كتب / أبو زين ناصر الوليدي:
كان معظم العرب قبل الإسلام يعبدون الأصنام ويسجدون للأحجار والأوثان إلا أن بعضهم كانوا أهل كتاب وبالأخص كانوا مسيحيين، فقد فشت المسيحية في أجزاء من بلاد العرب، وكانت المسيحية كثيرة في اليمن حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين أرسله إلى اليمن: إنك تأتي قوما أهل كتاب.
متفق عليه من حديث ابن عباس
ولا يعني هذا أن أكثر اليمن مسيحية بل على العكس فقد كانت لهم أصنامهم الكثيرة ومنها ذو الخلصة الذي كانت تعبده قبيلة دوس وغيرها.
أما منطقة دثينة فقد كانت بلاد مسيحية كما أكد ذلك أهلها لعكرمة ابن أبي جهل ومن معه..
تاريخ ابن جرير(٣/ ٣٢٧) .
والقول بأن دثينة كانت على المسيحية يؤكده المؤرخ المصري عمر بن زين العابدين وكذلك الأب المسيحي المصري (سهيل قاشا)
انظر كتاب( صفحات من تاريخ المسيحيين العرب قبل الإسلام) ص١٢٨ .
*إسلام دثينة*
عندما فشا ذكر الإسلام في الجزيرة العربية سارع رجالات من دثينة بالسفر إلى المدينة المنورة ولقاء النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك قبل فتح مكة فأسلموا وشاركوا في فتح مكة، وكان حامل راية دثينة يوم فتح مكة هو الصحابي أرطأة بن كعب النخعي رضي الله عنه.
( طبقات ابن سعد : ١/ ٣٤٦) .
وفي السنة التاسعة للهجرة هبط معاذ بن جبل دثينة قادما من الشحر،
فقد أخبر جابر النخعي عن خالته أم جهيش قالت : ( بينما نحن بدثينة… إذ قيل هذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافينا القرية….. ) إلخ
سير الذهبي(١/ ٤٤٤) .
وقد ذكرت التابعية الجليلة أنيسة النخعية قدوم معاذ بن جبل ثم ذكرت خطبته فيهم فقالت: قال لنا معاذ: أنا رسول رسول الله إليكم.. صلوا خمسا وصوموا شهرا وحجوا البيت.. وكان عمره ٢٨ سنة.
أسد الغابة(٧/ ٣٢) جامع المراسيل للعلائي ص٣١٨ .
ثم أخذ معاذ يعلم أهل دثينة الصلاة، كما روى ذلك الإمام ابن أبي شيبة في مصنفه حديث رقم ( ١٧٥٨)؛
قال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع قال حدثنا محمد بن قيس عن علي بن مبارك أن معاذا… كان يعلم النخع فقال لهم: إذا رأيتموني صنعت شيئا في الصلاة فاصنعوا مثله، فلما سجد أضر بعينه غصن شجرة فكسره في الصلاة، فعمد كل رجل منهم إلى غصن في الصلاة فكسره، فلما صلى قال: إني إنما كسرته لأنه أضر بعيني حين سجدت، وقد أحسنتم فيما أطعتم.
المصنف(٢/ ١١٧) .
وبعد هذا وفي السنة الحادية عشر للهجرة خرجت دثينة في وفد كبير يضم مائتي رجل من خيارها، حتى وصلوا المدينة فبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم يعجب بهم ويدعو ويثني عليهم وعقد لهم رايات حضروا بها فتوح العراق والشام .
*الردة*
مات النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أكمل الله به الدين وأتم به النعمة وتولى أبوبكر الصديق رضي الله عنه الخلافة من بعده، وفي لحظة صعبة من التاريخ أرتدت معظم القبائل العربية وظهر فيهم مدعو النبوة ولم يثبت على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف وجواثا وعدد قليل من قبائل العرب.
فدعا أبوبكر الصديق العرب إلى الثبات ومواصلة المسيرة النبوية فكان من أول من لبى النداء عدد من أهل اليمن، فوصل إلى المدينة: ألفان من النخع، وخمسة ألف من كندة وبجيلة، وثلاثة ألف من سائر الناس.
ونهض الأسود العنسي الكذاب فارتد عن الإسلام وادعى النبؤة فنهضت معه قبائل من مذحج وغيرها فسيطر على قصر غمدان واتجه إلى السيطرة على بقية اليمن فدعا القبائل لمناصرته فاستجاب له من استجاب فرفضت دثينة دعوته في عدد من القبائل وتمسكوا بالإسلام واعتصموا به وصبروا وصابروا.
الاكتفاء للكلاعي(٣/ ٦١)
ويؤكد تمسك دثينة بالإسلام ورفضها الردة كل من:
المؤرخ أحمد بن عبد الله الرازي المتوفي سنة ٤٦٠ هج في كتابة تاريخ مدينة صنعاء ص١٨١ .
والثعالبي في الكشف والبيان( ٤/ ٧٨)
والبغوي في تفسيره(٢/ ٤٦) .
وقد وصل إلى دثينة عدد من الصحابة أثناء حروب الردة قادمين من المهرة وحضرموت يقودهم عكرمة ابن أبي جهل رضي الله عنه في جمع كبير وهناك التقوا بأهل دثينة وأكد لهم أهل دثينة أنهم مستمسكون بالإسلام معتصمون بحبل الله تعالى فقالوا له : كنا في الجاهلية أصحاب دين لا نتعاطى ما يتعاطاه العرب، فكيف بنا وقد صرنا إلى دين عرفنا فضله ودخلنا حبة.
ابن جرير(٣/ ٣٢٧) .
عادت العرب إلى الإسلام بعد عام كامل من الحروب واستقرت الأمور فدفع ابوبكر الصديق الناس لنشر الإسلام والزحف على إمبراطوريتي فارس والروم، فخرجت العرب تحت راياتها تغزو العراق والشام رافعين كلمة التوحيد وكان لأهل دثينة الحضور في كل معركة سواء كانت القادسية او اليرموك او نهاوند أو تستر وغيرها وانساح أبناء دثينة في الأرض ولا تزال قبور شهدائهم شاهدة عليهم في مشارق الأرض ومغاربها ولا تزال الكتب تسطر أخبار فاتحيهم وفرسانهم وقادتهم وولاتهم وعلمائهم وقضاتهم ومحدثيهم بسطور من نور.
وإلى الله تصير الأمور
ولله الأمر من قبل ومن بعد
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
المصدر: شمسان بوست
كلمات دلالية: النبی صلى الله علیه وسلم ابن أبی
إقرأ أيضاً:
خصوصية جبل الطور حتى يتجلى الله تعالى عليه
اجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونه:"لماذا تجلى الله على جبل الطور وكلَّم عليه سيدنا موسى عليه السلام دون بقية البقاع المباركة الأخرى؟"
لترد دار الإفتاء موضحة: انه اختصاص الله تعالى لأيِّ مخلوق من مخلوقاته بفضيلة أو ميزة، هو محضُ فضلٍ وتكرُّمٍ من الله تعالى، فهو سبحانه يفضل ما يشاء ويختار، واختصاص جبل الطور بالتجلي دون بقية البقاع الطاهرة من باب هذا التَّفضُّل والتكرم والتذكير بما وقع فيها من الآيات كما جعل له فضائل متعددة؛ فإن جبل الطور من جبال الجنة، وهو حرز يحترز به عباد الله المؤمنين من فتنة يأجوج ومأجوج، وهو كذلك من البقاع التي حرَّمها الله على الدجال، وقد تواضع جبل الطور لله فرفعه واصطفاه، وهو الجبل الوحيد الذي وقع عليه تكليم الله لنبيه موسى عليه السلام.
بيان سنة الله الجارية في الخلق بأن يفاضل بين خلقه بما يشاء وكيفما شاء
جرت حكمة الله تعالى وإرادته أن يفاضل في خلقه بما يشاء وكيفما شاء، فمن البشر: فضَّلَ الأنبياءَ والرسل والأولياء على سائر خلقه، ومن البلاد: فضَّل مكةَ المكرمة والمدينة المنورة على سائر البلدان -على ما ورد فيه التفاضلُ بينهما-، ومِن الشهور: فضَّل شهرَ رمضان على ما عداه من الأشهر، وكذا الأشهر الحرم، ومِن الليالي فضَّلَ ليلةَ القدر على سائر الليالي، ومِن الأيام فضَّلَ يومَ عرفات على سائر الأيام، ومن الجبال: فضَّلَ جبلَ الطور بتجليه عليه، والكلُّ خلقُ الله سبحانه وتعالى، يفعل فيه ما يشاء ويحكم فيه بما يريد.
وفي بيان وجه تفضيل بعض الأوقات والبقاع يقول العلامة الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير" (10/ 184، ط. الدار التونسية) عند الكلام عن تحريم الأشهر الأربعة في سورة التوبة: [واعلم أن تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكريمة، وتفضيل غيرهم مما لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل الواقعة فيه، أو المقارنة له... والله العليم بالحكمة التي لأجلها فضَّلَ زمنًا على زمن، وفضَّلَ مكانًا على مكان، والأمور المجعولة من الله تعالى هي شؤون وأحوال أرادها الله، فقدَّرَها، فأشبهت الأمورَ الكونية، فلا يبطلها إلا إبطال من الله تعالى، كما أبطل تقديسَ السبت بالجمعة] اهـ.
ولمّا كان القصد من إرسال الرسل لأقوامهم هو الإيمان بالله تعالى، اقتضى ذلك تأييدهم بالمعجزات التي يظهرها الله على أيديهم -تكرمًا منه وإحسانًا، تصديقًا لهم في دعواهم النبوة والرسالة، وفيما يبلغونه عن الله تعالي، فمعجزات الأنبياء دليلٌ على صدق وصحة ما جاءوا به، فإذا أتى بالمعجزة فقد ثبت صدقه؛ لأنها الدليل الذي يفصل بين الصادق والكاذب في ادعاء الرسالة، وهي قائمةٌ مقام قول الله تعالى: صَدَقَ عَبْدِي في كُلِّ ما يُبلِّغ عنِّي.
وإذا ثَبَتَ صدقه فقد وجب اتباعه، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25].
قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (29/ 469، ط. دار إحياء التراث العربي): [هي -يعني: البينات- المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة] اهـ.
وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنَ الآيَاتِ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ» متفق عليه.
ثم خصَّهُم الله سبحانه بمزيد فضلٍ وإحسان؛ ليزداد الناس يقينًا في صدقهم، وإيمانًا بما جاءوا به، وتسليمًا لأحكامهم، واتباعًا لشرائعهم، فمع ما أعطاهم من المعجزات الباهرات منحهم من الخصائص والتكريم والتفضيل ما يتيسر معه أمر الدعوة إلى الله تعالى.
وقد فضَّل الله بعض النبيين على بعض، فقال جل شأنه: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة: 253].
قال الإمام ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (1/ 670، ط. دار طيبة): [يخبر تعالى أنه فضَّل بعضَ الرسل على بعض كما قال: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [الإسراء: 55] وقال هاهنا: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ﴾ يعني: موسى ومحمدًا صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك آدم، كما ورد به الحديث المروي في "صحيح ابن حبان" عن أبي ذر رضي الله عنه ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ كما ثبت في حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عز وجل] اهـ.
وقد خصَّ الله نبيه موسى عليه السلام بأنه كلمه تكليمًا، قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (7/ 280، ط. دار الكتب المصرية): [قوله تعالى: ﴿إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي﴾ [الأعراف: 144] الاصطفاء: الاجتباء، أي فضَّلتُك، ولم يقل على الخَلْق؛ لأنَّ من هذا الاصطفاء أنه كلَّمه، وقد كلَّم الملائكة وأرسله وأرسل غيره، فالمراد ﴿عَلَى ٱلنَّاسِ﴾ المرسل إليهم] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (9/ 6، ط. دار المعرفة): [قوله: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ»: هذا دالّ على أنَّ النبي لا بد له من معجزة تقتضي إيمان من شاهدها بصدقه، ولا يضره من أصرّ على المعاندة، قوله: «مِنَ الآيَاتِ» أي: المعجزات الخوارق والمعنى أنَّ كُلّ نبيٍّ أعطي آية أو أكثر من شأن من يشاهدها من البشر أن يؤمن به لأجلها] اهـ.
وقال الإمام القشيري في "لطائف الإشارات" (1/ 391، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب) في تفسير قول الله عز وجل: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: 164]: [إخبار عن تخصيصه إياه باستماع كلامه بلا واسطة] اهـ. وهذا من تشريف الله تعالى لموسى عليه السلام؛ ولهذا سُمِّي بكليم الله.
وذكر الإمام عبد القاهر الجرجاني في "درج الدرر في تفسير الآي والسور" (2/ 422، ط. دار الفكر): [عن الضحّاك بن مزاحم، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: ﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ [القصص: 46] قال: لمّا أخذ موسى الألواح ونظر فيها قال: إلهي لقد أكرمتني بكرامٍ لم تكرم بها أحدًا من قبلي، فأوحى الله: يا موسى، إنّي اطّلعت على قلوب عبادي فلم أجد أشدّ تواضعا من قلبك ﴿اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 144] بجدٍّ ومحافظة، وكن من الشاكرين] اهـ.
بيان سرِّ اختصاص جبل الطور بتجلي الله تبارك وتعالى عليه من بين سائر جبال الأرض
أما عن تخصيص الله سبحانه وتعالى جبل الطور بالتجلي عنده دون بقية البقاع المباركة، فكان تشريفًا لهذه البقعة وتكريمًا وتذكيرًا لما وقع فيها من الآيات.
قال الإمام القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن" (17/ 58): [قوله تعالى: ﴿وَٱلطُّورِ﴾ [الطور: 1] الطور اسم الجبل الذي كلَّمَ الله عليه موسى، أقسم الله به تشريفًا له وتكريمًا وتذكيرًا لما فيه من الآيات، وهو أحد جبال الجنة] اهـ.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «أَرْبَعَةُ أَجْبَالٍ مِنْ أَجْبَالِ الْجَنَّةِ، وَأَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، فَأَمَّا الْأَجْبَالُ: فَالطُّورُ، ولُبْنَانُ، وطورُ سَيْنَاءَ، وطورُ زَيْتًا، وَالْأَنْهَارُ مِنَ الْجَنَّةِ: الْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، وَسَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ» أخرجه الطبراني في "معجمه الأوسط"، وابن شبة في "تاريخ المدينة"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق".
قال العلامة نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 71، ط. مكتبة القدسي) مُعلِّقًا على هذه الرواية: [قلت: حديثه في الأنهار في "الصحيح". رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه من لم أعرفهم] اهـ.
ويشهد له ما جاء من حديث عمرو بن عوفٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «أَرْبَعَةُ أَجْبَالٍ مِنْ أَجْبَالِ الْجَنَّةِ وَأَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ وَأَرْبَعَةُ مَلَاحِمَ مِنْ مَلَاحِمِ الْجَنَّةِ» قِيلَ: فَمَا الْأَجْبَالُ؟ قَالَ: «أُحُدٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ، وَالطُّورُ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ، وَلُبْنَانُ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ الْجَنَّةِ، وَالْأَنْهَارُ الْأَرْبَعَةُ: النِّيلُ، وَالْفُرَاتُ، وَسَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ، وَالْمَلَاحِمُ: بَدْرٌ، وَأُحُدٌ، وَالْخَنْدَقُ، وَحُنَيْنٌ» أخرجه الطبراني في "المعجم الكبير" من طريق كَثِيرٍ بن عبد الله، وهو ضعيفٌ، كما قال العلامة نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 14).
وكثير بن عبد الله رحمه الله روى له الترمذي وابن خزيمة والدارمي والطحاوي والحاكم، كما ذكر الإمام السيوطي في "اللآلىء المصنوعة" (1/ 86، ط. دار الكتب العلمية)، وقال: [والأشبه أنَّ كثيرًا في درجة الضعفاء الذين لا ينحط حديثهم إلى درجة الوضع، وأنَّ الحديث الذي أورده المؤلف في درجة الضعيف الذي لم ينحط إلى درجة الموضوع، وقد ثبت أنَّ الأنهار الأربعة المذكورة من أنهار الجنة في عدة أحاديث منها حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة». وحديث سهل بن سعد السابق في أُحُدٍ شاهد لقصة الأجبل، فاتضح أنه ليس في الحديث ما يستنكر. وقد أخرجه ابن مردويه في "التفسير"، وله شاهد من حديث أبي هريرة] اهـ.
وذكر الإمام ابن عرَّاق في "تنزيه الشريعة" (1/ 195، ط. دار الكتب العلمية) نحوَ هذا الكلام، وقال: [فبان أنه ليس في الحديث ما ينكر وله شاهدٌ من حديث أبي هريرة أخرجه الطبراني في "الأوسط"] اهـ.
فتحصَّل مما سبق أنَّ هذا الحديث وإنْ كان فيه ضعفٌ إلا أنه يُقبل، وليس فيه ما يُنكر.
ومما يُبيِّن فضل جبل الطور ما جاء في حديث الدجال الطويل، أنَّ هذا الجبل سيكون حرزًا لعباد الله المؤمنين من فتنة يأجوج ومأجوج، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فَبيْنَما هو كَذلكَ إِذْ أَوْحَى اللَّهُ إلى عِيسَى: إنِّي قدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي، لا يَدَانِ لأَحَدٍ بقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إلى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ» رواه مسلم في "صحيحه".
وكما سيُمنع يأجوج ومأجوج من دخول الطور، كذلك ورد في الحديث الشريف أن الله تعالى حرمه على الدجال، فقد جاء في "المسند" للإمام أحمد، و"المصنف" للإمام ابن أبي شيبة، ونعيم بن حماد في "الفتن"، أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قال عن الدجال: «لَا يَقْرَبُ أَرْبَعَةَ مَسَاجِدَ: مَسْجِدَ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدَ الرَّسُولِ، وَمَسْجِدَ الْمَقْدِسِ وَالطُّورِ».
وقال العلامة نور الدين الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/ 343) عن هذا الحديث: [رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح] اهـ.
جاء في بعض الآثار أنَّ الجبل تواضع لله تعالى، واستسلم لقدرته، ورضِيَ بقضائه ومشيئته، فلما تواضع الجبل لله تعالى ناسب أن يتجلى الله تعالى لسيدنا موسى عليه السلام عليه، ويكلمه عنده دون بقية الجبال، فقد أخرج الإمام أحمد في "الزهد"، وأبو نُعيم في "الِحلية"، وعبد الرزاق الصنعاني في "التفسير"، وأبو الشيخ الأصفهاني في "العظمة" بإسنادٍ حسنٍ عن نوفٍ البكالي، قال: "أوحى الله إلى الجبال إني نازل على جبل منكم فشمخت الجبال كلها إلا جبل الطور فإنه تواضع وقال: أرضى بما قسم الله لي، قال: فكان الأمر عليه".
ونقل الإمام الثعلبي في "تفسيره" (4/ 275، ط. دار إحياء التراث العربي) عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: [قال الله تعالى: ولكن انظر إلى الجبل فهو أعظم جبل بمدين يقال له: زبير، فلما سمعت الجبال ذلك تعاظمت رجاء أن يتجلى منها الله لها وجعل زبير يتواضع من تبيان، فلما رأى الله تعالى تواضعه رفعه من بينهما وخصه بالتجلي] اهـ.
فهذه الفضائل تضاف إلى الفضيلة الكبرى المذكورة في القرآن الكريم من تكليم سيدنا موسى عنده، كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكۡلِيمًا﴾ [النساء: 164]، وكما في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا﴾ [الأعراف: 143]، وكما في قوله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52].
الخلاصة
بناءً على ما سبق وفي السؤال: فاختصاص الله تعالى لأيِّ مخلوق من مخلوقاته بفضيلة أو ميزة، هو محضُ فضلٍ وتكرُّمٍ من الله تعالى، فهو سبحانه يفضل ما يشاء ويختار، واختصاص جبل الطور بالتجلي دون بقية البقاع الطاهرة من باب هذا التَّفضُّل والتكرم والتذكير بما وقع فيها من الآيات.