قال الدكتور محمد الجندي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية: إن الفتوى لها مكانة عظيمة في بناء إنسان قادر على التناغم مع الحياة؛ ففي ظل رحمة الله وتسامح الإسلام يعفى المؤمن من العقد النفسية والتشنجات العصبية التي تهتك حرمة النفس، وتودي به إلى الانتحار، أو الإلحاد.

وأوضح د. الجندي خلال كلمته التي ألقاها اليوم في الندوة التي عقدتها دار الإفتاء المصرية تحت عنوان: (الفتوى وبناء الإنسان)، أن الفتوى ليست مرتعًا للمتفيهقين من المتشدقين والمتنطعين وأنساقهم، فهؤلاء أخطر أداة لتدمير الإنسان وتعطيل عمارة الكون.

وأضاف أنه من المعلوم أنه تقرَّر إجماعًا أن الشريعة إنما جاءت لمصلحة العباد في العاجل والآجل معًا، ومن أكبر الأخطار في هذا الزمان: استعمال الشبكة العنكبوتية كمصدر لفتاوى المتفيهقين، وأنها كارثة عظمى تخترق جدران البيوت، بل تخترق عظام الرأس وأسوار القلب؛ فالإفتاء عظيم الخطر، كبير الموقع، ويتشكل عقل تقني قد تشبَّع بموجات إلحادية تارة، وتارة متطرفة، يروح ضحيتَها الإنسانُ بطموحاته وآماله.

وأوضح الأمين العام أنه عندما يخوض المتفيهق في استنباط الحُكم من النَّص المحكم، تتصاعد لديه أناة التفيهق فيخوض في المتشابه، فالمفتي الفقيه لديه فقه يتعامل من خلاله في ظل مقاصد الشريعة بالتناغم مع تفعيل طاقة الإنسان للعطاء، ومقصد الشريعة هو رعاية مصالح الناس سواء كانت ضروريات، أو تحسينيات، أو حاجيات، وبناءً على مبدأ رعاية المصالح وضع العلماء واستنبطوا قواعدَ خاصةً برفع المشقة والحراج؛ كقواعد: (المشقة تجلب التيسير)، و(الضرر يُزال)، و(الضرر لا يُزال بالضرر)، و(يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام)، و(الضرورات تقدَّر بقدْرها)، و(يُرتكب أخف الضررين لدفع أشدهما).

وأكَّد أنَّ بضاعة الفقه في تجارة الإنسان الوجودية أربح البضائع، وأنَّ الفقهاء يفهمون مراد الشارع، ويفهمون الحكمة في كل واقع، وفتاويهم تميز العاصي من الطائع، ومِن هنا فالمفتي هو المجتهد المتخصص المدقق، فليس كل مَن أفتى مفتيًا، مشيرًا إلى قول ابن عابدين نقلًا عن ابن الهُمَام : «وَقَدِ اسْتَقَرَّ رَأْيُ الأُصُولِيِّينَ عَلَى أَنَّ الْمُفْتِيَ هُوَ الْمُجْتَهِدُ، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُجْتَهِدِ مِمَّنْ يَحْفَظُ أَقْوَال الْمُجْتَهِدِ فَلَيْسَ بِمُفْتٍ»، وقول الإمام مالك : «لَا يَنْبَغِي لِمَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ أَنْ يُفْتِيَ النَّاسَ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ أَهْلًا لِلْفُتْيَا، فَإِذَا رَآهُ النَّاسُ أَهْلًا لِلْفُتْيَا فَلْيُفْتِ».

وتابع الدكتور الجندي أننا نرى في الآونة الأخيرة طرحًا من الفتاوى يصطدم ببناء الإنسان، ويشعره بالخوف من الإسلام؛ إذْ فقد هؤلاء روح الشريعة فخرجت جافة ضامرة، تارة بالهجوم على العلماء والأئمة المجتهدين، وتارة برمي الناس بالتكفير والطرد من رحمة الله، وأمرهم بالتفجير واستباحة الدماء والأعراض، وصار المؤمن يُرمَى بالشرك، ويصنف مع الفرق الضالة، ويعرف مكانه في الجحيم؛ لأنه خالف هوى جاهل من أولئك الجهلة.

وبيَّن أنه لم يعِ أصحاب هذه الأبواق المتفيهقة أن أمر الفتوى في الإسلام جد خطير، ولا يستهان به، وسيسأل الله كل إنسان عمَّا قاله أو فعله، يقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا}، وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}.

وفي ختام كلمته، لفت الأمين العام إلى أنه يحضره في بيان جهالة المتفيهق المتطرف بثوابت الشرع ومراعاة الموازنة بينه وبين واقع الناس ما يبرزه من فقه عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه- حين تولى الخلافة، أنه أجَّل تطبيق بعض أحكام الشريعة، فلمَّا استعجله ابنه في ذلك أجابه بقوله: «أخاف أن أحمل الناس على الحق جملةً فيدفعوه جملةً، ويكون من ذا فتنة»، ومِن فقه الإمام القرافي قوله: «لا تجمد على المطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك، لا تخبره على عُرف بلدك، واسأله عن عُرف بلده، وأجره عليه، وأفته به، دون عُرف بلدك والمقرر في كتبك؛ فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدًا ضلال في الدِّين».

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: د محمد الجندي مجمع البحوث الاسلامية ندوة بناء الإنسان

إقرأ أيضاً:

هل يجوز إجبار الفتاة على زواج شخص معين وهل رفضها عقوق؟ أمين الفتوى يجيب

أوضح الشيخ محمود الطحان، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، أن إجبار الفتاة على الزواج من شخص لا ترغب فيه هو أمر غير جائز شرعًا، حتى وإن كان الأهل يرونه مناسبًا من وجهة نظرهم، مؤكدًا أن الفتاة لها كامل الحق في القبول أو الرفض، وأن رفضها لا يُعد عقوقًا.

هل السحر يمكن أن يؤدي إلى تعطيل الزواج؟.. أستاذ بالأزهر يجيبرئيس صندوق المأذونين : لا نعقد زواجًا مخالفًا للقانون .. الطبيب هو الحكم

وقال الشيخ الطحان، خلال تصريح تليفزيوني، اليوم السبت: "لا يجوز للأب أو الأم أن يُجبرا ابنتهما على الزواج من شخص لا تريده، حتى وإن كان أكبر منها أو يظنانه الأفضل، وقد ثبت في الحديث أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله، إن أبي زوّجني من ابن أخيه ليرفع به خسيسته، فجعل النبي الأمر إليها، فأقرّت الزواج لكنها قالت: أردت أن أعلم النساء أن للآباء ليس لهم من الأمر شيء. فهذا دليل واضح على أن الفتاة لا تُجبر على الزواج، وأن القرار بيدها".

وأشار إلى أن رفض الفتاة لهذا الزواج لا يجعلها عاقة، قائلًا: "مجرد رفض الزواج من شخص معين لا يُعد عقوقًا طالما تمّ بأدب واحترام، وليس في ذلك أي إثم. بل من حقها الكامل أن ترفض من لا ترى فيه شريكًا مناسبًا لحياتها".

وفيما يخص دعاء الأهل على أبنائهم، أكد الشيخ الطحان أنه لا يجوز شرعًا، وقال: "النبي صلى الله عليه وسلم نهانا عن الدعاء على الأبناء، حتى في لحظة الغضب. فإذا دعت الأم أو الأب على الابن أو البنت بغير وجه حق، فإن هذا الدعاء لا يُستجاب، لأن الله عز وجل لا يقبل الظلم. والدعاء الظالم مردود".

وأضاف: "إذا تلقت البنت دعاءً قاسيًا من والديها وهي مظلومة، فلا إثم عليها، بل الأفضل أن ترد الدعاء بدعاء خير، فتقول: اللهم اجعل هذا الأمر خيرًا لي واجعل فيه رضاك. وعليها أن تتمسك بحقها وأن تلجأ إلى الله سبحانه وتعالى".

طباعة شارك الزواج إجبار الفتاة على الزواج دار الإفتاء فتاوى المرأة زواج المرأة

مقالات مشابهة

  • أمين البحوث الإسلامية: الانحراف الفكري أول خطوات السقوط.. والعلم هو الحصن
  • هل التحدّث مع الله في السجود يُبطل الصلاة؟.. أمين الفتوى يجيب
  • أمين الفتوى: الوضوء داخل الحمام جائز شرعًا ولا حرج فيه
  • هل يجوز إجبار الفتاة على زواج شخص معين وهل رفضها عقوق؟ أمين الفتوى يجيب
  • شيخ الأزهر ينعى الدكتور رفعت العوضي عضو البحوث الإسلامية
  • أمين الفتوى يُوضح ما يجوز وما لا يجوز كشفه من أسرار
  • ما حكم من حج ولم يزر قبر النبي ﷺ .. أمين الفتوى يٌجيب
  • لماذا حرم الله الربا؟.. أمين الفتوى يجيب
  • حفظ الأسرار واجب شرعي وأخلاقي.. «أمين الفتوى» يوضح الحكم من إفشاء الأسرار الزوجية
  • طفل يسأل أمين الفتوى: لو حد ضحكني في الصلاة هل هتتحسب؟