موقع النيلين:
2025-03-25@11:28:10 GMT

عادل الباز: زبدٌ يطفو على سطح البحر!!

تاريخ النشر: 8th, October 2024 GMT

1 ثلاثة أخبار طفحت على سطح الإعلام، عرفت من خلالها أن زبدًا كثيرًا طفا وسيطفو في الأيام المقبلة على سطح البحر في بورتسودان. ونعلم جميعًا أنه كلما اصطخب البحر وهبت رياح عاتية، أخذت الزبد إلى الشواطئ.
2
جاء في الأنباء أن وفدًا من مجلس السلم والأمن الإفريقي زار بورتسودان نهاية الأسبوع الماضي. لماذا الآن؟ وماذا سيفعل؟ وما هي أجندته التي ناقشها مع المسؤولين؟ وكيف تجرأ على زيارة بورتسودان أصلًا؟ سنرى.


3
الخبر الثاني أن الثرثار العاطل عن أي موهبة، السيد مبعوث أمريكا، بيرلو، هو والسيدة سامانثا باور يتشرفان بزيارة بورتسودان. لماذا الآن؟ وماذا يفعلان؟ وما الغرض من زيارتهما المزمعة تلك؟ وكيف تجرأ هذا العاطل الثرثار على زيارة بورتسودان في مثل هذا الوقت؟
4
الخبر الثالث أن المرتشي روتو، الرئيس الكيني، أعلن قبل أيام أنهم بصدد تجهيز قوة إفريقية لحماية المدنيين في السودان! لماذا الآن؟ أين كانت تلك الفكرة العبقرية طيلة عام ونصف، قتل وتشرد وسحل فيه نصف الشعب السوداني؟
إذن، هذا هو الزبد الذي طفا وسيطفو. لماذا الآن؟ لا بد أنكم تلاحظون أنه كلما هبت رياح الجيش وملأت أشرعة الوطن بأناشيد النصر، تعالت صرخاتهم، وبحثوا للمليشيات عن مخرج يجنبها شر الهزيمة الساحقة. كلما تقدم الجيش، بحثوا عن مؤتمر ومائدة مفاوضات لعلهم يجدون لها مخرجًا يعيدها وحلفاءها وعملاءها وكفلاءها إلى الساحة السياسية والعسكرية مجددًا. وهيهات!
لم تدهشني هذه الهرولة من جوبا إلى جنيف، ومن القاهرة وأديس أبابا، ومن كينيا إلى جيبوتي، كلما تقهقرت المليشيا في ميادين القتال وخسرت المواقع والمدن والمعارك. ولكن أدهشتني تلك الوقاحة التي يتسم بها محامو شياطين الجنجويد الذين يرفعون رايات (لا للحرب) و(لازم تقيف)، وهم يفعلون كل شيء لتسعيرها ونصرة الجنجويد!
5
مثلًا، انظر الآن إلى وفد مجلس الأمن والسلم الإفريقي. هذا الوفد يمثل الاتحاد الإفريقي، وهو نفس الاتحاد الذي سارع بتعليق عضوية السودان دون إعطائه فرصة لتصحيح أوضاعه، ثم طفق يجمع كل أعداء السودان ليخططوا للجنجويد طريقًا آمنًا للخروج، كما فعل حين حشد كل المتآمرين على السودان فيما عرف بالآلية الموسعة التي أسسها الاتحاد على عجل في أول أيام الحرب. حشد في تلك الآلية، ويا للعجب، كل أعضاء ما يسمى الآن بتحالف “حفظ الأرواح” الذي أُسس في جنيف قبل شهرين! هذا الاتحاد المعادي للسودان بعث الآن مجلس أمنه وسلمه إلى بورتسودان.
6
ألا يعلم هذا الاتحاد أن أي مبادرة أو وساطة لا تجدي الآن؟ وخاصة ان كفلاءهم قد عجزوا عن زحزحة السودان عن موقفه رغم الضغوط الهائل التى مارسوها .
ألم يكن هذا الاتحاد نفسه شاهدًا على ما وقعت عليه المليشيا في جدة، وعجز حتى عن دعوتها بالالتزام بما وقعت عليه؟! أليس هو نفس الاتحاد الذي رفض إدانة إبادة المساليت بشكل واضح؟ ألم يمارس هذا الاتحاد الصمت المطبق عندما كانت المليشيا تعيث في الأرض فسادًا؟!
جاء اليوم بعد عام ونصف ليفعل ماذا؟ أو يقترح ماذا؟ اختشوا قليلًا! المهم، بعد أن فعل كل ذلك، جاء اليوم إلى بورتسودان وتم استقباله. فماذا كانت النتيجة؟ بعد اختتام زيارته لبورتسودان واستماعه لكل إفادات المسؤولين، أصدر بالأمس بيانًا قال فيه: “في 3 أكتوبر 2024، قام مجلس السلم والأمن بزيارة تضامنية إلى بورتسودان، حيث التقى بالقيادة الانتقالية في السودان وأكد على ضرورة وقف إطلاق النار فورًا واستئناف العملية السياسية.”
تصوروا! هذا كل ما نتج عن زيارته: دعوة فورًا لوقف إطلاق النار، لا شيء سوى ذلك! نفس الخط الذي ظل الاتحاد ينتهجه، محاولًا إنقاذ المليشيا. غير أن أفضل ما في الزيارة هو إنكار السيد بانكولى أي علاقة للاتحاد بالدعوة إلى تدخل قوات إفريقية لحماية المدنيين.
8
من الزبد الذي سيطفو على سطح البحر في بورتسودان قريبًا هو المبعوث الأمريكي. رغم أنني كرهت سيرة هذا العاطل الثرثار، المبعوث الأمريكي توم بيرلو، إلا أنني أجد نفسي مجبرًا في كل حين على مناقشة ترهاته. لا أعرف لماذا سيأتي الآن إلى بورتسودان. ما هي أجندته؟ وماذا سيفعل؟ قبل أن يصل، سبقته أخبار تقول إنه دعا الاتحاد الإفريقي لتجهيز قوة للتدخل لحماية المدنيين، ونشرت هذا الخبر صحيفة الشرق الأوسط. إلا أنه بعد يومين من نشر الخبر، نفى أن يكون الخبر صادرًا منه، وقال إن ذلك اقتراح تقدمت به جهة أخرى وليس هو؟!
وكان السفير المصري بأديس أبابا، محمد جاد، الذي ترأس بلاده حاليًا مجلس السلم والأمن في الاتحاد الإفريقي، قد قال عندما سُئل عن فكرة إرسال قوات لحماية المدنيين: “إن هذا الطرح ليس أمرًا جديدًا، فقد تم طرح فكرة إرسال قوات إفريقية من قبل، وتمت مناقشتها على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في 25 سبتمبر الماضي، وجرى رفضها بشكل قاطع من مصر.”
إذن، هي فكرة عبثية غير قابلة للتحقق، طرحها أعضاء في تحالف “إزهاق الأرواح”. والعجيب أن تدعو أمريكا لحماية المدنيين في السودان بينما أسلحتها تحصدهم حصادًا في غزة ولبنان! لماذا لا ترسل أمريكا قوة لحماية المدنيين في غزة وجنوب لبنان؟ أم أنها “حنينه وسكره ” فقط على السودانيين؟ ولم تظهر إنسانيتها هذه تلك الا بعد أن رأت أن المليشيات التي تدعمها في طريقها للانهيار! فهي إذن لا ترغب في حماية المدنيين، بل في حماية المدنيين الذين يتبعون للجنجويد.
9
الآن أنكرت أمريكا أي صلة لها بالدعوة إلى تجهيز قوات إفريقية للتدخل، كما رفضتها مصر، وكذلك أنكرها الاتحاد الإفريقي. إذن، هي دعوة لقيطة يتبناها الرئيس روتو وحده، ودعا لها في قناة “سي إن إن” الأسبوع الماضي. وهذا أمره معلوم؛ فمه محشو برشاوى الجنجويد، لا ينطق إلا بأمرهم ولمصلحتهم. والغريب أنه يعد العدة الآن لتسويق ترهاته هذه في سوق الإيقاد والاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي. لقد طفح زبد هذا الرئيس باكرًا على سطح البحر، وهو غارق الآن في رشاوى الجنجويد وكفلائهم، ولن يستطيع أن يقنع أحدًا بهرطقاته، وسيبطل السودان مؤامراته كما فعل أكثر من مرة. والله غالب على أمره.

عادل الباز

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الاتحاد الإفریقی لحمایة المدنیین إلى بورتسودان على سطح البحر هذا الاتحاد لماذا الآن

إقرأ أيضاً:

عبد الله حمدوك.. المدني الذي آثر السلامة فدفعه الجيش إلى الهامش

في صباح الأول من يناير/كانون الثاني عام 1956، وقف رئيس الوزراء السوداني إسماعيل الأزهري وزعيم المعارضة محمد أحمد المحجوب في ساحة قصر الحاكم العام بالخرطوم، الذي أصبح يُعرف فيما بعد بالقصر الجمهوري، وسط حشد جماهيري مهيب، ورفعا على السارية علم السودان ذا الألوان الثلاثة: الأخضر رمز الزراعة، والأصفر رمز الصحراء، والأزرق رمز الماء والنيل، الذي تغيَّر لاحقا في عهد الرئيس جعفر النميري عام 1970.

على بعد حوالي 700 كيلومتر من مشهد إعلان استقلال السودان في العاصمة، وبالتحديد في مدينة الدبيبات بولاية جنوب كردفان، كانت أرملة المرحوم آدم حمدوك تضع مولودها عبد الله، الذي سيصبح فيما بعد رئيسا للوزراء وأحد أبرز الوجوه السياسية في السودان المعاصر.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كيف نفهم خريطة الصراع في السودان؟list 2 of 2النظرية خضراء والتجربة رمادية.. لماذا تعثر الإسلاميون في السودان؟end of list

 

 من كردفان إلى مانشستر

تعود أصول عبد الله آدم حمدوك إلى قبيلة بني كنانة العربية في سهول كردفان، وقد تلقى تعليمه المتوسط في مدينة الدلنج، ثم انتقل إلى مدينة الأُبيِّض بولاية شمال كردفان، حيث أكمل تعليمه في مدرسة خور طقت الثانوية، وهي إحدى ثلاث مدارس ثانوية تأسست في عهد الاستعمار البريطاني في السودان.

بعدئذ، شدَّ حمدوك الشاب الرحال إلى الخرطوم، فالتحق بجامعة الخرطوم العريقة، التي كانت امتدادا لكلية غردون التذكارية التي أنشأها البريطانيون، وتخصَّص هناك في الاقتصاد الزراعي وتفوَّق فيه، حتى حصل على درجة الإجازة مع مرتبة الشرف عام 1975.

رئيس الوزراء السوداني السابق عبد الله حمدوك (يسار) ورئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد (مواقع التواصل)

في الجامعة، أدّى الحراك الطلابي دورا محوريا في تشكيل الحياة السياسية السودانية؛ بداية من مؤتمر الخريجين عام 1938 مرورا باشتعال ثورة أكتوبر 1964 ضد نظام الرئيس إبراهيم عبود.

إعلان

وقد استمر التفاعل السياسي النشط في الجامعة طوال السبعينيات، فظهرت حركة الطلاب المحايدين، وتلتها صراعات عنيفة في الثمانينيات بين طلاب الجبهة الإسلامية وطلاب اليسار والقوى التقليدية.

وفي خضم هذا الزخم، انضم حمدوك إلى الحزب الشيوعي السوداني أثناء دراسته، لكنه لم ينخرط في السياسة كليًّا، إذ انشغل بالتحصيل الأكاديمي وترك عضوية الحزب بعد وقت قصير.

بدأت مسيرة حمدوك المهنية عقب تخرُّجه عام 1981 حين عمل في وزارتي الزراعة والمالية والتخطيط الاقتصادي حتى عام 1987، قبل أن يتوجَّه إلى بريطانيا لإكمال دراسته العليا بكلية الدراسات الاقتصادية في جامعة مانشستر ضمن بعثة حكومية، رغم إحالته لاحقا إلى "الصالح العام" عام 1990.

وقد حصل حمدوك على الدكتوراه عام 1993، وفي أثناء دراسته تعرف على زوجته منى، الحاصلة على الدكتوراه في التنمية من جامعة لايدن بهولندا، التي تولت منصبا رفيعا في الاتحاد الأفريقي، ولديه منها ولدان، هما علي وعمرو.

من العمل الدولي إلى المرحلة الانتقالية

في نهاية الثمانينيات، ترك حمدوك العمل الحكومي في السودان وهو في الثلاثينيات من عمره، متوجها إلى زيمبابوي للعمل في شركة "ديلويت"، وهي إحدى أكبر أربع شركات عالمية تعمل في مجال التدقيق والاستشارات المالية، وعمل بها حتى عام 1995، ثم تولَّى منصب كبير المستشارين الفنيين في منظمة العمل الدولية في جنوب أفريقيا وموزمبيق حتى عام 1997.

وبعد ذلك عُيِّن حمدوك في بنك التنمية الأفريقي في ساحل العاج (1997-2001)، ثم انضم إلى اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة في أديس أبابا (2001-2003)، حتى أصبح نائبا للأمين العام التنفيذي للجنة، كما عمل أيضا مديرا إقليميا للمعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية (2003-2008).

انتقل حمدوك إلى منصب كبير الاقتصاديين ونائب الأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية لأفريقيا منذ عام 2011، قبل أن يُعيِّنه بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، في منصب القائم بأعمال الأمين العام التنفيذي للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأفريقيا لمدة عام واحد عام 2016.

إعلان

شغل حمدوك فيما بعد منصب كبير مستشاري بنك التجارة والتنمية حتى اختير رئيسا لوزراء السودان بعد الإطاحة بنظام البشير عام 2019.

على خلفية سقوط النظام، تأسَّس في يناير 2019 تحالف قوى الحرية والتغيير، وفي أبريل/نيسان 2019 أعلن وزير الدفاع الفريق عوض بن عوف عبر بيان تلفزيوني "اقتلاع النظام والتحفُّظ على رأسه بعد اعتقاله في مكان آمن"، إلى جانب حلِّ الحكومة وتعطيل الدستور وتشكيل مجلس عسكري انتقالي يتولى إدارة البلاد لمدة عامين.

ولكن بيان بن عوف لم يلق قبول الشارع السوداني الذي رأى فيه إعادة إنتاج نظام البشير، وبعد يوم واحد فقط خرج بن عوف في بيان جديد وأعلن استقالته وكلَّف الفريق عبد الفتاح البرهان برئاسة المجلس العسكري الانتقالي، مع التعهد بتشكيل حكومة مدنية تدير البلاد.

لم تنل تلك الخطة رضا قطاعات من المُحتجين الذين اعتصموا أمام مقر القيادة العامة للقوات المسلحة، مطالبين بتولي حكومة مدنية. وفي يونيو 2019 وقعت مجزرة القيادة العامة، حيث قتل أكثر من 125 معتصما وانتشرت تسجيلات توثِّق تورط عناصر من قوات الدعم السريع، وجدير بالذكر أن نتائج التحقيقات لم تظهر حتى الآن.

بعد محادثات ووساطة برعاية إثيوبيا والاتحاد الأفريقي، أُعلِن عن الوثيقة الدستورية في أغسطس/آب 2019، وهي صيغة لتقاسم السلطة بين المجلس العسكري الانتقالي والقوى المدنية، وفي مقدمتها قوى الحرية والتغيير، ثم تشكَّل مجلس السيادة الانتقالي لإدارة البلاد لمدة 3 سنوات تقريبا، على أن تتولى رئاسة الوزراء شخصية مستقلة تُرشِّحها قوى الحرية والتغيير، وبناء على هذا الاتفاق أصبح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) نائبا له.

وقع اختيار القوى المدنية على حمدوك لرئاسة الحكومة، وعزز ذلك الاختيار رفض حمدوك تولي وزارة المالية في حكومة معتز موسى، التي تشكلت تحت رئاسة البشير قبيل ثورة ديسمبر، إلى جانب كونه شخصية تكنوقراطية لم يُعرَف لها انتماء أو نشاط سياسي صريح، وكذلك خبرته في التنمية الاقتصادية التي اكتسبها في سنوات عمله، ومشاركته في مبادرات سلام أفريقية للتوسُّط في نزاعات دارفور وكردفان والنيل الأزرق، علاوة على دوره في وضع سياسات النمو الاقتصادي في إثيوبيا أثناء حكومة ميليس زيناوي.

إعلان براغماتي في عاصفة الثورة

في يوم 21 أغسطس 2019، وعلى متن طائرة قادمة من أديس أبابا إلى الخرطوم، وصل الدكتور عبد الله حمدوك، الذي اقترب حينها من منتصف عقده الستين، وأدى اليمين الدستورية أمام البرهان، ليصبح أول رئيس وزراء للسودان عقب الإطاحة بنظام البشير.

في كلمته، وصف حمدوك نفسه بأنه "لا يحمل عصا موسى"، وأنه سيسلك نهجا براغماتيا لإصلاح الاقتصاد السوداني عن طريق وقف الحرب، ثم تنفيذ إصلاحات مستندة إلى نماذج التنمية الغربية ونماذج التنمية التي طُبِّقَت في النمور الآسيوية وكوريا الجنوبية.

ولكن في غضون عشرة أشهر من توليه رئاسة الحكومة، اندلعت مظاهرات في يونيو/حزيران 2020 احتجاجا على ضعف أداء الحكومة تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والغلاء المعيشي، وطالبت بتعديلات وزارية وتصحيح مسار الثورة، كما نادت بإصلاح النظام القضائي وإقالة المدير العام للشرطة وتعيين ولاة من الدفة المدنية، واستجابةً لطلبات المتظاهرين، اضطر سبعة وزراء إلى مغادرة الحكومة، بينهم وزراء المالية والخارجية والصحة، إضافة إلى الزراعة والثروة الحيوانية والبنى التحتية، كما أقيل المدير العام لجهاز الشرطة.

وقد سبق ذلك تشكيل لجنة طوارئ اقتصادية لمواجهة تحديات الاقتصاد السوداني، وهي لجنة طالتها انتقادات حادة تساءلت عن كفاءتها، خاصة أنها جاءت برئاسة حميدتي، الذي لم تُعرف عنه أي خبرة اقتصادية سابقة، في حين اكتفى حمدوك بأن يكون نائبا له.

ظهر تهميش المكون المدني المتمثل في حمدوك داخل بنية السلطة الانتقالية بشكل أوضح عندما قاد حميدتي الوفد الحكومي في مفاوضات سلام جوبا مع حركات الجبهة الثورية المسلحة، رغم العداء التاريخي بين الطرفين، وهي خطوة كان من المفترض أن يضطلع بها رئيس الوزراء المدني بخبرته السابقة.

ولكن الأخير اكتفى بإجراء مشاورات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال (جناح عبد العزيز الحلو)، التي رفضت الانضمام لمشاورات جوبا.

إعلان

ولم تسفر محادثات حمدوك والحلو، إلا عن اتفاق مبادئ لم يتطور لدمج الحركة بفعالية في عملية السلام. وعلى صعيد آخر ساهم حمدوك عبر مباحثات مع الولايات المتحدة في رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب في ديسمبر/كانون الأول 2020، وذلك بعد أن وافقت السلطات السودانية على تطبيع العلاقات مع إسرائيل، رغم أن حمدوك سبق أن رفض ربط التطبيع برفع السودان من قائمة الإرهاب وشدَّد على أن قضية التطبيع تحتاج إلى نقاش عميق في المجتمع السوداني.

أعلن حمدوك تشكيل حكومته الثانية في فبراير/شباط 2021 استجابة لمتطلبات اتفاقية جوبا للسلام، وتشكيل حكومة جديدة من 26 وزيرا تضم ممثلين من قوى الحرية والتغيير، والحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق.

وبعد حوالي شهر، تعرض حمدوك لمحاولة اغتيال بعبوة ناسفة استهدفت موكبه في الخرطوم، دون إعلان جهة مسؤولة عن الحادث، وتشكَّلت لجنة تحقيق دون صدور نتائج رسمية حتى الآن.

وقد واجهت الحكومة عدة تحديات من جائحة كوفيد إلى تنفيذ اتفاق السلام الهش مع الجماعات المتمردة، والسعي للتفاوض على اتفاق مع الجماعات التي لم تنضم للاتفاق، وإصلاح قطاع الأمن، وسن قوانين الانتخابات، وعقد مؤتمر دستوري لتشكيل حكومة دائمة، واستكمال هياكل الوثيقة الدستورية، وفي مقدمتها المجلس التشريعي.

علاوة على ذلك، برزت العديد من التحديات الإقليمية، مثل الخلاف بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة على النيل الأزرق قرب حدود السودان، والنزاع الحدودي مع إثيوبيا في إقليم الفشقة، واستقبال 65 ألف لاجئ إثيوبي نتيجة الصراع في إقليم تيغراي، وكل ذلك في خضم وضع اقتصادي عصيب، وارتفاع أسعار السلع الأساسية ونقص الخبز والوقود، ووصول معدل التضخم إلى 141% عام 2020.

الطريق إلى الأزمة

بدا أن حمدوك عازم رغم كل ذلك على السير نحو إصلاحات اقتصادية متوافقة مع أجندة صندوق النقد الدولي متقشفة، ومنها رفع الدعم عن الوقود، وتخفيض قيمة العملة، كما سعى إلى فرض سيطرة الحكومة على الشركات المملوكة لقوى الأمن.

إعلان

ولكن سياسة التقشف في بلد يفتقر إلى بنى تحتية أساسية وبعد ثورة شعبية عارمة حفَّزتها أزمة اقتصادية عنيفة، سرعان ما فاقمت من معاناة المواطنين، وزادت من الغضب الشعبي، ولذا اعترف حمدوك بالصعوبات الناجمة عن الإصلاحات، لكنه أبدى أمله أن يظهر أثرها الإيجابي بسرعة، وقال إن الشعب السوداني دفع ثمنا غاليا للإصلاحات ولا بد من تحقيق تطلعاته.

على ضوء التملمُل الشعبي والمشهد الانتقالي المُحتقِن بين المكونين المدني والعسكري، أرسل حمدوك يوم 27 يناير 2020 خطابا إلى الأمين العام للأمم المتحدة دون التنسيق مع المكون العسكري، طالبا إرسال بعثة أممية تحت البند السادس من الميثاق لمساعدة السلطة الانتقالية في دفع عملية السلام.

وقد فُسِّرَت هذه الخطوة حينها بأنها التفاف على مجلس السيادة الذي عَدَّ الطلب استقواء بالأمم المتحدة. وبعد عام واحد، مرَّر الكونغرس الأميركي "قانون التحول الديمقراطي في السودان والمحاسبة والشفافية المالية"، وجاء القانون، الذي وقف وراءه ناشطون سودانيون، مُلوّحا بفرض عقوبات إذا لم يُسلِّم العسكريون رئاسة مجلس السيادة إلى المدنيين بعد انقضاء دورتهم وفقا للوثيقة الدستورية.

وصل التوتر بين الطرفين المدني والعسكري إلى ذروته في سبتمبر/أيلول 2021 عندما أُعلِن عن إحباط محاولة انقلابية دبَّرتها مجموعة عسكرية، وقال حمدوك حينها إن المحاولة رتبتها عناصر من داخل المؤسسة العسكرية وخارجها، وأشار إلى سعيها لتقويض المسار الديمقراطي بالبلاد.

ومن جهته انتقد البرهان المدنيين في خطاب له أثناء تخريج دفعة من الضباط قائلا إن "القوى السياسية انشغلت بالصراع على السلطة والمناصب"؛ مما أسهم في وقوع المحاولة الانقلابية، وإن المؤسسة العسكرية لن تترك جهة واحدة تتحكم في مصير البلاد. وقد سار حميدتي على نهج البرهان في مهاجمة المدنيين، وتأكيد مسؤوليتهم عن فشل المرحلة الانتقالية.

قائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان (يمين) وبجواره رئيس الحكومة السابق عبد الله حمدوك (الفرنسية)

انتقلت التجاذبات إلى الشارع وخرجت مظاهرات مؤيدة لكل طرف، كما حدث انقسام بين القوى المدنية ذاتها؛ مما أدّى إلى انشقاق تحالف الحرية والتغيير إلى جناحين، هما المجلس المركزي والكتلة الديمقراطية، إضافة إلى تصاعد الاحتجاجات المناطقية ضد اتفاق جوبا وبعض بنود الوثيقة الدستورية، وتجلَّى ذلك في إغلاق طريق شرق السودان، الذي تتدفق منه 70% من احتياجات البلاد من الخارج، مع تصاعد انتقادات لحمدوك تتهمه بضعف الأداء وغياب الإنجازات في الملفات العاجلة التي تمس حياة المواطن.

إعلان

وقد أعلن حمدوك منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2021 خريطة طريق من عشرة بنود للخروج من الأزمة، لكن بعد أقل من أسبوعين تحرَّك الجيش بمساندة الدعم السريع، ووضع حمدوك تحت الإقامة الجبرية، وحلَّ الحكومة ومجلس السيادة، وعطَّل العمل بالوثيقة الدستورية، وألقى القبض على أغلب أعضاء الحكومة وشخصيات سياسية بارزة.

أتى التحرُّك المفاجئ من الشارع السوداني، فرغم التردي الاقتصادي الذي عاشته قطاعات واسعة من السودانيين أثناء حكومتيْ حمدوك، فإنها خرجت في مظاهرات ضخمة رافضة قرارات الجيش، واعتبرت ما حدث انقلابا على ثورة ديسمبر، ولذا حظي حمدوك بتأييد شعبي كبير ورفع المتظاهرون صوره مطالبين بعودته.

ونتيجة لذلك أفرِج عن حمدوك، وجرى توقيع اتفاق سياسي مع البرهان عاد بموجبه إلى منصبه في نوفمبر/تشرين الثاني، وهي خطوة لم تلق تأييدا من مناصريه وخسر بها جزءا من مصداقيته في صفوف المعسكر المؤيد للانتقال المدني الديمقراطي، إذ تحوَّل في نظر هؤلاء إلى خائن متحالف مع الجيش ويُسهِّل عودة النظام السابق.

برَّر حمدوك موقفة حينها بأنه كان يهدف لحقن الدماء، وقطع الطريق على قوى الثورة المضادة، وحذَّر من أن البلاد "تواجه تراجعا كبيرا في مسيرة الثورة، يهدد وحدتها واستقرارها"، لكن الشارع لم يهدأ، وزادت الانقسامات، وخرج السودانيون في مظاهرات شهدت مناوشات مع الأمن وأسفرت عن ضحايا ومصابين، وهو ما أجَّج الوضع، وجعل حمدوك في موقف أكثر حرجا. وفي 2 يناير 2022، أعلن حمدوك استقالته رسميا من منصبه في خطاب بمناسبة عيد استقلال البلاد، معترفا بفشله في إيجاد توافق سياسي لعبور الفترة الانتقالية.

الحرب

بعد استقالته، اختفى حمدوك عن الساحة السياسية وتصاعدت الانقسامات داخل المجتمع السوداني، وتعدَّدت المبادرات الإقليمية والدولية للتقريب بين وجهات نظر الفرقاء، إلى أن وُقِّع اتفاق إطاري في ديسمبر 2022 بين الجيش وقوات الدعم السريع من جهة والمجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير من جهة أخرى.

إعلان

وحدَّد الاتفاق فترة انتقالية جديدة مدتها عامان تبدأ بتولي رئيس الوزراء الجديد مهام منصبه. وقد انقسمت المواقف حول الاتفاق بين داعم ورافض، سواء في الشارع السوداني أو بين القوى المدنية، واستمرت الانقسامات والمظاهرات إلى أن ظهرت بوادر خلاف داخل المكون العسكري بإعلان حميدتي أن خطوة الإطاحة بحمدوك في أكتوبر 2021 خطأ فتح الباب أمام عودة النظام القديم، فيما عدَّه كثيرون إشارة إلى تقارب بين قائد قوات الدعم السريع والمجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير.

وفي صباح 15 أبريل 2023 اندلعت الحرب التي ما زالت تدور رحاها بين القوات المسلحة السودانية بقيادة البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي.

عاد حمدوك إلى المشهد بعد حوالي شهرين من اندلاع الحرب على رأس تحالف "تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية" المعروفة اختصارا بـ"تقدُّم"، وذلك من أجل طرح "رؤية سياسية لوقف الحرب وإعادة الإعمار"، وأعلن التحالف وقوفه على مسافة واحدة من طرفي الصراع الدائر، واعتبر الطرفيْن متساويَّين.

وهي خطوة تسبَّبت في عدد من الانتقادات وأثارت الشكوك حول انحياز "تقدُّم" إلى الدعم السريع، وتواطئها في محاولة إنقاذ مشروع حميدتي بعد فشل انقلابه على الجيش، خاصة بعد أن وقع حمدوك مع حميدتي في أوائل عام 2024 إعلان "أديس أبابا" لوقف الحرب، بعد أن مرَّ حوالي عام على الحرب، التي ارتكبت خلالها قوات الدعم السريع انتهاكات جسيمة بحق المدنيين شملت عمليات تصفية عرقية واغتصاب وتهجير قسري وثَّقتها المنظمات الدولية؛ مما دفع حكومة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته جو بايدن إلى اعتبارها أعمال إبادة جماعية بحق المدنيين.

وتأكَّد هذا التصوُّر لمنتقدي "تقدُّم" عندما انشق فصيل مُهِم عنها أوائل العام الجاري، وانضم صراحة إلى قوات الدعم السريع لتشكيل حكومة سودانية موازية على الأراضي الواقعة تحت سيطرة حميدتي، فيما سُمي بتحالف تأسيس، وهي خطوة تفتح الباب أمام تقسيم فعلي ثانٍ للسودان بعد انفصال الجنوب عام 2011، لكن الإعلان لاقى رفضا إقليميا ودوليا واسعا.

إعلان

من جهته، اكتفى حمدوك ومن بقي معه في "تقدُّم" بإعلان حل التنسيقية، وإنشاء كيان جديد أطلق عليه "صمود"، متبنيا الخطاب السابق نفسه الداعي إلى وقف الحرب، الذي فشل على مدار عامين في تحقيق أي إنجاز يُذكَر.

وقد أطلق حمدوك في أوائل الشهر الجاري عبر حسابه الرسمي على موقع إكس ما أسماه "نداء سلام السودان"، داعيا طرفي الصراع إلى التفاوض برعاية مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي، وهي خطوة اعتبرها كثيرون تفتقر إلى الواقعية السياسية وتتجاهل تطوُّرات الأوضاع الميدانية على الأرض وتقدُّم الجيش في محاور مختلفة وسط هزائم متتالية للدعم السريع، مع احتمال فتح جبهات جديدة للقتال.

ويحدث كل ذلك في ظل أسوأ أزمة إنسانية في العالم يعيشها السودانيون منذ عامين، بحسب تقديرات المؤسسات الأممية، أسفرت عن أكثر من 150 ألف قتيل حتى الآن.

من المؤكد أن شخصية عبد الله حمدوك أتت في ظرف محوري في تاريخ السودان، وأن حبرا كثيرا سيسيل لتقييم دوره، بين منتقد يعتبره مسؤولا عن ضياع ثورة عظيمة أريقت فيها دماء السودانيين الذين بذلوا فيها الغالي والنفيس، بسبب سوء تخطيطه وافتقاره إلى الرؤية والحكمة اللازميْن، وبين مؤيد يعتبر أن الرجل بذل ما في وسعه، وأنه ضحية تآمر العسكر وبقايا نظام البشير.

لكن المؤكد أن حمدوك كان في موضع القيادة وفشل -حسب تعبيره في بيان استقالته- في إيجاد توافق وطني بين مكونات مجتمع غني بتنوعه الثقافي والإثني والسياسي للعبور بالسودان وثورته في لحظة فارقة من تاريخه، ولعل اختيار شخصية تكنوقراطية تفتقر إلى الحس السياسي لقيادة فترة التحول الحاسمة في خضم ثورة شعبية، أمرٌ لم يكن مناسبا.

مع كل ذلك، سيظل حمدوك رمزا للتجربة الانتقالية في السودان؛ مما سيجعل إرثه موضوع نقاش طويل في كتب التاريخ والسياسة.

مقالات مشابهة

  • عبد الله حمدوك.. المدني الذي آثر السلامة فدفعه الجيش إلى الهامش
  • الأمم المتحدة تندد بأعمال العنف ضد المدنيين في جنوب السودان
  • وفد سعودي رفيع في بورتسودان غدا.. احتياجات السودان العاجلة تتصدر المباحثات
  • الاتحاد الأوروبي محذرا إسرائيل: احترام أرواح المدنيين واجب وضم أراضي غزة "خط أحمر"
  • وزارة الداخلية: مديرية أمن ريف دمشق تلقي القبض على المجرم شادي عادل محفوظ الذي عمل لدى شعبة المخابرات العسكرية فرع 277 زمن النظام البائد
  • عادل الباز يكتب: الخطة (ط): التطويق (3)
  • بعد الانتصارات المتوالية للجيش.. السودان.. «الدعم السريع» يستهدف المدنيين
  • عاجل.. إبراهيم عادل يغادر معسكر منتخب مصر قبل مواجهة سيراليون
  • عادل الباز يكتب: ماذا يعني تحرير القصر؟
  • دعاء ليلة القدر الذي أوصى به الرسول .. اغتنم الوقت وردده الآن