دكتور هشام عثمان
طبيب مخ واعصاب وكاتب سياسي

السودان بلد معقد بتاريخه السياسي والاجتماعي، حيث تداخلت الحروب الأهلية على مر العقود، مشكّلة بانوراما متشابكة من النزاعات التي أظهرت تناقضات بين أطراف البلاد ومركزها. لفهم هذه الحروب بشكل متكامل، يجب استعراضها في سياقها التاريخي والاجتماعي، حيث يمكن تقسيم النزاع السوداني إلى مرحلتين رئيسيتين: "حرب الأطراف تاريخيًا" و"حرب المركز راهنيًا".

هذا التحليل يستعرض كيف تفاعلت هاتان المرحلتان وأثرتا على تشكيل السودان كدولة معاصرة.

أولًا: حرب الأطراف تاريخيًا

1. الأصول التاريخية للنزاع في الأطراف:

تعود جذور حرب الأطراف إلى مرحلة ما قبل استقلال السودان في عام 1956، حيث كانت هناك انقسامات حادة بين الشمال والجنوب نتيجة للسياسات الاستعمارية البريطانية، التي طبقت نظامًا مزدوجًا (Double Administration) في شمال وجنوب السودان، ما عمّق الفجوة الاقتصادية والثقافية والسياسية بينهما.

2. حرب الجنوب (1955-2005):

هذه الحرب كانت النموذج الأبرز لحروب الأطراف، حيث سعى الجنوب إلى تحقيق استقلاله عن الشمال بسبب سياسات التهميش والتمييز. اندلعت الحرب الأولى في عام 1955، قبل الاستقلال الرسمي للسودان، واستمرت حتى 1972، عندما تم توقيع اتفاقية أديس أبابا التي منحت الجنوب حكمًا ذاتيًا، لكنها لم تحل جذور الأزمة. في 1983، اندلعت الحرب الثانية بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان تحت قيادة جون قرنق، وامتدت حتى توقيع اتفاقية السلام الشامل (CPA) في 2005، التي مهدت الطريق لانفصال الجنوب في 2011.

3. حروب الهامش الأخرى:

لم تقتصر حروب الأطراف على الجنوب فحسب، بل شملت مناطق أخرى مثل دارفور، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق. بدأت هذه النزاعات في شكل مطالبات بتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والتنمية المتوازنة، لكنها تطورت إلى صراعات مسلحة ضد الحكومة المركزية. حرب دارفور، التي بدأت في 2003، تُعتبر واحدة من أكثر الحروب دمويةً وأثرت بشكل كبير على العلاقات بين الأطراف والمركز، حيث اتهمت الحكومة السودانية بتأجيج الصراع عبر دعم مليشيات اطلق عليها مسمي الجنجويد حينها..

ثانيًا: حرب المركز راهنيًا

1. التغيير الجذري في مركز الصراع:

تحوّلت طبيعة الصراع السوداني بعد انفصال جنوب السودان في 2011. أصبحت الحروب تُدار من المركز ذاته، حيث تصاعد الصراع بين مكونات السلطة، وظهرت النزاعات داخل الخرطوم وحولها، بما في ذلك النزاع العسكري بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع.

2. انفجار النزاع داخل المركز:

في ظل حكم نظام الإنقاذ (1989-2019)، بقيادة عمر البشير، هيمنت نخب المركز على السلطة والثروة، متجاهلة مطالب الهامش. أدت هذه السياسات إلى بروز تيارات معارضة داخل المركز، كما ازدادت الانقسامات داخل النخبة الحاكمة نفسها، ما أدى إلى إسقاط نظام البشير في 2019. ومنذ ذلك الحين، تصاعدت التوترات بين الأطراف السياسية والعسكرية في المركز، حيث حاولت كل مجموعة تأمين مصالحها على حساب الاستقرار الوطني.

3. الصراع الراهن بين الجيش والدعم السريع:

الحرب الحالية بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) هي أبرز مثال على حرب المركز. هذا الصراع ينبع من التنافس على السلطة والنفوذ داخل الخرطوم، ويمثل تحولًا كبيرًا في طبيعة النزاعات السودانية، حيث لم تعد الحرب تدور حول المركز والهامش فقط، بل داخل المركز ذاته. أصبحت الخرطوم ساحة للمعارك، ما أفرغ السلطة المركزية من مضمونها وخلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار.

4. الأبعاد الجديدة لحرب المركز:

تشمل حرب المركز الراهنة أبعادًا جديدة تتعلق بالصراع على الموارد الاقتصادية (خاصة الذهب)، والسيطرة على المؤسسات العسكرية والأمنية، ومحاولة كل طرف كسب الشرعية الدولية والمحلية. تداخلت المصالح الإقليمية والدولية في هذا الصراع، مما جعل منه حربًا مركبة يصعب حسمها بسهولة.

ثالثًا: تفاعل الحروب وتشكيل الدولة السودانية

1. التداخل بين حروب الأطراف والمركز:

تشكل حروب الأطراف والمركز سلسلة متصلة من الأزمات التي أضعفت بنية الدولة السودانية. أثرت حروب الأطراف تاريخيًا على كيفية تشكل المركز، حيث اتخذت النخب الحاكمة سياسات إقصائية وتهميشية تجاه الأطراف، ما ولّد شعورًا بالظلم. هذا الشعور انتقل إلى المركز ذاته مع الزمن، إذ بات المركز نفسه يعاني من صراع نخبوي على السلطة.

2. الهوية السودانية والهويات الفرعية:

لعبت الحروب المتعددة دورًا في تشكيل مفهوم الهوية السودانية، حيث ظل الانقسام بين الهوية العربية والإفريقية، وبين الهويات القبلية والجهوية، حاضرًا في كافة الصراعات. هذا التباين الهوياتي زاد من تعقيد الأزمة، خاصة في ظل غياب مشروع وطني جامع يهدف إلى توحيد السودانيين تحت راية واحدة.

3. الإرث السياسي للأنظمة المتعاقبة:

تراكمت السياسات الخاطئة للأنظمة المتعاقبة، من الاستعمار البريطاني إلى حكومة الإنقاذ، في خلق دولة مركزية ضعيفة وغير قادرة على إدارة التنوع السوداني. كانت النتيجة النهائية هي تحوّل السودان إلى دولة هشة، تتنازعها الحروب من الأطراف إلى المركز، دون وجود مؤسسات قوية تستطيع احتواء الصراعات.

رابعًا: آفاق المستقبل

1. هل يمكن تجاوز حروب المركز والهامش؟

إن إنهاء هذه الحروب يتطلب إعادة هيكلة الدولة السودانية بشكل يعالج جذور الأزمة. لا يمكن حل أزمة المركز دون حل أزمة الأطراف، والعكس صحيح. يجب الاعتراف بحقوق الهامش في المشاركة العادلة في السلطة والثروة، وفي ذات الوقت، يجب إصلاح المركز بحيث يكون قادرًا على تمثيل كافة مكونات الشعب السوداني.

2. التحديات الراهنة:

الصراع الحالي بين الجيش والدعم السريع هو انعكاس لتحدي بناء دولة متماسكة. إذا لم يتم التوصل إلى تسوية شاملة تأخذ بعين الاعتبار إصلاح المؤسسات العسكرية والمدنية، فإن السودان قد يتجه إلى حالة من التفكك الكامل، حيث تنقسم البلاد إلى مناطق نفوذ متعددة، مما يعيد إنتاج حرب الأطراف بشكل جديد.

3. فرص الحل:

إن تحقيق الاستقرار يتطلب بناء مشروع وطني يتجاوز المصالح الضيقة للنخب. يجب أن يشمل هذا المشروع عملية مصالحة وطنية شاملة، إعادة توزيع السلطة والثروة بشكل عادل، وبناء مؤسسات ديمقراطية تضمن مشاركة كافة الأطراف في اتخاذ القرار.

السودان يعيش اليوم في قلب معركة مزدوجة بين المركز والهامش، وبين نخب المركز نفسها. هذا الصراع المعقد لا يمكن فصله عن تاريخه الطويل من الحروب والنزاعات التي أرهقت البلاد وشعبها. الحل الأمثل يكمن في إعادة بناء الدولة السودانية على أسس رومجديدة تحترم التنوع، وتعالج التفاوتات البنيوية بين المركز والأطراف، وإعادة صياغة مفهوم الوطنية السودانية بشكل يضمن الوحدة والاستقرار للجميع.

hishamosman315@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الدولة السودانیة حرب الأطراف حرب المرکز بین الجیش

إقرأ أيضاً:

جيوش مريبة غربي الفرات

بقلم: كمال فتاح حيدر ..

أعلنت الأطراف الشرق أوسطية منذ سويعات عن مفاجآت حربية من العيار الثقيل. جاء ذلك بالتزامن مع استعدادات قيادة النيتو لتوجيه ضربات استباقية هنا وهناك. وتبرعت بلدان أوروبية بإرسال طائراتها المسيرة لضمان ديمومة الحرب التي باتت وشيكة الوقوع. .
الأغرب من ذلك ان الجيش المصري استنفر قواته البرية، وزحف بها نحو سيناء، ليس لطرد الخياليم من محور فيلادلفيا، بل لكي ينضم إلى الجبهة الأردنية المكلفة سرا بتشكيل نواة التحالف العربي في البادية العراقية. بمعنى ان القوات المصرية باتت على أتم الاستعداد للزحف من النيل إلى الفرات بمشاركة القوات العربية التي شاركت اول مرة عام 1991 في عاصفة الصحراء، وشاركت للمرة الثانية في غزو بلادنا عام 2003. . شاركت مرتين، والثالثة ثابتة. .
من حقنا ان نهلوس ونثرثر ونستجيب لكوابيسنا ومخاوفنا باختلاق هذه التوقعات القريبة من توقعات المنجمين. لم لا ؟. إذا كانت أوكرانيا المدعومة بقوة من النيتو تقترب من رفع الراية البيضاء، وإذا كان الدب الروسي يعلن من وقت لآخر ان من يحكمون أوكرانيا جاءوا من كوكب آخر، ويضع شروطا جديدة لضمان بقاء قواته في سوريا وشرق أوكرانيا. وإذا كان الحوثيون يوجهون غواصاتهم غير المأهولة لضرب الفرقاطات الأمريكية والبريطانية ؟. من اين جاءتهم هذه التقنيات المتقدمة ؟. وكيف انهارت تحصينات النيتو في كييف ؟. ومن اين جاءت الطائرات المجهولة الموالية للبرهان في السودان ؟. .
لم يكن بمقدور المحللين ان يتوصلوا لهذه التوقعات قبل بضعة ايام، فلا تستغرب من مخاوفنا وهلوساتنا عندما نخشى تقدم القوات المصرية والأردنية نحو صحراء النخيب. .
لدينا الآن حرب في غزة، وحرب في لبنان، وحرب في سوريا، وحرب في اليمن. وايران مهددة بضربات جوية مدمرة، وبالتالي لابد من اندلاع الاشتباكات المُتخيلة في العراق، وتحديدا غرب الفرات، آخذين بعين الاعتبار القواعد الأمريكية المنتشرة في الأردن (16 قاعدة) ناهيك عن قاعدة (عين الأسد) في العراق، وقاعدة (التنف) في سوريا. .
ثم ان الخرائط التي استعرضها نتنياهو بكل وضوح تحت سقف الامم المتحدة. تضمنت حدود الرقعة المرشحة لبسط نفوذ جيوشه من النيل الى الفرات، واستعرض ايضاً خارطة سوداء شملت سوريا والعراق وايران، وخارطة خضراء شملت الأردن ومصر. وهي بطبيعة الحال خرائط تفسر محاور التحركات الحربية المتوقعة لاجتياح العراق من بوابته الغربية. .
المصيبة الكبرى انك لن تجد محللا عراقيا واحدا يتطرق لهذه التوقعات، ولن تجد محللا عسكريا في وزارة الدفاع العراقية أخذ هذه الاحتمالات على محمل الجد ؟. لا غرابة في ذلك أبداً. فالجهات الرسمية وغير الرسمية لم تتوقع تسلل فلول الدواعش إلى الموصل عام 2014، حتى جاء اليوم الذي وقعت فيه الفأس بالرأس. .
اما الآن فلا تندهشوا ولا تستغربوا بعد تفجر الأوضاع في كل مكان. كل الاحتمالات واردة. أكاد اسمع قرع طبولهم بين (عرعر) و (طريبيل) لذا يجب أن نكون اوفياء للقيم والمبادئ الوطنية. .

د. كمال فتاح حيدر

مقالات مشابهة

  • السيولة في السعودية تبلغ مستوى تاريخيا
  • الخارجية السودانية تكذب تصريحات إسرائيلية بشأن حماس
  • الأميرة آن تعيش بين الحيوانات وترأس نادياً عسكرياً تاريخياً
  • تقرير مهم: السلام في اليمن مرهون بحل الأزمات هذا الأمر
  • العراق يحذر من جر المنطقة والعالم إلى حروب مستمرة
  • ???? الرئيس السيسي حذر من المليشيات وأعلن رفضه لها قبل معظم الساحة السياسية السودانية
  • جيوش مريبة غربي الفرات
  • قائد الثورة :طوفان الأقصى هو عمل فلسطيني بطولي يستند إلى الحق
  • دبلوماسي سابق: مصر تلعب دورا تاريخيا في الدعم الإنساني للبنان