بيروت ست الدنيا نعم.. أما صور الجنوبية فلها طعمٌ آخر
تاريخ النشر: 8th, October 2024 GMT
كنت أحضر ثيابي للرحيل من المنزل، هل سأصبح نازحة؟ وما العيب في ذلك؟ كنت أفكر، على الأقل كان ضميري سيرتاح إذا ما سألني الله يومًا "ماذا قدمتم لغزة؟". مازحتني أختي وأنا أحضر الحقائب وأنا أفكر في جميع الناس الذين فاتتهم هذه الفرصة.
تعلمت من أبي أن أحب صور كما تعلمت أي شيء آخر. ربما بدأ الأمر معي عندما كان يناديني على عجل وأنا طفلة لأرى مشهدًا تلفزيونيًا تظهر فيه المدينة البحرية جمالها بشكل خافت وسط أجمل مدن لبنان.
غالبًا ما كان المنتجون يختارون في تقاريرهم لقطة جوية لصور يظهر فيها شاطئُها ونخيلها والكنائس والجوامع الملتصقة ببعضها. لكنني كنت أشعر أن ذلك المشهد أصبح كليشيه مستهلكا بشكل مفرط، لأننا ولأنها أكثر من ذلك بكثير. ثم حاولت أن أقنع نفسي لاحقًا أنهم كانوا يصرون على اللقطات الجوية لأن صور تبدو أجمل من السماء، ثم آمنت بتلك الفكرة بعد أن رحل أبي.
في كل مرة كان أبي يناديني لأجلس بقربه وأشاهد "لقطة صور" الجوية، تلك المدينة الهادئة التي لا تشبه بيروت أو البترون أو جبيل، أو أيًّا من مدن لبنان الأخرى. لا في شوارعها، ولا في رائحتها، ولا في طعامها، ولا في لكنة سكانها أو لغتهم المحكية. لم أكن "ألحق" اللقطة، وكنت أعزي نفسي وأعزيه برد جاهز: "بابا، ليش كل مرة بتعيطلي لشوفها عالتلفزيون؟ نحنا عايشين فيها". كنت أحاول أن أعتذر له بطريقتي الجافة، وكان في كل مرة يقبل اعتذاري بضحكة طيبة.
تعلمت منه أن أقتفي أثر تلك المدينة التي تركتها لأول مرة في التاسع والعشرين من أيلول الماضي. كنت آخر من يغلق باب المنزل وأنا أنظر إلى صورته المعلقة فوق التلفاز. كان والدي يبتسم، وكنت أبكي وأنا أحاول أن أقول لنفسي إنني سأعود وأجد البيت في مكانه، سأجد مكتبي ومطبخي وشرفتي التي كلما جلست فيها كنت أتساءل: كيف لا يؤدب جيراننا أطفالهم؟ كذبةٌ ربما أو أمل زائف كنت أمنّي نفسي به حتى أنسى أنني رأيت لأول مرة، وأنا التي كنت طفلة أثناء حرب تموز 2006 التي لا أذكر منها شيئا، الصواريخ الإسرائيلية وهي تضيء ظلام الغرفة. عانقت لحظتها أبناء إخوتي وهم يرتجفون، وحاولت أن أهدئ من روعهم. لم أكن خائفة بصدق، كنت فقط أحاول أن أفهم ما الذي كان يجري ومن الذي قضى في هذه اللحظة التي يعبق فيها الدخان حيّنا الذي أصبح شبه مهجور. كنت أتساءل: هل رأى أبي من سمائه مكان سقوط الصواريخ في المدينة؟ هل سقطت في الخراب؟ أو على الميناء؟ أو في ساحة القسم؟ أو في الجبانة حيث يرقد الشهداء تحت خيمة تميّزهم دونًا عن سائر الموتى؟\
خرجت بعدها بيوم لأتفقد الناس. كانت الشوارع شبه خالية، ولم تكن كذلك أبدًا. سرت في الطريق المقابل لمؤسسات الإمام موسى الصدر. مررت بجانب "الحارة" وفكرت أنني اكتشفت منذ مدة قصيرة أن بها مكتبة ضخمة يكسوها حجر رملي، لكنها كانت مقفلة. يومها رأيت صبيًا واقفًا على سطحها القرميدي، خشيت عليه أن يقع، لكنني كنت أعرف أنه ما كان لينزل لو طلبت منه مباشرة، هكذا هو عناد أهل الجنوب. ولا غرابة في ذلك. سألت ذاك الصبي: "متى تفتح المكتبة أبوابها؟" فقال باقتضاب: "لا أعرف". مازحته: "مش عيب تكون عايش هون وما بتعرف؟" فقال بعد أن سمع لكنتي: "مش عيب عليكي إنتِ؟". فضحكت، ثم نزل. لا أعرف ما الذي ذكرني بذلك الصبي الأسمر العنيد، ربما لأنني أعرف أنه لم يترك الحارة، كما أعرف أن في قلبي خواء يسع الكون، وأنه يسمع يوميًا أصوات الصواريخ والقذائف بشكل عشوائي، وأنه يعاني من آثار شحّ المواد الغذائية والوقود وكل مؤهلات الحياة بعد أن منع الجيش الإسرائيلي من التوجه جنوبًا. وربما لأن جملة الصبي لا تزال عالقة في ذهني حين قال لي: "مش عيب عليكي إنتِ؟""
مشاهد تظهر الغارة الإسرائيلية تستهدف أحد الأبنية في مدينة صورمررت على الخيم البحرية، ربما كانت أكثر ما يعرفه السياح عن المدينة: البحر أو "بحُر" بضم الحاء كما يلفظه أهل صور، والسمك اللذيذ الذي بات يباع للمطاعم الفاخرة ولا يصلنا منه شيء، والانفتاح كما يُروّج في الإعلام، والصورة السنوية التي تظهر فيها المرأة المحجبة وهي تسير إلى جانب سيدة ترتدي "بكيني" على الشاطئ، هكذا دون أن تعاتب إحداهما الأخرى. هذا ما يعرفه الناس عنا، وهذا ليس كذبًا، لكن صور أكثر من ذلك بكثير. قلة من الناس تعرف، مثلًا، أننا لا نحب السمك بقدر ما نحب "الأرنبية"، لأنها وجبة تُحضَّر مرة في السنة بعد أن يُجمع من بساتين المدينة سبعة أنواع من الليمون، وتُحضر مرقة تُضفى على الكبب. نحبها لأننا نأكلها مرة، لأنها وجبة تختبر صبرنا، وصبرنا طويل والله يشهد...
كنت أحضر ثيابي للرحيل من المنزل، هل سأصبح نازحة؟ وما العيب في ذلك؟ كنت أفكر، على الأقل كان ضميري سيرتاح إذا ما سألني الله يومًا "ماذا قدمتم لغزة؟". مازحتني أختي وأنا أحضر الحقائب وأنا أفكر في جميع الناس الذين فاتتهم هذه الفرصة.. "إلى أين؟" قالت، فأجبت: "رايحة كزدورة عالشارع البحري". وضحكنا على سخرية الجملة وكل ما نعيشه. تُرى، كيف حال الشارع البحري؟ وما حال السيارات الفاخرة التي غالبًا ما "يفشخ" فيها الشبان على الصبايا وهم يسيرون ببطء في سياراتهم اللامعة؟ أين باتوا يجولون بالأغاني العالية والغريبة؟ و"التلوث السمعي" الذي أصبحنا نشتاقه؟ "الصائعون" يرفعون أغاني وديع الشيخ، و"العاشقون المكسورون" يَسمعون ويُسمعون أغاني هاني شاكر، و"المتدينون" أناشيد حزب الله واللطميات العاشورائية وللصبية الحق في أن تختار ما يناسبها..
هذا يومي الخامس "كنازحة"، أكتب عن المدينة ولا أشعر أنني دخلتها فعلًا، حتى وأنا أجبر نفسي عن التفكير فيما تعنيه صور لي، لأنها كانت نفسي، ولأنني تعلمت أن أحبها كما تعلمت أشياء أخرى. ولا زلت كلما فكرت فيها، أراها بلقطة جوية واسعة، أحاول تخيلها كما يتخيلها من رحلوا عنا، كما يراها أبي، كما يراها الله، ويحرسها من عليائه...
يورونيوز ليست مسؤولة عن أي من الآراء المعبر عنها في هذا النص، وجميع ما كُتب يعود لصاحبه.
شارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية "مكان خيالي" .. ترامب: غزة قد تصبح أفضل من موناكو البيرو تحتفل بـ "رب المعجزات" في موكب حاشد وزير الخارجية الروسي: لسنا مهتمين بنتائج الانتخابات الأمريكية ضحايا لبنان اعتداء إسرائيلالمصدر: euronews
كلمات دلالية: طوفان الأقصى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني غزة روسيا إسرائيل الحرب في أوكرانيا طوفان الأقصى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني غزة روسيا إسرائيل الحرب في أوكرانيا ضحايا لبنان اعتداء إسرائيل طوفان الأقصى الصراع الإسرائيلي الفلسطيني غزة روسيا إسرائيل الحرب في أوكرانيا حزب الله حركة حماس لبنان بنيامين نتنياهو كامالا هاريس دونالد ترامب السياسة الأوروبية یعرض الآن Next مدینة صور ما کان بعد أن
إقرأ أيضاً:
إيجبس 2025| مصر تستضيف أكبر حدث للطاقة برعاية الرئيس السيسي.. 47 ألف مشارك في “أم الدنيا”
تحت رعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي، تنطلق غدًا النسخة الثامنة من مؤتمر ومعرض مصر الدولي للطاقة "إيجبس 2025"، وذلك في الفترة من 17 إلى 19 فبراير 2025، تحت شعار "بناء مستقبل آمن ومستدام للطاقة".
ويُعد "إيجبس 2025" من أبرز الفعاليات في قطاع الطاقة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ومن المتوقع أن يستقطب الحدث حوالي 47 ألف مشارك من مختلف أنحاء العالم.
وسيجمع المؤتمر قادة صناعة الطاقة لمناقشة التوجهات المستقبلية، بهدف تعزيز التحول في القطاع وزيادة الزخم نحو أنظمة طاقة آمنة، مستدامة بيئيًا، وبتكلفة ملائمة.
وسيشارك في "إيجبس 2025" أكثر من 300 من كبار المسؤولين وقادة صناعة الطاقة والخبراء المرموقين كمتحدثين رئيسيين في الجلسات، بالإضافة إلى استقبال المعرض لـ2500 موفد، مما يوفر فرصًا واسعة للتواصل وتبادل الخبرات.
وسيضم المعرض الدولي أكثر من 500 عارض يقدمون ابتكاراتهم وحلولهم عبر 11 جناحًا دوليًا، أكبرها جناح الصين، مع مشاركة دول مثل رومانيا (لأول مرة)، إسبانيا، ألمانيا، إيطاليا، قبرص، تركيا، الولايات المتحدة الأمريكية، اليونان، الإمارات، والهند.
كما ستشارك 8 مؤسسات بترول حكومية، منها الهيئة العامة للبترول في مصر، الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية، المصرية القابضة للبتروكيماويات، مبادلة للطاقة، بتروناس، طاقة، وكوفبيك.
وبالإضافة إلى ذلك، ستشارك 17 شركة بترول وطاقة دولية، مثل أباتشي، بريتيش بتروليوم، كابريكورن إنرجي، شيفرون، دراجون أويل، إنرجيان، إيني، إكسون موبيل، هاربور إنيرجي، هاليبرتون، هيلينيك إنرجي، مجموعة IPR للطاقة، جيريه، توتال إنرجيز، ترانس جلوب إنرجي، XRG، وشل، إلى جانب 17 شركة دولية كبرى مقدمة للخدمات والتكنولوجيا.
ويتضمن "إيجبس 2025" ستة مؤتمرات استراتيجية وفنية متخصصة، تشمل: المؤتمر الاستراتيجي، المؤتمر التقني، مؤتمر الاستدامة في الطاقة، مؤتمر التمويل والاستثمار في الطاقة، مؤتمر القيادة والتطوير، ومؤتمر الحوار الأفريقي.
ومن المقرر حضور عدد من الوزراء، منهم: كريم بدوي وزير البترول والثروة المعدنية، محمود عصمت وزير الكهرباء والطاقة المتجددة المصري، ياسمين فؤاد وزيرة البيئة المصرية، صالح الخرابشة وزير الطاقة والثروة المعدنية في الأردن، جورج باباناستاسيو وزير الطاقة والتجارة والصناعة في قبرص، إكبيريكبي إيكبو وزير الدولة النيجيري للغاز، أنطونيو أوبورو أوندو وزير المناجم والمحروقات في غينيا الاستوائية، وليد فياض وزير الطاقة والمياه في لبنان، سعيد سليمان وزير النفط والمعادن في اليمن، ويونس علي جيدي وزير الطاقة والموارد الطبيعية في جيبوتي.
وبالإضافة إلى ذلك، سيحضر عدد من رؤساء الشركات العالمية وقادة صناعة الطاقة على المستويين المحلي والدولي.