سودانايل:
2025-03-16@06:14:36 GMT

الفكر الثاقب والبعد الأخلاقي

تاريخ النشر: 8th, October 2024 GMT

بقلم: د. محمد حمد مفرح

من المسلمات التي لا يرقى إليها الشك أن التعويل على تفكيك أي ازمة، سياسية كانت او اقتصادية او اجتماعية او خلافها، تحدث في بلد ما و تفرز واقعا كارثياً في ذلك البلد، يجب، أي التعويل، أن يكون على العقل الجمعي للسلطة الحاكمة Authority's Collective mind بذلك البلد او على مفكر مؤهل لاحداث اختراق ما يضع حدا لهذه الأزمة.

و علاوة على الفكر فان ثمة ضرورة لتوافر البعد الأخلاقي في السلطة المسؤولة أو في المفكر و ذلك من اجل تفكيك الأزمة المشار إليها. و يتمثل مفهوم هذين العاملين على التوالي في اعمال الفكر الثاقب ذي المردودات الملموسة مع توافر الأهلية الأخلاقية في السلطة او المفكر المعني.
و اذا توافر هذان العاملان المفتاحيان،أي الفكر و البعد الأخلاقي، و توافرت البيئة المناسبة فسوف يقود هذا الى تفكيك الأزمة و وضع حد لها. و بالعكس فانه اذا لم تكن هنالك بيئة تمهد طريق النجاح للعاملين المشار إليهما فسوف لن يقودا الى تحقيق الهدف المرجو. ذلك أن توافر جميع مقومات تحقيق الهدف و تكاملها يعد امرا ضروريا لتحقيقه.
و قد حفل التاريخ السياسي للدول بعدد مقدر من الحكومات التي جمعت بين العقل السياسي الراجح و الأهلية الأخلاقية Moral competence. كما شهدت دول أخرى اختراقات كبيرة لأزماتها كان وراءها بعض القادة النابهين أو المفكرين الذين توافر فيهم العاملان المشار إليهما سابقا، الأمر الذي عمل على توافر الأهلية لانتشال هذه البلدان من وهدتها حين استحكمت الازمات.
الجدير بالتأكيد أن أهلية حل الأزمة تتضمن، بجانب الفكر الثاقب المعين على اجتراح الحلول غير التقليدية و البعد الأخلاقي في الممارسة السياسية او التعامل الأخلاقي و القدرة على هزيمة المعوقات كأساسيات لا بد منها، تتضمن عوامل أخرى ضرورية لتمهيد طريق النجاح. و من تلك العوامل الواقع السياسي بالبلد المعين و مدى اسهامه في تحقيق النجاح، مع توافر الارادة الوطنية و الشخصية الوطنية و مدى تعاملها الايجابي مع مساعي الحل. و تمثل هذه العوامل مجتمعة البات تفكيك الازمة.و استشراف واقع جديد عنوانه الاستقرار و التطور و الرفاه.
و تبعا لذلك يجب التعويل في حل الأزمات على العقل السياسي للدولة و الذي إذا ما توفر سيعمل على هزيمة أي قوة خارجية يمكن ان تعيق مساعي حل الأزمة او تقوم بالاسهام في حلها مع رهن قرار البلد المأزوم و سلبه استقلالية ارادتة الوطنية.
يقول عالم الاقتصاد الباكستاني محبوب الحق أنه لا يؤمن بوجود أرض جرداء لا موارد فيها بقدر ايمانه بعقل خلاق يمكنه استخراج الكنوز من باطن الأرض. و لا شك في ان هذا القول، و بصرف النظر عن احتمالية انتفاء واقعيته و موضوعيته، يعمل على تعظيم العقل و الدعوة الى ضرورة اعماله كمرجعية فكرية منتجة. و هذا بالقطع ما دعا له ديننا الاسلامي الحنيف و حثنا عليه، في معرض دعوته لاعمال العقل في ترقية الحياة و مواجهة تحدياتها.
و من الأمثلة الحية للدول التي احدثت اختراقات كبيرة في واقعها الاقتصادي دولة الهند الموسومة بعدد السكان الكبير. فقد واجهت الهند خلال العقود القليلة الماضية تحديا وجوديا Existential challenge تمثل
في فجوة جد واسعة بين عدد سكانها الهائل و مواردها الضئيلة.
و قد و قف عالم الاقتصاد السويدي قونار مبردال انذاك على واقع الهند فسماه ب Asian Dilemma أي (المأزق الاسيوي) و حكم على الهنود بالفناء بناء على المعطيات الموضوعية هناك و المتمثلة في إنفجار سكاني مع موارد قليلة، مقارنة بعدد.السكان. و تبعا لذلك فقد ظل يتابع النمو الاقتصادي للهند ليقف على مالات ذلك الواقع الاستثنائي. غير انه وجد بعد متابعته لمدة سنتين انه اخذ، خلافا لتوقعاته، في الأزدهار بوتيرة واعدة. و عندما استقصى الأمر اكتشف ان الهند قامت باعداد إستراتيجية اعلامية ذكية موجهة لمواطنيها من اجل مواحهة هذا الواقع من خلال رفع شعار (اما ان تعمل و تنتج او تموت من الجوع). و قد تجاوب المواطن مع هذا الشعار فكانت المحصلة وفرة في الانتاج الزراعي غير مسبوقة عملت على تحقيق نقلة اقتصادية بالهند وضعتها في صدارة الدول في مجال النمو الاقتصادي ثم ولجت عالم الصناعة من أوسع الأبواب.
كما أن الرئيس الماليزي ماهتير محمد يمثل نموذج العقل السياسي الذي كسر حاجز تقليدية التفكير حتى استطاع ان يهزم واقع بلاده الاقتصادي المأساوي فاستشرفت، بفضل الله و بفضل برنامجه الاقتصادي الذكي عهدا جديدا على اكثر من صعيد.
و اذا تأملنا في واقع دول المحور (المانيا و اليابان و ايطاليا) و التي هزمت في الحرب العالمية الثانية نجد انها تراجعت على صعيد الاقتصاد بدرجة كبيرة جراء الحرب، غير ان حكوماتها المتعاقبة أخذت على عاتقها بناء اقتصاداتها بعد أن توافرت لها العوامل انفة الذكر. و قد نجحت بالفعل في ذلك حتى أضحت قوى اقتصادية رائدة و أحتلت مكانة دولية جد متقدمة في مضمار الاقتصاد و النهضة الشاملة.
اما اذا تأملنا في دول مثل رواندا نجد أنها اصبحت نموذجا دوليا بشار إليه بالبنان من حيث مواجهة واقعها الذي افرزته حربها الضروس التي قضت على الأخضر و اليابس و اورثتها وضعا اقتصاديا كارثيا. و قد تمتعت سلطتها الحاكمة بعد الحرب بالحكمة و سعة الافق السياسي ثم قامت بانقاذ برنامج سياسي، اجتماعي، اقتصادي نفذت من خلاله العدالة الانتقالية Transitional Justice ثم واجهت واقعها فكانت محصلة ذلك عهدا جديدا نقلها نقلة معتبرة على صعيد البناء السياسي و النهضة و التطور.العام.
من جهة أخرى فان السياسي المخضرم و القائد الفذ نيلسون مانديلا استطاع بحكمته و عقله السياسي الراجح و دهائه فضلا عن أهليته الأخلاقية ان يضمد جراح بلده بعد نهاية الابرثايد Aperthied و ينقلها الى مربع الاستقرار و النمو. و قد نفذ برنامج (الحقيقة و المصالحة) و قام يخلق بيئة تعايش معافاة بين سكان البلد الاصليين و البيض المستعمرين الذين سبق و أن اوردوا اهالي البلد الاصليين موارد الهلاك.
و اذا أخضعنا واقع السودان الحالي و مالاته المتوقعة بعد الحرب الجارية، للمعايير المتمثلة في العوامل سابقة الذكر ، و التي تعد ضرورية لتفكيك الازمات و تعبيد طريق الاستقرار و النهضة و التطور، إذا اخضعناها لهذه المعايير نجد أن بلادنا موسومة في الأصل بهشاشة في البنية السياسية Fragility in political structure منذ الاستقلال، اقعدتها و حالت بينها و بين النهضة و التطور برغم توافر الموارد فيها. و تعتبر هذه الهشاشة وليدة الانقلابات العسكرية التي افرزت حكومات شمولية استاثرت بحكم البلاد لسنوات طويلة بالإضافة الى الصراع السياسي بين عدد من القوى السياسية التي لا يتوافر لبعضها النضج السياسي في حين يفتقر بعضها الاخر الى البعد الأخلاقي في الممارسة السياسية. و بالطبع خلق هذا الواقع، مقرونا بمسببات أخرى كثيرة، ازمة سياسية متطاولةPrinlonged political crisis فشلت القوى السياسية في حلها مما ادى الى انسداد افق الحل. و قد ضاعفت الحرب الجارية بالبلاد من الأزمة و افرزت واقعا كارثياً نقل البلاد الى شفا الأنهيار و ظلت بسببه عرضة للتفكك في ظل التعقيدات الماثلة.
لذا فان توافر العوامل المشار إليها في صدر المقال، في يىئتنا السياسية الداخلية و بين احزابنا و نخبنا السياسية علاوة على المعينات الأخرى المطلوبة سالفة الذكر تمثل، مجتمعة، الضمانة الأكيدة لحل ازمة بلادنا
و انتشالها من وهدتها الحالية.
و هذا يستلزم، دون ريب، الوعي التام بمأزق البلاد الراهن، من قبل كل القوى السياسية و التفاعل معه و السمو فوق كل الصغائر و كذا تقديم المصلحة العامة على ما عداها ثم التواضع على برنامج حد ادنى بستهدف انقاذ البلاد من وهدتها. و من الضروري استصحاب تجارب الدول الاخرى التي واجهت ازمات مشابهة و بالذات تلك.التي خرجت من الحروب، و ذلك في سبيل احداث اختراق ايجابي كبير في ازمتنا و الا ظلت بلادنا مفتوحة على كل السيناريوهات.

mohammedhamad11960@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

"السنة النبوية واستقرار الأوطان".. محور ملتقى الفكر الإسلامي بمسجد الحسين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

انعقد ملتقى الفكر الإسلامي عقب صلاة التراويح بمسجد الإمام الحسين رضي الله عنه بالقاهرة، في الليلة الرابعة عشرة من شهر رمضان المبارك، تحت عنوان: "السنة النبوية المطهرة وأثرها في استقرار الأوطان"، وذلك برعاية الدكتور أسامة الأزهري، وزير الأوقاف، وإشراف الدكتور محمد عبد الرحيم البيومي، الأمين العام للمجلس الأعلى للشئون الإسلامية.

يأتي الملتقى ضمن فعاليات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، وجهود وزارة الأوقاف لنشر الفكر الوسطي وتعزيز الوعي الديني خلال الشهر الفضيل.

وشارك في الملتقى كل من: الدكتور أحمد نبوي مخلوف، أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر الشريف.
الدكتور عبدالرحمن رمضان عبدالمجيد، أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر الشريف.

افتتح اللقاء بتلاوة قرآنية مباركة للقارئ الشيخ سيد عبدالكريم الغيطاني، وقدم للملتقى الإعلامي عمر هاشم، المذيع بقناة النيل الثقافية.

وأكد  الدكتور أحمد نبوي مخلوف أن السنة النبوية المطهرة أولت اهتمامًا بالغًا بالأخلاق، والتراحم، والتكافل الاجتماعي، مما يسهم في استقرار الأوطان، كما حثّت السنة على نشر الأمان بين الجيران، بحيث يكون كل فرد مصدر طمأنينة لمن حوله، لا سببًا للخوف والقلق، واستشهد بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" موضحًا أن البوائق تعني الظلم والاعتداء.

وأوضح الدكتور عبدالرحمن رمضان عبدالمجيد أن استقرار الأوطان من المقاصد الكبرى للإسلام، حيث إن الأمن يضمن حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وهي الضروريات الخمس التي أكد عليها العلماء. 
وأشار إلى أن السنة النبوية جاءت بتشريعات ترسّخ الأمن في مختلف جوانب الحياة، مستشهدًا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "من أصبح آمنًا في سِربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا".
واختتم الملتقى بفقرة ابتهالات دينية قدّمها فضيلة الشيخ محمد عبدالسلام الحسيني، وسط أجواء روحانية عالية، نالت استحسان الحضور، الذين أشادوا بأهمية اللقاء في تسليط الضوء على دور السنة النبوية في تحقيق استقرار الأوطان.

FB_IMG_1741959521970 FB_IMG_1741959519210 FB_IMG_1741959516865 FB_IMG_1741959515024 FB_IMG_1741959513231 FB_IMG_1741959511011

مقالات مشابهة

  • التأطير العقدي للعمل.. ضمان التوافق بين الفكر والسلوك في الإسلام
  • المدينة المنورة.. توافر اشتراطات السلامة لخدمة زوار المسجد النبوي
  • عميد الفكر النزواني
  • "السنة النبوية واستقرار الأوطان".. محور ملتقى الفكر الإسلامي بمسجد الحسين
  • غياب التفاهمات يعمق الأزمة السياسية في ديالى
  • غياب التفاهمات يعمق الأزمة السياسية في ديالى - عاجل
  • "لغة القرآن".. انعقاد ملتقى الفكر الإسلامي بمسجد الحسين
  • الإنتلجنتسيا الروسية.. صراع الفكر بين المثالية الثورية والمحافظة الأخلاقية
  • الإنتلجنسيا الروسية.. صراع الفكر بين المثالية الثورية والمحافظة الأخلاقية
  • 11 مايو.. نظر دعوى تُطالب بإلغاء ترخيص قناة تنشر الفكر المتشدد