قصة الوادي الصغير (9)

 حمد الناصري

قال الرجل الذي كان يُمنيه "فالع" بأنْ يكون خليفته من بَعده، في سيح المالح المُتحد، أمام جمع من أتباعه، تحَلَقوا حوله:

ـ لا أبالغ في صراحتي.. بأنه قد ارتكبنا خطأ جسيمَا كان بالإمكان تجنبه فقط لو أدركنا عواقبه وما نتوجّس منه من خوف وتوقع، فحينما كان البعض يَهتمون بإرضاء جميع الغُرباء، نسينا أهم ما يَجمعنا وهذا خطأ كبير فغايتنا ليس إرضاء الغُرباء بقدر أنْ نصل إلى التوافق في أهدافنا ، فإذا اختلفنا معهم فلا بأس لأنّ ذلك ما يستحقونه؛ ولن نُعادي من أختلف معنا في الغاية المنشودة ، ولا نُبَيّت له ولغيره شرًا أو خُصومة ، وإنّما نُفرد له وسيلته أخرى ، ونبسُط له فيها مآربنا ، ومن خالف وامْتنع ، فقد أجْرم في حقّ نفسه وأهله ودياره وظلَم بذلك مُجتمعاً أصيلاً ، وإذا لم يكن هناك من بُد  فليتخذوا مكاناً وسطاً بين الشرق والغرب حيث تميل الشمس في طلعتها على رؤوسهم ، فيشتدّ وطيس الحرّ ويَصَب لهيبه على سُحنة عُروبتهم ، وهم في ظِلّ قليل مُتعايشون، وإنْ غابَ حاجبها وتعدّلت استقامتها انكسرتْ انفسهم خاشعة ، مُبصرة ، فخالق الاشياء ، قد عرف أوزارهم لئلاّ تُقَوّض بعلمهم ، فيحاسَبون ، ذلك حِمْل ثَقيل ، قلّ أنْ نجده عندهم ـ أي الغُرباء ـ شرقيهم وغربيهم ،ذلك لأنهم يَتقاتلّون حول الوادي الصغير بالنوايا والأفعال وتضطرب نفوسهم شرقيون وغربيون بعواقب مَبثوثة ووساوس مكنونة تستعر بالفِتن وتهتز أركان ما يَخبثون ويَمكرون ، وتلك مآلات تَحِدّها الافكار العاقلة التي لا تهدر طاقاتها ، لكنهم وكما عرفناهم لن ينفكّون عنّا، وكأنهم خُلقوا لِيُعادونا ولكي يجعلون هَمّهم الأكبر في إيذائنا بلا وازع من انسانية أو صَحوة ضمير.

 

ولا يخفى على أحد منكم، بأنّ عواقب الفِتنة والجشع أدّت إلى أزمة فرّقت البلاد وعُزلتْ الناس عن بعضهم ، وضعفت قوتنا وذهبَت رِيْحنا لنصل إلى أقصى مدى من التفرّق والتمزق والشتات.. ونحن اليوم، وقفنا ونقف بصلابة وعزم لتمكين "فالع" من زعامة سيح المالح المُتحد، خليفة لأخيه "فلوع" الهارب.. وأنتم تعلمون جميعاً ، أنّ فالع لا يُشبه أخيه فلوع الهارب في شيء.؛

 

ردّ شديد الصرعة وقد تزعّم بضع رجال  مُعترضاً على ما اجتمع عليه الناس بتمكين ثابت لزعامة المتحد:

 

ـ أيها الناس  ، تعلمون بأنّ الاخوين "فالع وفلوع" سقطا في وحْل أخطاء انفردا بها، وأخذا قومهما في متاهة مُظلمة وداهَنا الغُرباء على حساب مَوروث أمّة الوادي الصغير وأمّة أعراب الرمال ووادي القرى المُتاخمة للوادي ، كقرية عين الماء القديمة ، وعين جسر الماء التي أقامها ابن عبدالاعلى وقرية التراث وقرية الاعلى وقرية البحر وقرية الجبل ، ناهيك عن الحارات العَشْر ، والتي أتّحَدت في مُسمى ، سيح المالح المُتحد ، الذي جمع وِحْدتهم ومكّن تحالفهم.

 

ورغم ذلك أرى ، بأنّ ثابت لا يُمكن أنْ يَخلف الزعيم "فالع" فهو الذي كان يُنادي ، بوقف التقارب مع ذو العُيون الزرقاء على حساب الوطن، وجعله قراراً في المُتحد، ثم ماذا؟ ما الذي حدث أيها الرجال.؟ غدر بـ فالع الذي كان يُمنيه بأن يكون خليفته..؟ هذا ظُلم كبير وخيانة .؟ ثمّ كيف تتحقق الأمنية في ليلة وضُحاها.؟ أليس ذلك فيه كذب وافتراء.؟ بل هو جُنون لم أسْمع بمثله أبداً.؟ والسؤال الذي أطرحه عليكم، تُرى ، هل يستهين ثابت بعقولنا لنصدّقه أو لأنّ خلافة فالع تجعله يُمارس فوقيته علينا ويَستمر في خلافته ويُدير زعامته كما يشاء.؟

إنّا نقول لجميع الحاضرين، بأننا لا حاجة لنا بتلك الخلافة ولا حاجة لنا في زعامته.؛ افهموا ما أقول. الغُرباء أياً كانوا، لن يَقبلَ أحدهما، بأنْ يكون فالع زعيماً يَخلف أخيه الهارب إلاّ بمثل هذه الطريقة، وكما يبدوا أنّ كيدًا تمّ إعْداده وترتيبه ترتيباً دقيقاً ومُفصلاً تفصيلاً مُحكماً.. قادم إليكم، فانفضوا الغُبار عن عقولكم ، وانتهوا.؛

 

عقّب ثابت بهدوء :

 

ـ إنّا نعذرك عن قولك ، فالقِيَم المُزيفة تفتح الذرائع وتحجب نور الفضائل ، والعاقبة بلا شك ستكون  سيئة ومَصير مُقلق قادم لا محالة.

أيها الحضور ، قرار البَديل ليس بالمَطلب الصّعب بل هو حاجة مُلحة ، فلا بُدّ لِلمُتحد من زعيم ، ونحن لا نتوارى خلف كواليس مُظلمة ولا نضمر أموراً خفيّة عن قومنا ،وغايتنا هي استقرار الوادي والقرى وسيح المالح المُتحد وهو قرارنا ومصيرنا ، ومن يَقل بغير ذلك فله أسبابه التي نجهلها .؛

ولا زلت أقول ، أنّ خشية الغُرباء من رجالنا أكبر بكثير من خشيتهم من فالع أو فلوع.؛ أو حتى مُحدثكم هذا .؟ وأشار إلى نفسه.؛ فإذا تُرك الامر على غاربه، فإنّهم سيُقرّون بأحقيّة تدخلهم المُباشر ورجال الوادي وأهل قرية التراث والناس في قرية الاعلى وسيح المالح وقرية البحر والجبل وبلا شك سيرفضون تدخلات الغُرباء في ديارهم ، ولكني اخترت أقرب الطرفين مَودة للخروج من مَعْمَعة التصادمات إلى حين.. وهذا ما لا يُريدونه قطعاً ، لكني واثق بتحقيقه.؛

 

عقّب شديد الصرعة ، مُقاطعاً ثابت:

 

ـ أثق أنّ رجالنا سوف يَتدخلون في لمّ شَمل جموع الناس المُتفرقة والتي مزّقتهم فِتَن الأغراب وأنهكتهم إلى حدّ الضّعف والهوان.. ولا حاجة لنا بكَ فأنت لن تزيدنا إلا تفرقاً.. فاقْعُد مع الاغراب ، وجادلهم بفصاحتك المعهودة وتبادل معهم الرأي ، واعلم ، إنهم لن يَنظروا إليك إلا لمنافع لهم وإذا اضطروا إلى إنهاء حياتك ، فذاك أهون عليهم.؛

 

قال رجل ضخم الجثة وقد أقبل بوجهه إلى ثابت:

 

ـ صدق شديد الصّرعة .. ولأول مرة أجد رأيه سديدًا وأقرب إلى الحقيقة .. وبالفعل، فقد سَبق لنا أنْ سارعنا برسم المَسار السليم لملامح مُستقبل سيح المالح المُتحد ، ولكنكم عَطّلتموه بتدافع مصالحكم الشخصية مع الغرباء ذو الوجوه الحُمر المُكتنزة ، وتقاطعها مع ذوي العيون الزرقاء وحُلفاءهم البيض فارعي الطول ، الذين يَكنون لكم وُداً ظاهراً وباطنهم غير كذلك ، بل كانوا جحيماً على رمالكم  ولا يزالون لا يُقيمون لكم وزناً إلا لمنافعهم ولكي تُؤمنوا بأفكارهم.؛

وقد أخْبَرنا الأوّلون بأنّ قصّتهم بها عِوَج ، وأفكارهم خاض مُعتركها السابقون ، تأريخهم بلا قِيَم ولا اعتدال ، وإني أحذركم .. لا تغفلوا ولا تزيغوا إلى مكرهم ، وكونوا كالذين كانوا من قبلكم الرجال ، لا تتملّقوا ولا تتودّدوا ، فذلك فيه خضوع بائس لأمّتكم الاصيلة، أمّة الاعراب ، وانظروا إلى مصيركم ، وانظروا إلى مُستقبلكم ولا تلتفتون إلى دماء أعدائكم ، ولو سُفكتْ ليلا ونهاراً .. انتم مُرشحون لتكونوا خليفة من بَعد فالع ، وإن أخلفتم ما وعدتمونا به ، فسوف يأتي خليفة مِن بَعدكم وعلى غير مَساركم ، لا نُريد أنْ تكون أمة الاعراب في ذُلّ ومَهانة ، ولكنّا نُريد أنْ نَبقى في عزّة وشُموخ وفي قوة لا يَقْدر عليها أحد ، ولا يَسْفك دماءها بِيْضٍ او ذو عيون زرقاء أو  ذو وجوهٍ حَمراء او فارعي الطول او غيرهم ، ولن نقبل بأنْ يَستبيح  أحداً منهم ثرواتنا ولا ينال أحداً من عزّتنا وشُموخنا  ،  لا خير في أحد منهم أبداً لا شرقيّهم ولا غربيهم.؛

 

تحدث رجل هادئ الطبع، ذو ملامح قوية، يُدعى مُحسن:

 

ـ نعم اتفق أيضًا مع شديد الصرعة في قوله ، فقد تطاول الغُرباء علينا ، وأثبتوا في سَبتهم أنه لا مكان لجَمْعنا ولا لآحاد خُصومهم ، فَهُم والذين معهم يُجاملونهم في مجالسهم ولو ظاهريًا  يدًا واحدة وقوة واحدة وإنْ اختلفت مشاربهم ومصالحهم ، فالغُرباء فيما بينهم خُصوم ولكنهم يَلتقون في ظُلم تاريخنا وعُبودية أمّتنا، فذوي الوجوه الحُمر المُكتنزة استبشروا بسَبْتهم وذوي العيون الزرقاء الْتَقوا على ديمومة آحادِهم، ووصفوها بالرجاء والنقاء .؛

وأمّا الذين يُجاوروننا من البيض وفارعي الطول والقامة المَتينة يبثّون بقائهم على فنائنا ، يُنافقوننا لئلا نظنّ بهم العداوة وهُم أشدّ الناس عداوة وأشدّهم بُغضاً وضرراً على قيَمنا ومُستقبلنا، وهُم على توافق مع الغُرباء ، ويستهينون بحياة الرمال ، ويُطلقون علينا بألقاب بَغيضة ، كـ أعداء الوادي وأعراب الرمال.

 

قال ثابت وقد أوجس خِيْفة من غدر بعض الرجال:

 

ـ نعم ، أوافق رأيكم وما اجتمع إليه الناس في الوادي وقرية التراث وقريتا البحر والجبل ، وحيث ما ذهبتم إليه ، فأنتم أيها الرجال، رجالنا في كل أمكنة الوادي الصغير ، كبيرها وصغيرها ورأينا من رأيكم وسدادنا من حكمتكم ، ولكن هناك تحديات حقيقية أمامكم ، وأشياء كثيرة واجب عليكم أنْ تلتزموا بها ، ولا مَهْربَ لكم ، فالأفكار الآتية من الغُرباء شرقيهم وغربيهم دخيلة على مُجتمعكم وتحتاج إلى مُواجهة وقوة إصْرار وعزم ، ولن تستقر بلادكم وهيَ سَقيمة بالأفكار الدخيلة ومُزعزعة تتقاذفها أهْواء الغُرباء ونزوات كُبَرائنا المأخوذون بها ونحن في سيح المالح المُتحد أيْقنّا بأنّ مَصلحة مُتّحدنا واستقراره فوق كل اعتبار.؛

ولطالما كنت أنا على رأس زعامة المُتحد، فإنّي أُثَمّن  وقفتكم وأُقَدّر جهودكم المُخلصة لتحقيق هدف السعادة وغاية الرّخاء ، وما اختياركم لي ، إلا عن توفيق وحِرص منكم، مُتمنياً أنْ أكون على قدر الامانة التي أوليتموني إياها ، وأكون في مُستوى الرضا إنجازاً وطُموحاً.؛

وأمّا مَسألة الاخوين فالع وفلوع ، فتلك قضية أخرى ، فجرح الداخل أشدّ ألماً من جروح الخارج ، فالاقتتال في الداخل من صُنع ذوي الوجوه الحُمر المكتنزة أمّا مُقاتلة عدوّ الخارج هو من اختراع ذوي العيون الزرقاء .. وعلينا أنْ نُمسك العصا من وسطها لئلا نُقحم أنفسنا في حرب تستزف رجالنا وثرواتنا ، والتحالف مع جُموع  البيض فارعي الطول ، الذين يُجاوروننا ، فيها شيء من الحِنكة والكياسة ، فهؤلاء يرجون  في دياركم ما لا ترجونه منهم ، ولديهم في واديكم الصغير صِلات وثيقة ورجالٌ يُشبهونهم ، ولا مَناص من الاعتراف بوجودهم وببعض ما يَختلفون معكم فيه، وأنتم تعلمون حقيقتهم ، وهؤلاء القوم، فارعي الطول ،قد يَخلقون مَشاكل لا حصر لها ، وقد يُثقلون كاهل مُتحدنا والوادي ، حتى إذا ما أدركتم غثّهم زادوكم رهقاً ، بفتن واهنة بالية وأساطير مكذوبة، يُروجونها بتقليدية كأنها إرث يختص بهم منذ الازل.

أولئك النّفر ، فارعي الطول ، قوم قد تعرفهم من الوهلة الأؤلى ومِن سُحنتهم البَيْضاء وهَيئتهم التقليدية ، ومن سَيْماء سواد أعينهم.. فهم أشد الاقوام خطراً علينا ، إنهم أقوام عُرفوا بالغدر والقطيعة ولا صِلة تجمعنا بأعرافهم وأفكارهم ، فهم قوم جُلّ أفعالهم في خَفاء وصَمت خاسر ، يكتمون اختلال عِوجهم ، خُبثاء كظلل المَوج ترتفع تارة وتهبط ثمّ تركب فوق بعضها بعضاً ، لا خلاف بينهم ولا شِقاق.؛

أيها القوم ، رجال أمّتنا ، أمة الاعراب النُجباء ،اعلموا أنّ كلّ مُنتنٌ مذموم.. وإني أخشى عليكم أنْ يُبسطوها عليكم فتتبعوهم ويَصدوكم عن أهليكم وناسكم وأعرابكم وتٌقَطعوا أرحامكم وتتفرقوا وتُصبحون ضُعفاء وفي تمزّق وتشتّت، وتكونوا كطريق مُستوية سَهلة المنال وإذا ما انْقلبوا عليكم ، يأخذوكم بظلالهم ولن تُفلتوا ابداً ، ثُم لا أعلم ما يُفْعَل بكم ولكني أقول حتْماً ، أنّ الذئاب لا تكون كالذُباب.؛

ومن هنا، أقول لكم أيها الرجال ، أعراب مُجتمع الوادي العظيم.. أجمعوا أمركم بينكم وأفيقوا من غفلتكم.. فالخطر مُحْدَق بكم .. أفيقوا من سُباتكم فالأمر جلَل ولا تَشاقوا ، وتحمّلوا أمانة أمّتكم وإرث أمجادكم وثروات واديكم ، فمسؤوليتكم عظيمة ، ولا تُعَرّضوا الأرض ورمال الوادي للبيع ، وإياكم ، أنْ يَغتر أحدكم بمباهج ومنافع الغُرباء واحذروا أنْ يُغَرر بكم أقوام فارعي الطول فتكون عليكم حسرة وندامة.؛

احذروا أؤلئك الاقوام المُتربصين بأرض الاعراب، والذينَ يَحْلُمون بها ويتمنّونها ، فإنْ أتيحت لهم الفُرصة ، لانقضّوا عليكم وانتم في تفرّق وفي ضَعف وغُثاء أكثركم كغثاء سَيْل لا مَهابة منه ولا خوف ، كما الأكلة وقَصْعتها.؛

 

يتبع 10

المصدر: جريدة الرؤية العمانية