينما "الدول الغربية التي تدعم الاحتلال الإسرائيلي سياسيا ودبلوماسيا وعسكريا سمحت لجماهيرها وشبابها التعبير عن آرائهم بشكل واضح"، كما أضاف.

وحسب أحمين، فإن "بعض الدول مارست نوعا من التضييق الرقمي في البداية، خاصة فرنسا وألمانيا، وتراجعت بعد ذلك، بفعل الزخم الشعبي القوي الذي عبَّر عن تعاطفه مع الشعب الفلسطيني".

ولفت إلى أن "فئات من العرب والمسلمين شاركوا على المستوى الواقعي والافتراضي ما يتعرض له الشعب الفلسطيني، عبر المنصات الرقمية، خاصة المقيمين بالغرب، والذين كان لهم دور كبير في كسر القيود والخوف".

وشدد في الوقت نفسه على أن "بعض الدول بالمنطقة ما تزال تفرض قبضة حديدية على حرية التعبير".

وأكد أن "المتابعة الرقمية كان لها فوائد عديدة، وجعلت الفئات الصغيرة والشابة تتعرف على القضية الفلسطينية لأول مرة".

و"بعض الدول الأخرى تساند الفلسطينيين دبلوماسيا وإعلاميا، لكنها فرضت على شعبها عدم الخروج في مظاهرات، لكنهم استغلوا مواقع التواصل الاجتماعي للتعبير عن تضامنهم مع الشعب الفلسطيني"، كما ختم أحمين.

مقالات مشابهة

  • المملكة ومصر تعززان شراكتهما التقنية والاستثمارية لدعم نمو الاقتصاد الرقمي
  • لإماراتيون هياكلوا فول وطعمية.. لماذا يرى ساويرس أن رأس الحكمة تغير قواعد اللعبة؟
  • «أبوظبي للتنمية» يموّل مشروع التحول الرقمي لوزارة الصحة الأردنية
  • إسرائيل تكشف عدد عمليات الإطلاق التي حاولت استهدافها على مدار عام من الحرب
  • «الفاو»: 8% نسبة خسارة الدخل سنويا للأسر التي تعولها النساء بسبب تغير المناخ
  • البحرية الأمريكية: تكتيكات الحوثيين غيرت قواعد الحرب في البحر الأحمر
  • عام من حرب إسرائيل على غزة.. المحتوى الرقمي الفلسطيني يكسر القيود ويربح مساحات
  • حرب 6 أكتوبر 1973.. ملحمة وطنية أرست قواعد الوحدة بين أطياف الشعب المصري
  • سيغير قواعد اللعبة.. نجيب ساويرس يوضح رأيه في مشروع رأس الحكمة